ومع ذلك فالأمر في الأدب كالأمر في الطبيعة والطب، لا ينبغي أن يهمل طب ابن سينا وطبيعته؛ لأنهما يمثلان عصرا من عصور الحياة العلمية، فهما يدرسان على أنهما فصل من تاريخ الطب والطبيعة. ولا يهمل أدب المبرد والجاحظ؛ لأنهما يمثلان مظهرا من مظاهر الحياة الأدبية، فهما يدرسان على أنهما فصل من تاريخ الأدب. ولكننا نجدد الأدب درسا وإنشاء كما يجدد الطبيعيون والأطباء طبيعتهم وطبهم عملا ونظرا.
فما رأي الأستاذ الشيخ علام وأصحابه في هذا الكلام؟ أما أنا فواثق أنهم ينكرونه الإنكار كله ولا يطمئنون إليه. وهم مكرهون على هذا الإنكار؛ فلو قد قبلوا ما ندعو إليه لما استطاعوا أن يعيشوا؛ ذلك أنهم غير قادرين على التجديد، هم يؤثرون القديم، ومن القديم يعيشون. أما نحن فلا نؤثر القديم، ولا نؤثر الجديد؛ لأننا لسنا في حاجة إلى أحدهما لنعيش، وإنما نؤثرهما معا وندرسهما معا؛ لأننا لا نبغي إلا العلم، وإلا العلم خالصا من كل شيء. (2) خطرات نفس للدكتور منصور فهمي
كنت أتحدث منذ أشهر إلى عالم كبير من علماء الفرنسيين في مصر، وكان يشكو إلي أن أعماله الإدارية تستغرق أكثر وقته وتصرفه عن الدرس، بل عن متابعة الصحف والمجلات العلمية التي تعنيه؛ لأنها تتصل بالمادة التي يدرسها. قال: فإذا كان الشتاء، شغل العلماء في مصر عن علمهم بهذه الحياة الاجتماعية العتيقة المفعمة بالزيارة والاستقبال، والتي تلتهم آخر النهار وشطرا من الليل في أكثر أيام الأسبوع. فالعالم في مصر مضيع للوقت والجهد، يصرف وجه النهار في حياة يومية عادية هي قوام عيشه، وينفق آخر النهار في حياة اجتماعية خاملة هي قوام مركزه في الدائرة الاجتماعية التي يدور فيها، وهو إن فرط في تلك الحياة الإدارية مقصر يتعرض للوم واحتمال التبعات الثقيلة ، وإن قصر في هذه الحياة الاجتماعية أنكرته بيئته، وأعرض عنه نظراؤه، واتهم بالكبرياء والفتور والجفوة والإهمال. وكل هذه خصال لا يحب أن يتصف بها الرجل الذي يريد أن يعيش في مصر هادئا مطمئنا. فإذا فرغ العالم من حياته الإدارية والاجتماعية فقد انقضى النهار وتقدم الليل، وينظر فإذا هو أمام حقوق لأهله لم يؤد منها شيئا، وأما حقوق لنفسه لم يفكر فيها، ثم يقهره ضعف الجسم فيأوي إلى مضجعه يقضي فيه بقية الليل بين أرق مضن ونوم ثقيل، ثم يستقبل غده بمثل ما أنفق فيه أمسه. وعلى هذا النحو تمر الأيام والأسابيع والشهور، والعالم منصرف عن علمه منهمك فيما لا يجد فيه لذة ولا غناء.
قال صاحبي: وأستطيع أن أؤكد لك أني إذا خلوت إلى نفسي - وقلما أخلو إليها - وفكرت في ذاك، ضاقت بي الحياة، وضقت بها، واستيقنت أن حياة العلماء في مصر تضحية مؤلمة مستمرة. فالناس في بلادنا لا يثقلون العلماء بأعباء الزيارة والاستقبال، ولا يشقون عليهم بالدعوة إلى الشاي والعشاء، والسيدات لا يتخذن زينة يظهرنها في غرفات الاستقبال كلما خطر لهن أن يستقبلن أو في الحفلات الساهرة كلما خطر لهن أن يحتفلن.
