هذه خلاصة حياة القسيس في قرى أوروبا ومدنها، فأين منها حياة رجال الدين في الشرق الإسلامي؟ ومن هنا انتهت أوروبا إلى ما انتهت إليه من الإلحاد والكفر ورفض الدين، ولكنها لم تستطع - ولن تستطيع - أن تخلص من القسيسين؛ ذلك لأن القسيسين يتطورون مع أوروبا، ويحتالون في ألا تفوتهم الجماعات أو تفلت من أيديهم، ويسلكون السبل المختلفة ليصلوا إلى قلوب الناس من طريق الدين إن كانوا مؤمنين، ومن طريق العلم إن كانوا علماء، ومن طريق الفن إن كانوا فنيين، ومن طريق الخير إن كان شيء من هذا لا يعنيهم. ومن هنا كان القسيس في أوروبا جزءا غير منفصل من الجماعات، لا يستغني عن الجماعة، ولا تستغني الجماعة عنه. ومن هنا انفصلت الكنيسة عن الدولة في فرنسا - مثلا - وانقطعت معونة الدولة للكنيسة، فما انهارت الكنيسة، ولا افتقر رجالها، وإنما أدى الناس إلى الكنيسة ورجالها أضعاف ما كانت تؤديه إليهم الدولة. وهذه مدارس الكنيسة في فرنسا تزاحم مدارس الدولة فتزحمها، فأين رجال الدين في الشرق الإسلامي من رجال الدين في الغرب المسيحي؟ وماذا يرى الأستاذ الزنكلوني والأستاذ أبو العيون وأصحابهما في هذا كله؟ وأيهما أجدى وأليق بالكرامة؟ أن يعمل رجال الدين حتى يكرهوا الدولة والأمة على أن يشعروا بالحاجة إليهم، أم لا يعملوا وإنما يلحون في الطلب، ويبالغون في الإلحاح، ويحرصون على أن يتدخلوا في كل شيء دون أن يشعر الناس بنفعهم حين يتدخلون في كل شيء؟ أما إني أتمنى على الأساتذة علماء الدين أن يفكروا في هذا ويطيلوا التفكير فيه، فقد يجدون فيه عظة وعبرة. ثم لا أخفي عليهم أني معجب بهذا القسيس الذي سمعته يدعو الأطفال إلى الخيل، وأتمنى أن أجد بين شيوخنا من يستطيع في يوم من الأيام أن يدعو الأطفال إلى الخيل دون أن يجد من جبته وعمامته ما يصرفه عن ذلك أو يزهده فيه.
البوليجين في 21 أغسطس سنة 1924 (4) باريس
أريد أن أكتب عن باريس، ولكني لا أدري ماذا أقول عن باريس، لا لأن الكلام يعوزني، ولا لأن الخواطر تنقصني، بل لأن لدي خواطر لا أستطيع أن أحصيها، ولا أن أنظمها، ولأن لدي كلاما لا أستطيع أن يؤثر بعضه على بعض، فما أكثر ما أريد أن أقول، وما أشد عجزي عن تسطير ما أريد أن أقول! وماذا تريد أن أفعل ولست من الفن ورقة القلب بحيث كان الكاتب الفرنسي «رينان» الذي زار عاصمة العالم القديم فقدم إلى آلهتها هذه الآية الفنية الخالدة التي هي صلاته إلى آلهة الحكمة في أتينا؟ ماذا تريد أن أفعل وليس لي حظ «رينان » من الفن ، ولا من رقة القلب، وقد حرمني الله كل خيال أو قدرة على التصرف في الخيال، ومع ذلك ففي باريس آلهة يستحقون أن يتقدم إليهم الإنسان بالصلاة كما تقدم «رينان» إلى آلهة الحكمة في مدينة أتينا؟
في باريس علم لا يقاس إليه علم الأتينيين، وفي باريس فلسفة لا تقاس إليها فلسفة الأتينيين، وفي باريس حرية لا تذكر معها حرية الأتينيين، وفي باريس حضارة تهينها إن قرنت إليها حضارة الأتينيين، وفي باريس حياة يعجز الفرد مهما تكن قوته عن فهمها والإحاطة بها، والتعمق في تحليلها، ثم يعجز الفرد مهما تكن قوته عن أن يعطيك منها صورة صحيحة أو مقاربة. ليس بين أتينا وباريس إلا شبه واحد، وهو أن أتينا كانت عاصمة العالم القديم، وأن باريس عاصمة العالم الحديث. فإذا قررنا هذا الشبه فيجب أن نقرر ما بين المدينتين من فرق، وهو عظيم أعظم من أن نتصوره، هو الفرق بين العالم القديم والعالم الحديث.
