Mawqif Al-Muslim Min Al-Fitan Fi Daw' Hadith Abdullah Bin Amr Radiyallahu Anhuma
موقف المسلم من الفتن في ضوء حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
Mai Buga Littafi
دار الحضارة للنشر والتوزيع
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤٣٤ هـ - ٢٠١٣ م
Nau'ikan
مقدمة
الحمد لله الذي فضَّل هذه الأمةَ على سائر الأمم، وأنزل إليها خير الكتب، وأرسل إليها خير الرسل، والصلاة والسلام على النبي الأمين، الذي ما ترك خيرة إلا ودل أمته عليه، وما ترك شرا إلا وحذر أمته منه؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن المتأمل الأحوال الزمان يقف عيانا على خبر رسول الله ﷺ بما يحدث وما سيحدث من تغيرات على كافة الأصعدة والمجالات الشرعية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والكونية وغيرها، ولأن أجل ما يحفظ وأثمن ما يعتني به دين العبد الذي به نجاته وفلاحه في الدنيا والآخرة، جاءت النصوص الشرعية لتبين خطر الفتن وموقف المسلم منها، لأنه إذا لم يرع حالها، ولم ينظر إلى نتائجها، ويبين له الموقف الشرعي في التعامل معها، أضحى دينه عرضة للأخطار، وصار ضحية للشبهات والشهوات، وتحولت الفتن من فتن خاصة صغيرة تستهدف الأفراد إلى عامة كبيرة تستهدف المجتمعات، وما كان لرسول الله ﷺ والحال كذلك أن يترك أتباعه دون
1 / 5
تهيئة نفوسهم لما سيستقبلون، وكيف يتعاملون، ليسيروا على نور وبصيرة تقيهم الضلال والزيغ والاضطراب والشك، فيصمدون والناس يتساقطون، ويفقهون والناس يجهلون، ويمسكون والخائضون يخوضون، فتأتي أعمالهم وأقوالهم مبنية على العلم الذي تلقاه رسول الله ﷺ عن ربه لا عن عقل قاصر، أو هوى متبع، أو جهل يودي بصاحبه.
ولذا حرص سلف الأمة على جمع أحاديث الفتن واستشراحها والتفقه فيها، وأفردوا لها أبوابا خاصة في كتبهم، بل إن من أوائل الأبواب التي أفردت بالتصنيف عند المحدثين "باب الفتن" الذي صنف فيه نعيم بن حماد
الخزاعي (ت ٢٢٨) كتابا قد طبع، (ثم سار على آثارهم الموفقون من أشياعهم واقفين مع الحجة والاستدلال يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحدانا، وإذا دعاهم الرسول ﷺ إلى أمر انتدبوا إليه، ولا يسألونه عما قال برهانا، ونصوصه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس أو يعارضوها برأي أو قياس) (^١).
_________
(^١) إعلام الموقعين (٦ - ٧).
1 / 6
ونحن في هذا الزمان - زمان الفتن بألوانها - بحاجة لتأمل الآيات والأحاديث الواردة في الفتن، وأخذ العبر والعظات والأحكام، والخروج بفقه ما ينبغي عمله عند الفتن في ضوء كتاب الله وصحيح سنة رسوله ﷺ على فهم السلف الصالح، ومن الأحاديث التي حوت قواعد مهمة في موقف المسلم من الفتنة الحديث الذي يرويه الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص ﵁ الذي قال له الرسول فيه «الزم بيتك، وأملك عليك لسانك ودع عنك ....»
وفي ضوء ما تقدم أحببت أن أضرب بسهمي في هذا الموضوع بالإضافة إلى ما يأتي:
١/ حاجة الناس الماسة في مثل هذه الأزمنة إلى طرح موضوع الفتن وبيان سبل النجاة منها.
٢/ اضطراب مواقف الناس عند الفتن لقلة علمهم وجهلهم.
٣/ التجرؤ على الثوابت والمسلمات والخوض في دين الله بغير علم ومن أناس غير مؤهلين.
٤/ خوض كثير من الناس في أمور عظام هي مزلة أفهام، ينبغي للمسلم الإمساك عنها.
1 / 7
٥/ خدمة أحاديث رسول الله ﷺ رواية ودراية.