ولو أن رجال السربون والكوليج دي فرانس اختلفوا إلى غرفات الاستقبال وشهدوا ما يقام في باريس من حفلات في الليل وأخرى في النهار، لما كانت السربون والكوليج دي فرانس عقل فرنسا المفكر وقلبها النابض الحساس.
قلت: ومع ذلك فقلما تخلو غرف الاستقبال الباريسية من عالم أو أديب يلتف حوله السيدات، فيلقين عليه أسئلة حلوة مريحة، ويسمعن منه أجوبة عذبة مرضية، فيها فكاهة لا تخلو من مرارة، وفيها جد لا يخلو من سخرية. وأحسب أن الفرق بين فرنسا ومصر إنما هو كثرة العلماء والأدباء في الأولى وقلتهم في الثانية؛ فعندكم من العلماء والأدباء من يفرغون للجامعة، ويعكفون في المعامل ودور الكتب، وعندكم من العلماء والأدباء من يشهدون المحافل، ويزينون المجالس، ويرضون حاجة السيدات إلى المفاخرة بمن يحضر يوم استقبالهم من رجال العلم والأدب والحرب والسياسة والقضاء . أما نحن فالمستنيرون عندنا قليل، فضلا عن العلماء والأدباء المتميزين. فليس عجيبا أن تشق الحياة على الظاهرين من علمائنا وأدبائنا، وأن تتخطفهم المجالس وتتنافس غرف الاستقبال أيها يزدان بأكبر عدد ممكن منهم.
قال صاحبي: ليكن مصدر ذلك ما تحب أن يكون، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن نتيجة ذلك ثقيلة مؤلمة. فلو قد رأيت ما يجتمع في مكتبي من الصحف والمجلات والرسائل والكتب التي تنتظر أن أقرأها لراعك الأمر. وجاءت سيدة ففرقت بين صاحبي وبيني بابتسامة عذبة ومزاح ظريف.
كنت أفكر في هذا الحديث منذ أيام حين كنت أستعد للسفر، وحين كان صاحبي يسألني عما أريد أن أصطحب من كتب، فتأخذني حيرة لا أكاد أصفها ولا أصورها.
فقد انقضى العام ولم أقرأ شيئا. هذه كتب قديمة طبعت واستخرجت من دور الكتب في الشرق والغرب، ومن الحق علي لنفسي أن أقرأها أو أنظر فيها، وقد كنت أتحرق شوقا إليها قبل أن تقدمها إلى المطبعة وتجعلها يسيرة قريبة المنال. وهذه مقالات نشرها العلماء المستشرقون في مجلاتهم المختلفة، ومن الحق علي أن أقرأها أو ألم بها، لأعرف ما يقول الزملاء فيما أفرغ لدرسه من العلم. وهذه مقالات نشرها الأدباء المعاصرون في مصر، وحفظها صاحبي لأقرأها متى أتيح لي الوقت، فمن الحق علي أن أعرف ما يقول المعاصرون من المصريين والشرقيين لأعيش على بصيرة وفهم للعصر الذي أحيا فيه. وهذه كتب ألفها فلان وفلان من الأصدقاء أو من الأدباء المتميزين، ومن الحق علي لنفسي ولهؤلاء الأدباء أن أقرأ ما يكتبون لأحيا على أقل تقدير حياة الرجل المثقف الذي يلم بما يظهر حوله من فكرة أو رأي أو مذهب. كل هذا مجتمع في مكتبي وصاحبي يسألني عما أحب أن أحمل منه إلى أوروبا. ومهما تكن رغبتي في القراءة شديدة أثناء هذه الرحلة فأنا أحب أن أقرأ ما سأجده في أوروبا من كتب وصحف. وأنا لا أذهب لأوروبا للقراءة وحدها، وإنما أريد أن أستريح وأن أرفه على النفس، أطوف في الأرض وأشهد الملاعب وأسمع للموسيقى والغناء ، فالطاقة محدودة، والوقت محدود، وهذه زوجتي تلفتني إلى أن الحقائب محدودة أيضا، وإلى أنها لم تصنع لتفعم بالكتب، وإنما صنعت لتوضع فيها الثياب، وما يحتاج إليه المسافر من أدوات ليس إلى الاستغناء عنها من سبيل. وهي تحدد ما أستطيع حمله من كتب على أن يوضع بعضه في هذه وبعضه في تلك، ويحمل صاحبي بعضه الآخر فيضعه في حقيبته. وأنا أضيق بهذا كله فأكره الإقامة والسفر وأمقت الجد والكسل، ثم أخرج عن طوري فأفرض كتبا لا بد من حملها مهما يكن من شيء، وأترك لزوجي وصاحبي أن يتخيرا بعد ذلك ما يشاءان وما تتسع له حقائبهما من هذه الكتب المكدسة.
