Mutuwar Ma'aikacin Ministan da ya shude
موت معالي الوزير سابقا
Nau'ikan
ورنت كلمة «غبي» كقطعة حجر تلقى في بحر من الصمت الرهيب أحدث وقعها صوتا كارتطام قطعة حجر بالماء، أو ارتطام يد بشيء صلب أشبه ما تكون بالصفعة، أو صفقة يد فوق يد.
هل صفق أحد؟ وأرهفت أذنيها تتسمع الصوت، أكان صفقة؟ أم ضحكة سريعة على شكل قهقهة؟ ثم دب الصمت الرهيب مرة أخرى في قاعة المحكمة، صوت طويل سمعت فيه دقات قلبها، وظلت أذناها تحتفظان بصوت الضحكة أو الصفقة، وتساءلت بينها وبين نفسها من ذا الذي يمكن أن يصفق في تلك اللحظة الخطيرة حين توصف الذات العليا بالغباء، وبصوت عال؟
جسدها لا زال ملتصقا بالمقعد الخشبي تشبثا به، يخشى أن يسحب من تحته فجأة، والجرح لا زال أسفل بطنها ينزف، إلا أنها استطاعت أن تحرك رأسها وعيناها نصف المفتوحتين تبحثان عن مصدر الصفقة. اكتشفت فجأة أن القاعة مليئة برءوس متلاصقة على شكل صفوف رءوس آدمية كلها لا شك. بعض الرءوس تبدو كثيفة الشعر كأنما لنساء أو بنات بعض رءوس صغيرة كأنما رءوس أطفال. وهذا رأس يشبه رأس أختها الصغيرة، وانتفض جسدها لحظة فوق المقعد وعيناها تفتشان: هل أتت وحدها أم معها أبي وأمي؟ وهل يرونني الآن؟ وكيف أبدو؟ هل يمكن أن يتعرفوا على وجهي؟ على جسمي؟
حركت رأسها وعيناها تبحثان، بصرها أصبح ضعيفا لكنها تستطيع أن ترى أمها مهما ضعف بصرها، تستطيع أن تلتقط وجهها من بين الآلاف وهي مغمضة العينين. أيمكن أن تكون أمها موجودة في هذه القاعة؟ دقات قلبها أصبحت مسموعة، والهواجس تهز جسدها من الداخل. كثيرا ما انتابتها الهواجس، وأحست أن شيئا فظيعا حدث لأمها. ذات ليلة هاجمها الخوف وهي متكورة كحيوان صغير حول نفسها، وقالت لنفسها: لا بد أنها ماتت ولن أراها حين أخرج. لكنها في اليوم التالي رأتها، جاءت إليها في الزيارة، جاءت بكامل جسمها وكامل صحتها وفرحت، وقالت لها: لا تموتي يا أمي حتى أخرج وأعوضك عن الألم الذي سببته لك.
الصوت أصبح الآن واضحا في أذنيها، إنه ليس صفقة واحدة بل صفقات متتالية، والرءوس في القاعة تتحرك بغير نظام. القاضي لا زال جالسا برأسه الأملس تحت الحذاء، والمطرقة في يده أصبحت تهتز بعصبية وتدق على المائدة الخشبية دقات سريعة، لكن الصفقات لم تنقطع، وهب القاضي واقفا فأصبح رأسه عند منتصف بطن الصورة، وارتعشت شفته السفلى وهو يزمجر بكلمات لم تستطع أن تسمعها من شدة الضوضاء.
ثم دب الصمت فترة من الزمن، وهي لا تزال تحاول الرؤية، يداها تمتدان على جانبيها وتمسكان بالمقعد، تتشبثان به، تمسكان وتضغطان عليه، كأنما تريد أن تتأكد من حقيقة وجوده تحتها أو وجودها فوقه، وأنها لا تزال جالسة. رأتها يقظة وليست نائمة ومغمضة العينين. كانت حين تفتح عينيها ويختفي الوحش تفرح؛ لأنه لم يكن إلا حلما، لكنها لم تعد قادرة على الفرح، وأصبحت تخشى أن تفتح عينيها.