٦/ اشتمال حديث عبد الله بن عمرو) على توجيهات وقواعد جامعة مهمة لا يستغني عنها مسلم عند وقوع الفتن.
٧/ بيان موقف أهل السنة والجماعة من الفتن وأحاديثها وأحداثها.
٨/ الحاجة الماسة لمثل هذه الموضوعات المعاصرة والحية في ساحة اليوم، لتدل المسلم على الهدى، وتزوده بالخير والتقى، وتنير له الطريق، وتنجيه من كل مزلق عميق.
موضوعات البحث:
قسمت البحث إلى مقدمة، وتمهيد، وثلاثة مباحث، وخاتمة.
المقدمة: وضمنتها: أهمية البحث، وخطة البحث.
التمهيد: وفيه تعريف الفتن.
المبحث الأول: أقسام الفتن.
المبحث الثاني: تخريج حديث عبد الله بن عمرو، ودراسة إسناده.
1 / 8
المبحث الثالث: وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: «الزم بيتك».
المطلب الثاني: «املك عليك لسانك».
المطلب الثالث: «ودع عنك أمر العامة، وعليك بأمر نفسك خاصة»
الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات.
1 / 9
التمهيد
وفيه تعريف الفتن وبيان استعمالاتها:
تعريف الفتن:
في اللغة: الفتن جمع ثنة، قال ابن فارس: «الفاء والتاء والنون، أصل صحيح يدل على الابتلاء والاختبار» (^١)، وأصلها مأخوذ من قولك: فتنت الفضة والذهب، إذا أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد (^٢). قال الخليل: الف: الإحراق، يقال: ورق فتين أي فضة محرقة، ويقال للحرة فتين، كأن حجارتها محرقة (^٣) ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ (^٤) أي أحرقوهم بالنار (^٥).
وافتتن الرجل، وفتن فهو مفتون، إذا أصابته فتنة فذهب ماله أو عقله (^٦)، والفتنة إعجابك بالشيء.
_________
(^١) مقاييس اللغة، لابن فارس (٤/ ٤٧٢)، مادة (فَتنَ).
(^٢) لسان العرب، لابن منظور (٦/ ٣٣٤٤) مادة (فَتنَ).
(^٣) الصحاح، للجوهري (٢١٧٥) مادة (فَتنَ).
(^٤) سورة البروج: ١٠.
(^٥) لسان العرب، لابن منظور (٦/ ٣٣٤٤) مادة (فَتنَ).
(^٦) القاموس المحيط، للفيروز آبادي (١٥٧٥) مادة (فَتنَ).
1 / 11
والفتنة الضلالة والإثم، والفاتن المضل عن الحق (^١).
والفنان الشيطان (^٢)، وجاء في الحديث «المسلم أخو المسلم، يسعهما الماء والشجر، ويتعاونان على الفتان» (^٣).
ويقال فَتَنَ الرجل، أي زال عما كان عليه (^٤)، ومنه قوله: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ (^٥).
والفتنة ما يقع بين الناس من القتال (^٦)، ومن ذلك قول النبي ﷺ: «إني أرى الفتن خلال بيوتكم» (^٧). والفتنة القتل، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (^٨).
اصطلاحا: معنى الفتنة في الأصل: الاختبار والامتحان، ثم
_________
(^١) لسان العرب، لابن منظور (٦/ ٣٣٤٥) مادة (فَتنَ).
(^٢) الصحاح، للجوهري (٢١٧٥) مادة (فَتنَ).
(^٣) رواه أبو داود في سننه، كتاب الخراج والأمارة، باب في قطاع الأرضين (٣٠٧٠)، (٣/ ٤٥١)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (٣٠٩) ..
(^٤) لسان العرب، لابن منظور (٦/ ٣٣٤٥) مادة (فَتنَ).
(^٥) سورة الإسراء: ٧٣
(^٦) لسان العرب، لابن منظور (٦/ ٣٣٤٥) مادة (فَتنَ).
(^٧) رواه مسلم في الصحيح، كتاب الفتن، باب نزول الفتن كمواقع المطر، (٢٨٨٥)، (١٨/ ٢٢٤).
