1 - شأن عكاظ في الجاهلية
2 - موضع عكاظ
مقال الشيخ محمد بن بليهد
مقال الشيخ حمد الجاسر
الخاتمة
1 - شأن عكاظ في الجاهلية
2 - موضع عكاظ
مقال الشيخ محمد بن بليهد
مقال الشيخ حمد الجاسر
الخاتمة
موقع عكاظ
موقع عكاظ
تأليف
عبد الوهاب عزام
مقدمة
بقلم دكتور عبد الوهاب عزام
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مقالات فيها القول الفصل في مكان سوق عكاظ، جمعت ما جاء في أمهات الكتب عن موقع عكاظ وشأنه حين عزمت على الذهاب إلى الموضع الذي غلب على الظن أنه عكاظ، ثم كتبت المقال بعد أن شهدت المكان وأيقنت بالأدلة الكثيرة أنه هو.
وكان الشيخ محمد بن بليهد النجدي معي في هذه السفرة، وله الفضل في تعريفي بالمكان وإعانتي على تطبيق الروايات عليه، ولما عدنا إلى الطائف عرض علي مقالا له في الموضوع، فوعدته أن أنشره حين أنشر مقالي.
ولما شهدت افتتاح المؤتمر الثقافي العربي في الإسكندرية في شهر آب (أغسطس) من هذه السنة، حدثت الأستاذ أحمد الزيات حديث عكاظ، فأشار علي أن أحاضر المؤتمرين فيه، فكانت أول محاضرة من محاضرات المؤتمر العامة محاضرتي عن سوق عكاظ.
وقد لقيت قبل المحاضرة الأديب المحقق الشيخ حمد الجاسر النجدي، فقال إن له بحثا عن عكاظ. قلت: سمعت أن لك بحثا ولكن لم أطلع عليه. فقال: نشرت خلاصته في جريدة أم القرى، وأرسلته كله إلى إحدى المجلات المصرية فلم تنشره. فوعدته بنشر مقاله أيضا حين أنشر بحثي في عكاظ.
وقد وفيت بوعدي، فنشرت مقال الشيخ ابن بليهد، ونشرت مقال الشيخ الجاسر، على طوله واشتماله على أمور ليست من بحثنا في الصميم، إذ رأيت كل ما جاء في المقال مفيدا مجديا على الباحثين، جامعا لهم ما تشتت في كثير من الكتب.
وقد أخذت على الخريطة التي ألحقها بالمقال أنه وضع حرة الخلص جنوبي عكاظ، وهي في رأينا وفيما قال عرام السلمي شرقي عكاظ.
والمقصد في هذه المقالات تبيين موضع عكاظ، والفصل فيما اختلف فيه القائلون في هذا الشأن، وسيرى القارئ أنها مقالات فاصلة لا تدع مجالا لجدال ولا ريب.
وقد رأيت أن أقدم كلمة موجزة عن شأن عكاظ عند العرب، وأثرها في تجارتهم وأخلاقهم وأدبهم، فأخذت من المراجع الحاضرة لدي في جدة، مثل: الأغاني، والمسالك والممالك، وصفة جزيرة العرب، ومعجم البلدان.
ولما رجعت إلى مصر بدا لي أن أتوسع في الحديث عن عكاظ لأوفي البحث حقه من التاريخ، كما استوفى حقه من التحقيق الجغرافي، فطلبت مراجع أخرى حتى عثرت على كتاب الأديب الفاضل سعيد الأفغاني في مكتبة جامعة فؤاد الأول، وكنت طلبته زمنا فلم أعثر عليه، فرأيت فيه وفاء بأخبار عكاظ، كما رأيته اتبع أقوالا في تعيين مكان عكاظ ليست صوابا، فعزمت على أن أقتصر على الكلمة الموجزة التي كتبت في شأن عكاظ، وأن أحيل القارئ المستزيد إلى كتاب الأستاذ الأفغاني في أخبار سوق عكاظ لا في تعيين مكانها، وإنما قصدنا من هذه الأبحاث تعيين المكان.