أنا مفتون بأتينا وفلسفتها وفلاسفتها وحريتها وزعمائها، ولكني على هذه الفتنة لا أستطيع أن أقيس أتينا إلى باريس.
علم الأتينيين وفلسفتهم، ماذا كانا بالقياس إلى ما في باريس من علم وفلسفة؟ كانا محاولة ساذجة غليظة فيها ضعف الأطفال وغرورهم لفهم الحياة وتفسيرها. حرية الأتينيين، ماذا كانت بالقياس إلى الحرية في باريس؟ كانت نوعا من الامتياز لطائفة من الناس وضربا من التسلط والاحتكار انتهى بمصادرة حرية الرأي وبالحكم على سقراط بالموت. أما باريس فيكفي أن تصل إليها، وأن تعيش فيها يوما أو بعض يوم لتشعر بما لها من عظمة وجلال وحق في الخلود. لست في حاجة إلى أن تفهم، ولست في حاجة إلى أن تحلل، ولست في حاجة إلى أن تكون عالما أو أديبا لتكبر باريس أو تقدر مكانتها في الحياة الحديثة، وإنما يكفي أن تكون قادرا على أن ترى، وقادرا على أن تسمع، وقادرا على أن تتنسم الهواء، وأنا زعيم لك بأنك ستقدر باريس وتكبرها وتحبها.
ليس لي حظ «رينان» في الفن لأقدم إلى باريس الخالدة مثل ما قدم هو إلى أتينا الخالدة، وليس لي حظ هذا الصديق المسافر الذي يرسل مذكراته إلى «السياسة» من حين إلى حين والذي أحسبه عاد الآن إلى مصر، أقول ليس لي حظ من حلاوة الفكاهة ودقة الملاحظة وخفة الروح وسلامة الذوق لأحدثك عن باريس بشيء يشبه ما حدثك به عنها، وإنما أنا بعيد كل البعد عن هذه الخصال التي امتاز بها هذا الصديق، فجعلت فصوله ومقالاته حلوة عذبة، أو جعلتها الحلاوة والعذوبة نفسهما. ولكن لي وجها خاصا في حب باريس والإعجاب بها والحياة فيها. وأحسب أن لكل إنسان يحب باريس وجها خاصا في حبه لهذه المدينة، فأنت لا تستطيع أن تحبها من كل وجه؛ لأنها أوسع من حياتك وأعظم من قدرتك على الحب، وأرفع وأجل من أن يحيط بها فرد أو أفراد. أما حين كنت مقيما في الجبل أخرج من حين إلى حين للرياضة فأزور القرى وأتبين ما فيها من جمال طبيعي أو إنساني، فقد كنت لا أصل إلى قرية أو محلة إلا حاولت أن أشرب من مائها، وكان يخيل إلي أني متى ذقت هذا الماء الذي ينحدر إلى هذه القرية أو المحلة، ويعيش منه أهلها فقد اتصلت نفسي بهذه القرية أو المحلة، وشاركت أهلها في شيء من الأشياء. كذلك كنت وأحسبني سأكون أبدا لا أبلغ مكانا إلا حاولت أن تكون بيني وبينه صلة قوية أو ضعيفة. أما إذا بلغت باريس فلست أطمع في أن أشرب من مائها لأوجد الصلة بيني وبين أهلها، وإنما أطمع في أشياء أخرى بها توجد هذه الصلة. ولا أعتقد أني في باريس حقا إلا إذا أرضيت نفسي من هذه الأشياء، يجب أن أشتري كتابا في العلم أو في الأدب، وأن أقرأ منه فصلا أو فصولا، ويجب أن أذهب إلى ملعب من ملاعب التمثيل الهازل أو الجاد، وأن أصفق مع المصفقين، وأضحك مع الضاحكين، أو أبكي مع الباكين. ثم يجب أن أذهب إلى مكان من هذه الأمكنة التي يختلف فيها الباريسيون إلى آيات الموسيقى فأستمع لهذا اللحن البديع، وأنسى أمامه نفسي ساعة أو ساعتين. فإذا اشتريت كتابا وقرأت، وإذا ذهبت إلى ملعب التمثيل وتأثرت، وإذا سمعت الموسيقى وذهلت لها، فأنا في باريس حقا، أشعر بما يشعر به الباريسيون، وقد وجدت بيني وبينهم هذه الصلة التي أحب أن توجد بيني وبين كل مدينة أو قرية أزورها.