(^٨) سورة النساء: ١١٠
1 / 12
استعملت في كل أمر يكشفه الامتحان عن سوء وفيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه، ثم أطلقت على كل مكروه أو آيل إليه، كالكفر والإثم والتحريق والفضيحة والفجور والقتال عن جهل طلبأ للدنيا أو اتباعة للهوى، وغير ذلك (^١). قال الإمام أحمد: «الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس» (^٢). وعرفها الزمخشري بقوله: «والفتنة: الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان ومجاهدة الأعداء وسائر الطاعات الشاقة، وهجر الشهوات والملاذ بالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال، وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم وضرارهم» (^٣).
وخلاصة هذه التعريفات: أن الفتنة هي: ما يميز حال الناس من الخير أو الشر سواء كان التمييز بالعطايا والنعم أو بالبلايا والنقم.
العلاقة بين المدلول اللغوي والاصطلاح الشرعي للفتنة:
إن العلاقة بين المدلول اللغوي والشرعي للفتنة تكمن في كون
_________
(^١) فتح الباري، لابن حجر (١٣/ ٣٤).
(^٢) المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة للأحمدي (٢/ ١٢).
(^٣) الكشاف (٣/ ١٨٢).
1 / 13
الفتنة تُظهر المؤمن الصادق من الدَّعِي، وتنبئ عن سوء طويَّة من لم يستقر الإيمان في قلبه، وتُخرج الدَّغْل من قلوب المؤمنين، فيخرجوا بعد البلاء بقلوب صافية، وأفئدة مؤمنة، كما يحصل عند إدخال الذهب أو الفضة في النار، فيذهب الخبث، ويبقى الجيد (^١)، والله أعلم.
_________
(^١) المرجع السابق (٣٨).
1 / 14
المبحث الأول: أقسام الفتن
* الفتن من حيث نوعها:
تنقسم الفتنة من حيث نوعها إلى قسمين: فتنة الشبهات، وفتنة الشهوات.
أ. فتنة الشبهات: وهي أعظمها وتتعلق بالعقول والقلوب كالتشكيك في الدين، والوقوع في الشرك أو البدع ونحوها.
سببها: ضعف البصيرة وقلة العلم لاسيما إذا اقترن ذلك بفساد القصد وحصول الهوى، فقل ما شئت في ضلال سيء القصد، الحاكم عليه الهوى لا الهدي مع ضعف بصيرته وقلة علمه.
فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ (^١) وقد أخبر الله سبحانه أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله فقال: ﴿يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ (^٢).
خطرها: تكمن خطورتها في أن مآل صاحبها إلى الكفر والنفاق، فهي فتنة المنافقين وأهل البدع على حسب مراتب بدعهم حيث اشتبه
_________
(^١) سورة النجم: ٢٣.
(^٢) سورة ص: ٢٩.
1 / 15
عليهم الحق بالباطل والهدى بالضلال والعياذ بالله ..
النجاة منها: تكون بتجريد اتباع الرسول ﷺ، وتحكيم سنته، وذلك بتعلمها، فالهدي كله دائر على أقواله وأفعاله وكل ما خرج عنها فهو ضلال، فإذا عقد القلب على ذلك وأعرض عما سواه، بأن يزنه بما جاء به الرسول ﷺ فإن وافقه قبله، وإن خالفه رده ولو قاله من قاله؛ فهذا الذي ينجو من فتنة الشبهات، وإن فاته شيء من ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه، وعن المقدام بن معدي كرب يقول: «حرم رسول الله ﷺ يوم خيبر أشياء ثم قال: يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ على أريكته، يحدث بحديثين فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله ﷺ مثل ما حرم الله» (^١). وعن أبي رافع وغيره رفعه قال: «لا ألفين أحدكم متكئًا على
_________
(^١) أخرجه أحمد (٤/ ١٣٢٢) ١٧٢٣٣، والدارمي (١/ ١٥٣) والمروزي في السنة (١/ ٧١)، والطبراني في الكبير (٢٠/ ٢٧٤)، والدارقطني (٤/ ٢٨٦)، والحاكم (١/ ١٩١) والبيهقي في الكبرى (٧/ ٧٦)، وفي دلائل النبوة (١/ ٢٤).