والله أسأل أن يهدينا الحق ويرزقنا الإخلاص فيه، وهو حسبي وكفى.
الفصل الأول
شأن عكاظ في الجاهلية
(1) حرمة عكاظ
كانت سوق عكاظ تجتمع في الأشهر الحرم، فيفد الناس إليها آمنين، ثم يذهبون منها إلى سوق مجنة، فسوق ذي المجاز، فموسم الحج الأكبر. وعكاظ في طريق أهل اليمن ونجد إلى مكة ... وقد غلط من ظن أن سوق عكاظ كانت تقام في شهر شوال، فليس هذا الشهر من الأشهر الحرم.
جاء في الأغاني أن معاوية بن عمرو أخا الخنساء وافى عكاظ في موسم من مواسم العرب ... فلما خرج الشهر الحرام وتراجع الناس عن عكاظ، خرج معاوية بن عمرو غازيا ... إلخ.
1
وفي الأغاني أيضا أن عبد الله بن العجلان النهدي الشاعر الجاهلي أراد المضي إلى بلاد بني نمير ليرى حبيبته هند، فمنعه أبوه وخوفه الثارات، وقال له: تجتمع معهم في الشهر الحرام بعكاظ أو بمكة ... إلخ.
2
وفي أخبار السليك بن السلكة أنه خرج في الشهر الحرام فأتى عكاظ. وسيذكر هذا من بعد.
وفي سيرة ابن هشام في فصل حرب الفجار:
فأتى آت قريشا، فقال: إن البراض قد قتل عروة وهم بالشهر الحرام بعكاظ.
فهذه الروايات شاهدة بأن عكاظ كانت تقام في الأشهر الحرم، لا في شوال كما يذكر في بعض الروايات.
ثم دليل آخر: أن الحروب التي وقعت في عكاظ عدت في حروب الفجار لأنها محرمة. وليست عكاظ من أرض الحرم، فإنما كانت حرمتها لوقوعها في الأشهر الحرم. (2) التجارة
وكانت تجارة العرب تحمل من الأرجاء إلى عكاظ، فمن أراد الميرة ذهب إليها، ومن فقد شيئا التمسه في عكاظ لعله يجده في سلعها.
ومن هذا أن شاس بن زهير العبسي قدم على بعض الملوك فحباه حباء عظيما فرجع به، فبينا هو في الطريق قتله رباح بن الأسك الغنوي وأخذ متاعه، فبقي قومه زمنا لا يهتدون إلى أثره حتى رأوا في عكاظ امرأة رباح تبيع أمتعة مما أخذ زوجها من شاس حين قتله.
3
وأن الحارث بن ظالم لما قتل أخذ سيفه إلى سوق عكاظ ليباع.
4
وفي أخبار ابن الزبعري أن ركبا من عبد القيس مر بأبي سفيان بن حرب يريدون المدينة للميرة، فقال أبو سفيان: هل أنتم مبلغون محمدا رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا في عكاظ إذا وافيتموها؟
5 (3) الأدب
وكان لعكاظ شأن في الأدب تتفاخر فيه القبائل، فينشد شعراؤها ويخط خطباؤها، ويعرض فيه الشعراء أشعارهم في غير المفاخرة والمنافرة ليذهب الشعر في الناس.
روى صاحب الأغاني وغيره أن النابغة كانت تضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء، فينشدونه ويحتكمون إليه.
ومما روى في هذا أن حسان بن ثابت دخل على النابغة في عكاظ وعنده الأعشى والخنساء، وقد أنشده الأعشى، ثم أنشدته الخنساء، فقال: والله لولا أن أبا بصير أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر الناس، أنت أشعر من كل امرأة. قال: ومن كل رجل. قال حسان: أنا أشعر منك ومنها. قال النابغة: حيث تقول ماذا؟ قال: حيث أقول:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابن محرق
فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
فنقد النابغة شعره في قصة معروفة في كتب الأدب.