وقد وصلت الآن إلى فينا، واستقر بي المقام فيها أنتظر مؤتمر المستشرقين، وأنا أسأل صاحبي: ماذا حملت من كتب المعاصرين؟ فيجيب مبتسما: لقد حملت ما تحب أن تقرأ؛ حملت كتاب التراجم لهيكل، وحملت كتاب البهاء زهير لمصطفى عبد الرازق، وحملت كتاب خطرات نفس لمنصور فهمي. لقد وفقت إلى حسن الاختيار، ولكن ألم تحمل مصرع كليوباترة لشوقي؟ قال صاحبي دهشا: ولم أحمله وقد قرأته في الصيف الماضي؟ وأنكرت من صاحبي إهمال هذا الكتاب، فقد كنت أحب أن أعيد النظر فيه، فأنكرت جوابه، فقد كنت أحب أن أتحدث عن هذا الكتاب إلى الناس، ولكن لا بد مما ليس منه بد. فلأقرأ ما بين يدي، ولأبدأ بآخر هذه الكتب ظهورا وهو خطرات نفس. ولست حديث عهد بهذا الكتاب، فقد تبعته منذ نشأته الأولى وسايرته نحو خمس عشرة سنة حين كانت فصوله المختلفة تنشر في الصحف شيئا فشيئا، فأرى بعضها قبل أن يظهر، وأرى بعضها مع غيري من القراء. وكنت من الذين طلبوا إلى منصور أن يجمع هذه الفصول في سفر مستقل كما نفعل جميعا حين نؤلف من فصولنا التي تنشرها الصحف أسفارا نجمع متفرقها، ونسهل على الناس قراءتها والرجوع إليها. وإذا كان صديقنا منصور حريصا على أن يجمع خطرات نفسه لأنها تمثل صباه وشبابه، وهو يحب أن يرجع إلى ماضي حياته ليحب ما فيه من ذكرى، فإن أصدقاءه يحرصون على مثل ما يحرص عليه؛ لأنهم يحبون أن تجتمع لديهم حياة صديقهم في صباه وشبابه وكهولته، فيقفوا عند هذه الحياة وقفات فيها حب ومودة ووفاء. وربما كان فيها عتب وخصومة واختلاف في الرأي، فمهما يكن الكاتب مستقلا، قوي النفس، عظيم الشخصية، فهو متصل ببيئته، متصل بمعاصريه، يلائمهم أحيانا فيرضون وينافرهم أحيانا أخرى فينكرون. وكذلك حياة الأديب في كل بيئة وفي كل جيل: هو مخدوع، يحسب أنه يكتب لنفسه لأنه يحس من العواطف والأهواء ما لا يجد بدا من إعلانه، فهو يرفه على نفسه حين يكتب أو ينظم الشعر، ولكنه في حقيقة الأمر يكتب للناس، ذلك بأنه كائن اجتماعي محتاج إلى أن يعطي الناس، ويأخذ منهم، فهو لا يستطيع أن يكتفي بما يحس في نفسه، بل لا بد له من أن يشرك الناس فيما يحس.
Shafi da ba'a sani ba