وأخرجه من قوله: (يوشك …): أبو داود (٤/ ٣٢٨)، والترمذي (٥/ ٣٨)، وابن ماجة (١/ ٦)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٤/ ٢٠٩)، وابن حبان (١/ ١٨٩)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (١/ ٨٢)، وصححه الألأباني في مشكاة المصابيح (١/ ٣٥).
1 / 16
أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو فيت عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» (^١).
ب. فتنة الشهوات: وهي الغالبة كالافتتان بالنساء، أو بالمال الحرام، أو بالمنصب ونحوها.
سببها: كثرة المعاصي، وفسق الأعمال، وسيطرة الدنيا على القلوب، أو الإسراف في الشهوات المباحة إلى اتباع الهوى، والغفلة عن الطاعة، ورفقة السوء، والاحتقار والاستهتار بما فعل من معاص، وعدم معرفة قدر الدنيا ..
خطرها: تُحدِث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه والهواء، والزرع والثمار والمساكن؛ قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (^٢) وهي سببٌ لزوال النِّعم.
_________
(^١) أخرجه أبو داود (٤/ ٣٢٩)، والترمذي (٥/ ٣٧)، وابن ماجه (١/ ٦)، والشافعي في مسنده (١/ ١٥١)، والحميدي في مسنده (١/ ٢٥٢)، والروياني في مسنده (١/ ٤٧٣)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٤/ ٢٠٩)، والطبراني في الكبير (١/ ٣١٦)، وفي الأوسط (٨/ ٣٥٠)، والحاكم (١/ ١٩٠)، والبيهقي في معرفة السنن (١/ ٨). وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (١/ ٣٥) ١٦٢.
وبنحوه عن العرباض بن سارية: أخرجه أبو داود (٣/ ١٣٥)، والبيهقي في الكبرى (٩/ ٢٠٤).
وعن أبي هريرة: أخرجه البزار (٢/ ٤٤٢).
(^٢) سورة الروم: ٤١.
1 / 17
النجاة منها: يكون باليقين بوعد الله ووعيده، بتذكر الآخرة وما فيها، وباستشعار عظمة الله تعالى ومعرفته حق المعرفة قال تعالى ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (^١).
وقد ذكر في القرآن هذين القسمين في آية واحدة في قوله تعالى: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ (^٢)، أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق: هو النصيب المقدر ثم قال: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ فهذا الحوض بالباطل وهو الشبهات.
فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان من الاستمتاع بالخلاق والخوض بالباطل، لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح.
_________
(^١) سورة الزمر: ٦٧.
(^٢) سورة التوبة: ٦٩.
1 / 18
فالأول: هو البدع وما والاها وهو فساد من جهة الشبهات، والثاني: فسق الأعمال وهو فساد من جهة الشهوات.
ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه. وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون.
وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع والهوى على العقل (^١).
ففتنة الشبهات تدفع بالعلم واليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر واليقين بوعد الله ووعيده، واستشعار عظمته سبحانه، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين فقال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (^٢). فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
وجمع بينهما أيضا في قوله: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (^٣)
_________
(^١) ينظر كل ما تقدم في: إغاثة اللهفان لابن القيم (٢/ ١٦٧).
(^٢) سورة السجدة: ٢٤.
(^٣) سورة العصر: ٣.
1 / 19
فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات، وبالصبر الذي يكف عن الشهوات.
الفتن من حيث الزمن:
تنقسم الفتن من حيث زمنها إلى: فتن الحياة، وفتن الممات.
والأصل في هذا التقسيم حديث عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيْحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا، وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمْ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ» (^١).
فالفتنة الأولى: فتنة (المحيا): بفتح الميم ما يعرض للمرء مدة حياته من الافتتان بالدنيا وشهواتها والجهالات، أو هي الابتلاء مع زوال الصبر (^٢)، أو هي كل ما يعطاه الإنسان من خير أو شر؛ فإن كان خيرًا امتحن فيه، هل يؤدي شكر النعمة؟ وإن كان شرا؛ هل يصبر
_________
(^١) صحيح البخاري كتاب صفة الصلاة/ باب ا لدعاء قبل السلام (١/ ٢٨٦) برقم ٧٩٨، ومسلم كتاب المساجد (٢/ ٩٣) برقم ١٣٥٣.