وروى صاحب الأغاني أيضا أن عمرو بن كلثوم لما أنشأ معلقته، قام بها خطيبا في عكاظ، وقام بها في موسم مكة.
6
وقصة الأعشى والمحلق معروفة، وسأذكر خلاصتها من بعد هذا الفصل. (4) عكاظ مجمع عام
ولصيت عكاظ وكثرة المجتمعين فيها وأمن الناس بها في الأشهر الحرم كان العرب يقصدون إليها لأمر يريدون إذاعته، من مأثرة في الخير، أو دعوة إلى صلح، أو تعاون على أمر جامع، أو استعانة على عمل جليل.
كما كانوا يقصدون إليها لمفاخرة أو منافرة أو لطلب ثأر، يعرفون طلبتهم في عكاظ ولا يتعرضون له حتى يمضي الموسم وتنتهي الأشهر الحرم، فيرصدون له ليثأروا منه. وغير هذه مما يقصد في المجامع العامة الحافلة التي يفد إليها الناس من المواطن القريبة والبعيدة.
ومن أمثلة هذا أن قيس بن عاصم المنقري أغار على بني ذبيان، فأصاب أسارى فيهم رجل من هوازن جاور بني ذبيان هو وأخ له، فافتدى بنو ذبيان أساراهم، وبقي الهوازاني في الأسر، فذهب أخوه يتوسل بأعيان القبائل، فلم يجبه أحد ... فذهب إلى الموسم من عكاظ، فأتى منازل مذحج ليلا فأنشد أبياتا، وانتهى سعيه إلى يزيد بن عبد المدان ففدى أخاه.
7
وكذلك روى صاحب الأغاني أن يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل اجتمعا في عكاظ، وقدم أمية بن الأسكر الكناني ومعه بنت له جميلة، فخطبها يزيد وعامر وتفاخرا، فزوج أمية يزيد بن عبد المدان ابنته.
8
وكان قيس بن الحدادية الخزاعي شاعرا فاتكا شجاعا صعلوكا خليعا، فأرادت خزاعة أن تخلعه لتبرأ من جناياته، فخلعته في سوق عكاظ وأشهدت على أنفسها بخلعها إياه، فلا تحتمل جريرة له، ولا تطالب بجريرة يجرها عليه أحد.
9
وأصاب الناس قحط، فاجتمع ناس من زعماء العرب في عكاظ، فتواعدوا وتوافقوا ألا يتغاوروا حتى يخصب الناس.
10
وفي أخبار السليك بن السلكة أحد الصعاليك العدائين أنه خرج في الشهر الحرام فأتى عكاظ، فلما اجتمع الناس أخذ يطوف بين الناس متنكرا، ويقول: من يصف لي منازل قومه وأصف له منازل قومي ... إلخ.
ومن التفاخر في عكاظ حتى بالمصائب ما رواه صاحب الأغاني في أخبار غزوة بدر قال:
لما كانت وقعة بدر، قتل فيها عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فأقبلت هند بنت عتبة ترثيهم، وبلغها تسويم الخنساء هودجها في الموسم ومعاظمتها العرب بمصيبتها بأبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخر ومعاوية، وأنها جعلت تشهد الموسم وتبكيهم، وقد سومت هودجها براية، وأنها تقول: أنا أعظم العرب مصيبة. وأن العرب قد عرفت لها بعض ذلك، فلما أصيبت هند بما أصيبت به وبلغها ذلك، قالت: أنا أعظم من الخنساء مصيبة. وأمرت بهودجها فسوم براية وشهدت الموسم بعكاظ، وكانت سوقا يجتمع فيها العرب، فقالت: اقرنوا جملي بجمل الخنساء ... إلخ.