ولغيري وجوه أخرى في حب باريس. هناك من يحب باريس لما يجد فيها من هذه الحركة العنيفة، حركة الحياة العملية، وهناك من يحب باريس لأن فيها «مونمارتر»، وهناك من يحب باريس لأن فيها للفرد حرية لا تعدلها حرية، وضروبا من اللذات منها المباح ومنها المنكر، منها ما يستطيع الإنسان أن يعلنه إلى الناس جميعا، ومنها ما يحب الإنسان أن يخفيه حتى على نفسه. وهناك وجوه أخرى لا يكاد يبلغها الإحصاء، ولكنها كلها تنتهي إلى نتيجة واحدة وهي أن شعوب الأرض جميعا قد تحب فرنسا وقد تكرهها، وقد تكون سلما لها أو حربا عليها، ولكنها كلها مجمعة على حب باريس وإيثار الإقامة فيها حينا من الدهر أو شطرا من العمر.
ولقد قرأت منذ أسابيع فصلا نقلته جريدة «الطان» عن إحدى الصحف الأمريكية الكبرى، حاول فيه كاتبه أن يتقصى الأسباب التي تحمل الناس جميعا على أن يحبوا فرنسا ويؤثروا الإقامة فيها وفي باريس خاصة، فأعجبني هذا الفصل؛ لأنه لا يخلو من صواب ولا من طرافة، ولكنه بعيد كل البعد عن أن يحيط بأطراف المسألة حقا. يظهر أن الأميركيين يحبون فرنسا عامة وباريس خاصة؛ لأن فيها سهولة العيش ولين الحياة، وضروبا من اللذة لا يجدونها في بلادهم، أهمها لذة الطعام والشراب. فيظهر أن الله لم يرزق بلدا من البلاد من المهارة في إجادة الطعام ما رزق فرنسا، ويظهر أنه لم يرزق بلدا من البلاد من جودة الأشربة ما رزق فرنسا، فكثير من الأجانب الذين يهرعون إلى فرنسا في جميع أجزاء السنة إنما يهرعون إليها لأنهم يأكلون فيها فيجدون الأكل، ويشربون فيها فيجدون الشراب. وكثير منهم يهرعون إلى فرنسا وإلى باريس خاصة لأنهم يجدون في الشعب الفرنسي والباريسي لينا في الخلق، وصفاء في الطبع، ورفقا في المعاملة، وحلاوة في الصلات لا يجدونها في بلد آخر. وكثير منهم يهرعون إلى فرنسا وإلى باريس لأنهم يجدون في فرنسا وفي باريس شيئا من الفرح والابتهاج والابتسام للحياة مهما تكن صروفها، ومهما تكن خطوبها، لا يجدونه في غير فرنسا وفي غير باريس. وهناك أسباب أخرى ذكرها هذا الكاتب وأسباب لم يذكرها. وماذا يعنينا أن نوفق إلى إحصاء الأسباب التي تحجب فرنسا إلى الناس وتحملهم على أن يهرعوا إلى باريس كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا؟ ماذا يعنينا من هذا كله ونحن لا نكتب تاريخا ولا فلسفة، وإنما نلاحظ حقيقة لا تحتمل شكا ولا إنكارا: وهي أن الناس جميعا مهما تختلف أهواؤهم بالقياس إلى فرنسا فهم يحبونها ويحبون منها باريس بنوع خاص.