(^٢) فتح الباري (٣/ ٢٣٦).
1 / 20
عليه، وهي أكثر من أن تحصى.
والثانية: فتنة (الممات) وفي تفسيرها قولان:
أ/ ما يفتن به المرء عند الموت، وأضيفت له لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك، وقد تسمى هذه الفتنة بفتنة الاحتضار لأن الشيطان قد يفتن الآدمي تارة بتشكيكه في خالقه وفي معاده، وتارة بالتسخط على الأقدار، وتارة بإعراضه عن التهيؤ للقدوم إلى ربه بتوبة من زلة واستدراك لهفوة إلى غير ذلك (^١).
ب/ أو المراد بفتنة الممات: فتنة القبر أي سؤال الملكين، وقد صح في حديث أسماء «إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة الدجال» (^٢) ولا يكون مع هذا الوجه متكررا مع قوله «عذاب القبر» لأن العذاب مرتب عن الفتنة والسبب غير المسبب.
قال النووي: وأما الجمع بين فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال وعذاب القبر فهو من باب ذكر الخاص بعد العام ونظائره كثيرة (^٣).
_________
(^١) ينظر: فتح الباري (١١/ ١٧٧)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين (١/ ٩٢١).
(^٢) صحيح البخاري كتاب الوضوء/ باب من لم يتوضأ إلا من الغشي (١/ ٧٩) ١٨٢.
(^٣) شرح النووي على مسلم (٥/ ٨٥).
1 / 21
الفتن من حيث حجمها:
تنقسم الفتن من حيث حجمها: إلى فتن صغار وفتن كبار عظيمة.
ودليل هذا التقسيم ما جاء عن حُذَيْفَةُ بنُ اليَمَانِ أنه قال: وَاللَّهِ إنِّي لأَعْلَمُ النَّاسِ بكُلِّ فِتْنَةٍ هي كَائِنَةٌ، فِيما بَيْنِي وبيْنَ السَّاعَةِ، وَما بي إلَّا أَنْ يَكونَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَسَرَّ إلَيَّ في ذلكَ شيئًا، لَمْ يُحَدِّثْهُ غيرِي، وَلَكِنْ رَسُولُ اللهِ ﷺ، قالَ: وَهو يُحَدِّثُ مَجْلِسًا أَنَا فيه عَنِ الفِتَنِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: وَهو يَعُدُّ الفِتَنَ: منهنَّ ثَلَاثٌ لا يَكَدْنَ يَذَرْنَ شيئًا، وَمِنْهُنَّ فِتَنٌ كَرِيَاحِ الصَّيْفِ منها صِغَارٌ وَمنها كِبَارٌ». قَالَ حُذّيْفَةُ فَذَهَبَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ كُلُّهُمْ غَيْرِي» (^١) (^٢).
وقوله (ومنهن فتن كرياح الصيف) أي فيها بعض الشدة وإنما خص الصيف لأن رياح الشتاء أقوى. وقيل: أي فيها شيء من الشدة، ولكنها شدة تنقضي وليست كرياح الشتاء (^٣).
_________
(^١) أخرجه مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة (٨/ ١٧٢) برقم ٧٤٤٤.
(^٢) قول حذيفة ﵁: «فذهب أولئك الرهط كلهم غيري»، يعني الذي سمعوا هذا، والرهط: العصابة دون العشرة، ويقال: بل إلى الأربعين، وكأنه يخشى أن تدركه شيء من هذه الفتن! كشف المشكل من حديث الصحيحين (١/ ٢٦١).
(^٣) المخرج من الفتن لخالد السبت (١/ ٣).
1 / 22
وجاء عن عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ ﵁، قالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسولِ اللَّهِ ﷺ في الفِتْنَةِ؟ فَقالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا أَحْفَظُ كما قالَ، قالَ: هَاتِ، إنَّكَ لَجَرِيءٌ، قالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ في أَهْلِهِ ومَالِهِ وجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ، والصَّدَقَةُ، والأمْرُ بالمَعروفِ، والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، قالَ: ليسَتْ هذِه، ولَكِنِ الَّتي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ. قالَ: يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لا بَأْسَ عَلَيْكَ منها، إنَّ بيْنَكَ وبيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا (^١).