وقصة الأعشى الشاعر مع المحلق الكلابي معروفة، خلاصتها أن المحلق كان مئناثا مملقا، فأشارت عليه امرأته أن يسبق الناس إلى الأعشى فيضيفه وهو ذاهب إلى عكاظ، وينحر له ناقة ويسقيه، ففعل، وأحاطت بنات المحلق بالأعشى يخدمنه، فسأل: ما هذه الجواري؟ فعلم أنهن بنات المحلق وأنهن لم يتزوجن.
ووافى المحلق عكاظ، فإذا هو بسرجة قد اجتمع الناس إليها، وإذا الأعشى ينشد قصيدته التي يقول فيها:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
إلى ضوء نار باليفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها
وبات على النار الندى والمحلق
رضيعي لبان ثدي أم تقاسمها
بأسحم داج عوض لا نتفرق
ثم نادى الأعشى: يا معشر العرب، هل فيكم مذكار يزوج ابنه إلى الشريف الكريم؟ فسارع الناس إلى تزوج بنات المحلق.
وللقصة روايات أخر.
ولما هجا دريد بن الصمة عبد الله بن جدعان التيمي القرشي، لقيه في سوق عكاظ فكلمه في هذا.
فكانت عكاظ المجتمع الذي التمس فيه عبد الله هاجيه ليسأله لماذا هجاه.
11
وكان زهير بن جذيمة العبسي له إتاوة في هوازن، فكانت تأتيه بها في عكاظ. روى صاحب الأغاني: «وكان إذا كان أيام عكاظ أتاها زهير ويأتيها الناس من كل وجه، فتأتيه هوازن بالإتاوة التي كانت له في أعناقهم، فيأتونه بالسمن والأقط والغنم».
12
وفي الأغاني أيضا: «وكان عبد الله بن جعدة سيدا مطاعا، وكانت له إتاوة بعكاظ يؤتى بها، ويأتيه بها هذا الحي من الأزد وغيرهم».
13
وروي أن قس بن ساعدة الإيادي كان يأتي عكاظ فيخطب داعيا إلى الدين الحق مبشرا بالنبي، وروي أن رسول الله صلوات الله عليه سمع خطبة من خطبه في عكاظ.
وروي كذلك أن الرسول كان يقصد إلى عكاظ يدعو القبائل إلى الإسلام، ويعرض عليهم أن يحموه حتى يؤدي رسالته. •••
وهكذا يجد الباحث كثيرا من أخبار عكاظ الدالة على عظم شأنها عند العرب، وقصدهم إليها من كل فج للتجارة، والمفاخرة، وإنشاد الشعر، ونشدان الضالة، والدعوة إلى معروف أو صلح ... إلخ.
هوامش
الفصل الثاني
موضع عكاظ
لسوق عكاظ ذكر رائع في تاريخ العرب قبل الإسلام، وله آثار في لغتهم وأدبهم، وفي تجارتهم، وأحوالهم الاجتماعية من حرب وسلم وتفاخر وتكاثر. •••
وقد كثر الكلام في مكان هذه السوق، فقال قائلون: هو المكان الذي يسمى اليوم السيل الكبير، وهو ميقات الحاج القادمين من نجد والطائف، على الطريق بين مكة والطائف. وقال آخرون: هو حيث السيل الصغير، وهو موضع في الطريق بين السيل الكبير والطائف على عشرين كيلا من الأول واثنين وثلاثين من الثاني. وقيل كان في موضع يسمى اليوم القانس بين مكة والسيل الكبير، وقيلت أقوال أخرى. •••
وقد أخبرني منذ أشهر الصديق الأديب الشيخ أحمد الغزاوي شاعر جلالة الملك عبد العزيز أن سمو الأمير فيصل آل سعود أخبره أنه ذهب إلى موضع عكاظ، وليس هو بالسيل الكبير ولا السيل الصغير، وأنه اجتمعت أدلة كثيرة على أن في هذا الموضع لا غيره كانت سوق عكاظ.