الأصوات في القاعة هدأت والرءوس لا زالت تتحرك كما كانت إلا رأس واحد، ليس أملس ولا أحمر، وإنما كثافة من الشعر الأبيض، كثافة ثابتة لا تتحرك، والعينان لا تتحركان، مفتوحتان جافتان وشاخصتان فوق ذلك الجسد الصغير المكوم فوق المقعد الخشبي. يداها مضمومتان فوق صدرها، وقلبها تحت يديها يدق بسرعة، وأنفاسها تلهث كأنما جرت حتى آخر الشوط ولم تعد قادرة على التنفس. صوتها متقطع وهي تقول لنفسها: يا إلهي، إن عينيها تتحركان نحوي لكنها لا تراني، ماذا فعلوا بعينيها؟ أم هي تقاوم النوم؟ يا إله الأرض والسموات السبع كيف تركتهم يفعلون بها كل ذلك؟ وكيف تحملت يا ابنتي كل هذا الألم؟ وكيف تحملت معك؟ لكني كنت أحس دائما أنك قادرة يا ابنتي على أي شيء، وإن كان تحريك الجبال أو تفتيت الصخر. رغم أن جسمك صغير وضعيف مثل جسمي لكنك حين كنت ترفسين بقدمك الصغيرة جدار بطني أقول لنفسي: يا إلهي أي قوة وجبروت داخل جسمي؟ كنت جبارة من حركتك وأنت لا تزالين جنينا، ترجيني من داخل كما يرج البركان الأرض، ومع ذلك كنت أعرف أن حجمك صغير كحجمي، وعظامك رقيقة كعظام أبيك، وقامتك طويلة نحيلة كجدتك، وقدماك كبيرتان كأقدام الأنبياء. وحين ولدتك قالت جدتك وهي تمصص شفتيها حسرة: بنت وقبيحة! يا للمصيبتين! وشددت عضلات بطني لأغلق الرحم على الألم والدم، وقلت لها وأنا أتنفس بصعوبة (كانت ولادتك صعبة وكنت مرهقة كأني ولدت جبلا): هي أغلى عندي من الدنيا، وضممتك إلى صدري ونمت نوما عميقا، أيمكن يا ابنتي أن أحظى مرة أخرى بلحظة نوم عميق وأنت داخل صدري، أو على الأقل: وأنت إلى جواري أمد يدي فألمسك؟ أم وأنت في حجرتك المجاورة لي، أنهض على أطراف أصابعي لأطل عليك وأنت نائمة؟ كان الغطاء يسقط دائما من فوق جسمك وأنت نائمة فأرفعه وأغطيك، هاجس بالليل كان يوقظني كل ليلة لأنهض على أطراف أصابعي وأذهب إلى حجرتك. أي هاجس وفي أي لحظة؟ أهي اللحظة التي كان الغطاء يسقط فيها عن جسمك؟ ولكني كنت قادرة دائما على أن أحس بك، حتى وإن سافرت وإن اختفيت عن عيني، وإن أخفوك تحت الأرض، تحت سابع أرض، وإن أحكموا حولك الجدران والطوب والحديد، كنت - ولا أزال - قادرة على أن أحس لفحة الهواء على جسدك وكأنما على جسدي. تحيرت أحيانا هل ولدتك أم لا تزالين داخل بطني، وإلا فكيف أحس الهواء إذا ضربك، والجوع إذا قرصك، وألمك هو ألمي، كالنار اللاسعة في صدري وبطني. يا إله الأرض والسماوات السبع، كيف تحمل جسمك وجسمي؟ لكني ما كنت أتحمل لولا الفرح بأنك ابنتي وأنني ولدتك، وأنك قادرة على أن ترفعي رأسك عاليا فوق جبال الوسخ ، ثلاث آلاف وخمس وعشرون ساعة (عددتها ساعة ساعة) تركوك مع القيء والصديد والجرح في بطنك ينزف. أذكر عينيك حين قلت لي - والأسلاك بيننا: لو كان النزيف دما أحمر، لكنه ليس أحمر، إنه أبيض، وله رائحة مثل الموت، ماذا قلت لك يومها؟ لا أعرف، لكني قلت أي شيء، قلت إن الرائحة تصبح عادية حين نألفها ونعيش معها، ولم أستطع أن أرفع عيني إلى وجهك الشاحب لكني سمعت صوتك وأنت تقولين: إنها ليست رائحة يا أمي ككل الروائح تدخل الأنف أو الفم، ولكنها شيء كالهواء السائل، أو كالبخار الذي تحول إلى ماء لزج، أو كالحديد الذي انصهر وسال ودخل جميع فتحات الجسم، ولا أعرف يا أمي إن كان ساخنا ملتهبا أو باردا كالثلج. وضغطت بيدي على صدري، وشددت على يدك الناحلة من خلال الأسلاك وأنا أقول لك: حين يصبح الساخن كالبارد يا ابنتي فكل شيء محتمل، لكني ما إن تركتك حتى أحسست قلبي يتمدد ويتمدد حتى ملأ صدري، وضغط على رئتي ولم أعد قادرة على التنفس، كالاختناق أصابني فمددت أنفي نحو السماء لأشد الهواء إلى صدري. لكن السماء ذلك اليوم خلت من الهواء، والشمس مصبوبة فوق رأسي كنار جهنم، وعيون الحراس تلسعني، وأصواتهم البذيئة لا تزال في جوفي كالبصقات المتراكمة. آه، لو تحولت الأرض إلى وجه رجل منهم لبصقت عليه، وبصقت وبصقت حتى يجف حلقي وصدري، نعم يا ابنتي، شدي عضلات ظهرك وارفعي رأسك وحركيه نحوي فأنا جالسة بالقرب منك، وقد سمعتهم وهم يصفقون لك، فهل سمعتهم؟ ورأيتك تحركين رأسك نحونا فهل رأيتنا أنا وأباك وأختك الصغيرة وكلنا صفقنا معهم؟ هل رأيتنا؟
