لما فتحت عينيها وقعتا على منقذها فقالت له: «كنت أحبك يا صادق حب الحليلة لحليلها، أما اليوم فإني أحبك كما يجب أن أحب من أنا مدينة له بالشرف والحياة.»
لم يجاور قلب بشري تأثر أبعد من التأثر الذي جاور قلب سمير، ولم ينطق فم ساحر بعاطفة وحنو أكيدين أخلص مما نطق به فم هذه المخلوقة في تلك العبارات النارية المتأججة، التي تلهمها عاطفة تنتسب إلى أجل فضل وأنبل معروف، ويوحيها أرق هيجان لأحق هوى.
كان جرحها طفيفا لا يدعو إلى قلق، أما جرح «صادق» فكان بالغا؛ إذ أصيب بسهم في محجره لم يسلم منه.
لم تسأل «سمير» الآلهة إلا أن تمنحها شفاء حبيبها، وكانت عيناها منطلقتين في الدموع صباح مساء، وهي ترقب الحين الذي يتاح فيه لمقلتي صادق أن تتمتعا بالنظر إلى مقلتيها، إلا أن قروحا فاجأت العين المجروحة، فأشاعت الخوف في كل خلجة من خلجات سمير.
جيء من «منفيس» بالطبيب الأكبر «هرمس»، ومعه موكب عظيم من حاشيته، فصرح بعد الفحص أن المريض لن يسلم من فقد عينه، حتى إنه تدلف في حكمه إلى التنبؤ عن اليوم وعن الساعة اللذين سيحل فيهما ذلك المصاب الجلل، وقد خلص في كلامه إلى القول: «لو كان الجرح في المقلة اليمنى لما صعب علي شفاؤه، أما وهو في المقلة اليسرى فلن يشفى.»
لم تجد بابل مندوحة عن النزاع في أمرها على احترام معارف «هرمس»، في حين أنها كانت تشترك في التأسف على ما أحاط القدر بصادق من ألوان التعاسة ، وما هي إلا ثمان وأربعون ساعة حتى زالت القروح من نفسها وتم لصادق الشفاء، فوضع «هرمس» كتابا بين فيه أن صادقا وإن شفي إلا أنه كان عليه ألا يشفى.
أما صادق فلم يحفل بالكتاب ولم يقرأه، ولكنه لما وطئ له الخروج من بيته شرع في إعداد العدة لزيارة تلك التي كانت رجاءه الوحيد في سعادة عيشه، والتي من أجلها وحدها كان يشتهي أن يكون له عينان.
كانت سمير في خلال ذلك قد أنتجت قرية في خارج المدينة لتصرف من الأيام ثلاثة، فانتهى لصادق وهو في الطريق أن تلك المرأة الجميلة، بعد أن أعلنت أنها لا ترى في العور إلا بشاعة كبيرة، قد زفت إلى «أركان» في الليلة نفسها التي اختلط فيها النور على صادق، فقطع به لدى هذا الخبر المشئوم، وأسقط في يده حتى كاد الحزن يفقده الحياة.
بقي مدة طويلة يتقلب على فراش المرض إلى أن تمنع العقل من حزنه بالحصن القوي، وإلى أن أمكنته فظاعة ما اختبر من الوصول إلى مواطن العزاء، فقال: «بما أني نفضت عن نفسي هوى قاسيا صرمته فتاة تقلبت في طرف البلاط أعطافها، فيجب علي أن أتزوج من ابنة وطنية.»
واختار حليلة له «عذراء»، وهي ابنة أكرم من في المدينة نشأة، وأوفر بنات جنسها حكمة، فتزوجها وعاش معها شهرا كاملا تمتع فيه بعذوبة الاتحاد وحنانه، إلا أنه كان يشتم فيها ميلا خفيفا إلى الطيش ورغبة شديدة في أن تجد دائما أن أكرم الشباب نشأة هو من توفرت فيه أسباب الفضيلة والرشد.
Shafi da ba'a sani ba