لست كهذا العالم المصري الذي كان يحب باريس، وكان إذا وصل إليها تمرغ على أرضها كما كان يتمرغ قيس بن ذريح على آثار لبنى! لست كهذا العالم. فما حدثتني نفسي في يوم من الأيام أن أهوي إلى أرض باريس لثما وتقبيلا، بل إن في باريس لأماكن كثيرة يعرفها المصريون الذين اختلفوا إلى هذه المدينة ولا أعرفها ولم تحدثني نفسي بأن أعرفها. وإن في باريس لأماكن كثيرة أكرهها وأمقت الاختلاف إليها، ولكني أعشق في باريس مكانا أعتقد أنه أقدس مكان في العالم الحديث، وأنه الرأس المفكر لهذا العالم، لا أستثني منه بلدا ولا مكانا، وهو الحي اللاتيني. أنا أعشق هذا الحي وأهيم به هياما، وأعلن في ضعف وتواضع أني لا أكاد أحس نفسي فيه ولا أكاد أشعر بأني أمشي في شوارعه حتى أشعر أن قد تجدد شبابي واستأنفت كل ما فقدت من نشاط، فأنا أتنفس في حرية، وأفكر في حرية، وأتحرك في حرية، وأنا أحب الحياة وأحرص عليها، وأتمنى منها المزيد. وأقول إن هذا الحي اللاتيني هو أقدس مكان في العالم الحديث وهو الرأس المفكر لهذا العالم، ولست أقول هذا عبثا، ولا يدفعني إليه الحب والإعجاب، وإنما هو الحق الذي لا يقبل شكا ولا جدالا. وإني لأشعر بشيء من المهابة والإجلال لا أستطيع وصفه كلما ذهبت إلى هذه الرقعة من الأرض التي يقوم فيها «البنطيون»، وترتفع فيها كنيسة «سانت جنفييف». أشعر بهذه المهابة وهذا الإجلال لأن هذه الرقعة الصغيرة من الأرض كانت مصدر النور الذي انبعث في أوروبا المظلمة أثناء القرون الوسطى قبل أن تظهر النهضة في إيطاليا؛ لأن هذه الرقعة كانت مهد الفلسفة ومأواها حين لم تكن فرنسا كلها ولا أوروبا كلها إلا ميدانا تصطرع فيه المطامع والمنافع أقبح صراع وأشنعه. كانت هذه الرقعة من باريس مصدر الحياة العقلية لأوروبا كلها في القرون الوسطى. ولقد تغير الزمان ودارت الأيام دوراتها المختلفة وعبثت الخطوب والأهوال بالعالم الحديث، وظل هذا المكان من باريس مصدر الحياة العقلية للعالم كله، أليست تقوم فيه جامعة «السربون»؟ أليست تقوم فيه «الكوليج دي فرانس»؟ ولقد أحب أن أجد مهدا علميا في أوروبا أو أمريكا أقرنه إلى «السربون»، وإلى «الكوليج دي فرانس»، وأحصي له من الآثار في إحياء العقل الإنساني وترقيته ما يقرب من آثار «السربون» و«الكوليج دي فرانس»، فيعييني البحث ويخطئني ما أريد.
Shafi da ba'a sani ba