فدل الحديث على: أن الفتن منها ما هو خاص لكل فرد لا ينفك عنه، ومنها ما هو عام على الجميع وهي التي سأل عنها عمر ﵁.
قال ابن رجب: «والفتنة نوعان: أحدهما: خاصة تختص بالرجل في نفسه. والثاني: عامة تعم الناس.
فالفتنة الخاصة: ابتلاء الرجل في خاصة نفسه بأهله وماله وولده وجاره، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ (^٢)، فإن ذلك غالبا يلهي عن طلب
_________
(^١) صحيح ال بخاري كتاب مواقيت الصلاة/ باب الصلاة كفارة (١/ ١٩٦) ٥٠٢، ومسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة (٨/ ١٧٣) ٧٤٥٠.
(^٢) سورة التغابن: ١٥.
1 / 23
الآخرة والاستعداد لها، ويشغل عن ذلك .... فظهر بهذا: أن الإنسان يبتلى بماله وولده وأهله وبحاره المجاور له، ويفتتن بذلك، فتارة يلهيه الاشتغال به عما ينفعه في آخرته، وتارة تحمله محبته على أن يفعل لأجله بعض ما لا يحبه الله، وتارة يقصر في حقه الواجب عليه، وتارة يظلمه ويأتي إليه ما يكرهه الله من قول أو فعل، فيسأل عنه ويطالب به، فإذا حصل للإنسان شيء من هذه الفتن الخاصة، ثم صلي أو صام أو تصدق أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر كان ذلك كفارةً له، وإذا كان الإنسان تسوؤه سيئته، ويعمل لأجلها عملا صالحا كان ذلك دليلا على إيمانه.
وأما الفتن العامة: فهي التي تموج موج البحر، وتضطرب، ويتبع بعضها بعضا كأمواج البحر، فكان أولهما فتنة قتل عثمان ﵁، وما نشأ منها من افتراق قلوب المسلمين، وتشعب أهوائهم وتكفير بعضهم بعضا، وسفك بعضهم دماء بعض، وكان الباب المغلق الذي بين الناس وبين الفتن عمر ﵁، وكان قتل عمر كسرة لذلك الباب، فلذلك لم يغلق ذلك الباب بعده أبدًا.
وكان حذيفة أكثر الناس سؤالا للنبي ﷺ عن الفتن، وأكثر الناس علمأ بها، فكان عنده عن النبي ﷺ علم بالفتن العامة والخاصة، وقد
1 / 24
حدث عمر بتفاصيل الفتن العامة، وبالباب الذي بين الناس وبينها، وأنه هو عمر، ولهذا قال: إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط، والأغاليط: جمع أغلوطة، وهي التي يغالط بها … وهذا مما يستدل به على أن رواية مثل حذيفة يحصل بها لمن سمعها العلم اليقيني الذي لا شك فيه؛ فإن حذيفة ذكر أن عمر علم ذلك وتيقنه كما تيقن أن دون غد الليلة، لما حدثه به من الحديث الذي لا يحتمل غير الحق والصدق. وقد كانت الصحابة تعرف في زمان عمر أن بقاء عمر أمان للناس من الفتن (^١).
وفي تشبيهه ﷺ الفتن بأنها تموج كموج البحر إشارة واضحة إلى قوتها وشدتها، ثم إلى تتابعها، وإلى أنه لا يمكن لأحد الوقوف أمامها؛ لأنه لا يمكن لأحد أنْ يقف أمام موج البحر، وأن الناس أمام هذه الفتن ستضطرب حركتهم، ويختل توازهم، وتضيق صدورهم، وينقطع نفسهم، وهذه حال من يصارع الموج.
وإذا علمنا أنّ أمواج البحر تتكاثر وتتعاظم، مع شدة الريح وانتشار السحاب؛ فإن لنا أن نتصور جو الفتن بأنه جو مظلم، فالذي
_________
(^١) ينظر فتح الباري. لابن رجب (٣/ ٣٥).
1 / 25