عيناها كانتا لا تزالان تشقان الضباب الكثيف، والقاضي كان لا يزال واقفا برأسه الأملس الأحمر، وشفته السفلى ترتعش بكلمات سريعة، وعن يمينه وعن يساره رأت الرءوس الملساء الحمراء التي أصبحت تتحرك مبتعدة عن تلك المائدة المرتفعة، واختفى رأس القاضي واختفت معها الرءوس الملساء. إلا أن الصورة فوق الجدار لا زالت كما كانت، والوجه داخلها لا زال هو الوجه، والعينان هما العينان. لكن عينا منهما تبدو لها الآن أصغر من العين الأخرى، كأنما هي نصف مغمضة، أو كأنما هي تغمز لها، تلك الحركة المألوفة حين يغمز رجل لامرأة ليغازلها. انتفض جسدها بدهشة كالرعب: أيمكن أن يغمز لها؟ وهل يمكن أن تتحرك عيناه داخل الصورة؟ وهل يتحرك الجماد؟ أم أنها مريضة وتهذي؟ وتحسست المقعد تحتها ببطن كفيها، وارتفعت يداها تتحسس جسمها، سخونة ما شديدة تنبعث من جسمها كنار تلسع، وشيء كالحريق داخل صدري، وهي تريد أن تفتح فمها وتقول: كوب ماء. لكن شفتيها ملتصقتان كشفة واحدة، كخط أفقي مشدود كالسلك، وعيناها أيضا مشدودتان نحو الصورة، والعين داخل الصورة لا زالت تغمز لها، لماذا يغمز لها؟ هل يغازلها؟ أم يبعث إليها بتحية؟ لم تكن تعرف أن الغمز نوع من التحية إلا حينما رأت - منذ عامين - طابورا من السياح الأجانب سائرا في الشارع. كانت في طريقها إلى الجامعة، وكلما كانت تنظر في وجه الرجل منهم أو المرأة إذا بالعين تغمز لها بتلك الحركة الغريبة. ودهشت إلى حد الخوف ولم تعرف كيف يمكن للنساء أيضا أن يغازلنها بذلك الغمز الغريب، إلا أنها عرفت فيما بعد أن هذه هي طريقة الأمريكيين في التحية.
المنصة التالية لا تزال خالية من القاضي والرءوس الملساء من حوله، والصمت لا زال ممتدا، والرءوس في القاعة لا تزال متلاصقة على شكل صفوف، وعيناها لا تزالان تتحركان تبحثان عن كثافة من الشعر الأبيض، وعن عينين سوداوين تستطيع أن تراهما وهي مغمضة العينين. لكن الرءوس متلاصقة كثيفة وهي لا ترى سوى كتل من السواد أو البياض، دوائر أو مربعات أو مستطيلات. أنفها بدأ يتحرك كأنما يتشمم، فهي تعرف رائحتها وتستطيع أن تميزها من بين الآلاف، فهي رائحة كاللبن وهي طفلة ترضع، وكرائحة الصبح حين تطلع، والليل حين ينام، والمطر فوق الأرض المتربة، والشمس فوق السرير، والحساء الساخن في الصحن. وهي تقول لنفسها: أيمكن أن تتغيبي يا أمي؟ وأبي هل جاء؟
الضباب أمام عينيها لا زال كثيفا، ورأسها لا زال يتحرك ناحية صفوف الرءوس المتلاصقة، الدوائر البيضاء والسوداء تتداخل بعضها ببعض في حركة دائبة، إلا دائرة واحدة من الشعر الأسود ثابتة فوق جبهة عريضة سمراء، وعينان ثابتتان فوق الوجه النحيل الشاحب والجسد الصغير المكوم فوق المقعد من خلف الأسلاك، يداه الكبيرتان المعروقتان تمسكان ركبتيه، تضغطان عليهما من شدة الألم، لكنه ما إن سمع الصفقة حتى ارتفعت يداه من فوق ركبتيه وتلامستا في صفقة طويلة. يداه لا تريدان العودة مرة أخرى فوق ركبتيه، والألم في عظام ساقيه لم يعد محسوسا، وقلبه يصفق مع يديه بضربات عالية تهز جسده الضامر فوق المقعد، وعيناه أصبحتا تدوران حوله فوق الوجوه والعيون، وشفتاه انفرجتا قليلا وكأنما على وشك أن يهتف: أنا أبوها، أنا «الفرجاني» الذي أنجبتها وهي تحمل اسمي. يا إلهي كيف تتلاشى كل آلام جسمي دفعة واحدة أمام تلك الصفقات السريعة؟ ماذا لو وقفت الآن وكشفت لهم عن شخصيتي؟ هذه اللحظة فريدة وعلي ألا أضيعها؛ فالرجل منا يعيش ويموت من أجل لحظة كهذه، من أجل أن يعترف بنا الآخرون، أن يصفقوا لنا، أن نصبح أبطالا تتطلع إلينا العيون وتشير إلينا الأصابع. وقد تحملت الألم والعذاب معها يوما بيوم وساعة وراء ساعة، ومن حقي الآن أن أحظى بشيء من المكافأة وأشاركها البطولة.
Shafi da ba'a sani ba