وكان ذهاب سمو الأمير إليه في رجوعه من الصيد إلى الطائف، وكان معه الشيخ محمد بن بليهد، وهو عالم نجدي واسع المعرفة بأخبار العرب ماضيها وحاضرها، راوية لأشعارهم القديمة والحديثة، عارف بكثير من الأمكنة التي ذكرت في الأشعار والأخبار، ذهب إليها ورآها رأي العين.
وقد اجتمع لهذا الشيخ البحاثة نقول وأدلة لا تدع شكا في أن هذا الموضع كان هو مجتمع العرب في السوق التي ذاع ذكرها وطار صيتها، سوق عكاظ.
قلت للشاعر الغزاوي: لا بد لي أن أرى هذا المكان، وأجمع له ما أثر في كتب الأدب والتاريخ من أوصاف عكاظ، فأرى كيف تتفق عليه أو تختلف. •••
ثم لقيت الأمير حفظه الله في جدة، فتحدثنا عن عكاظ، فوعد أن نذهب إليه معا ونكمل النظر والبحث هناك.
وحالت أشغال وأسفار حتى ذهبت إلى الطائف يوم الجمعة سادس شوال سنة 1369ه، فلقيت الأمير هناك وأعدنا الحديث عن عكاظ، وكنت على أهبة السفر إلى الرياض لتوديع جلالة الملك عبد العزيز قبل سفري إلى مصر، فاتفقنا على أن أعود من الرياض إلى الطائف فأصحب سمو الأمير والشيخ ابن بليهد إلى عكاظ. وكان الأمير حفظه الله يريد أن نضرب خيامنا في عكاظ يومين أو ثلاثة نجول في أرجائه، ونوفي البحث والنظر حقهما هناك.
وعدت إلى الطائف صباح الأربعاء - وكان الأمير في جدة مع الأمير سعود - فجاء إلى المطار الشيخ ابن بليهد في جماعة من أتباع الأمير، فبشروني بأنهم أعدوا العدة للذهاب إلى عكاظ، وأنا ذاهبون إليه فورا.
سرنا من مطار الحوية صوب الشرق نحو اثني عشر كيلا، فإذا أرض واسعة مطمئنة أدركنا فرق ما بينها وبين الأرض التي سرنا عليها من الحوية، يدل منظرها على أنها مجتمع مياه.
قال الرفاق: هذه عكاظ ... فتأهب الفكر للنظر والتأمل، واستنجد ما سمع عن عكاظ وما قرأ ليتبين أهذه عكاظ كما ذكرت في كتب الأدب والتقويم، وما أعظم سرور الباحث وزهوه حين يبلغ المكان التاريخي الذي اقترن بآداب الجاهلية وأخبارها!
معالم عكاظ
سرنا إلى الشرق نقصد حرة كبيرة عالية مشرفة على سهل واسع، سرنا إليها بالسيارة نمر بأحجار كبيرة بيضاء من المرمر، قال الشيخ: انظر هذه العبيلات.
فلما بلغنا الحرة قيل: انظر إلى هذا القصر المشيد. فنظرت إلى الشرق والشمال، فإذا بناء منيف على ربوة، قال الرفاق: نذهب إليه ثم نعود إلى الحرة. فذهبنا فإذا بناء على ربوة، فصعدنا فرأينا بناء متينا فيه بهو وحجرات وعقود محكمة، قال الشيخ ابن بليهد: هذا جاهلي. وقال بعض الرفاق: هو هلالي - وكل أثر قديم ضخم تنسبه البادية إلى بني هلال قوم أبي زيد الهلالي البطل المعروف في القصص - قلت: بناء حديث، أغلب الظن أنه من بناء عصورنا، لا يتقدم أيام العثمانيين ... فصدقني بعض الرفاق وقال: يقال إنه من بناء أشراف مكة.
ورجعنا إلى الحرة فصعدنا وأجلنا البصر فيما حولنا، وكانت الساعة خمسا من النهار، وقد اقترب الظهر، ولكن الهواء كان باردا لا نبالي معه مس الشمس.
قال الشيخ: إن عرام بن الأصبغ السلمي يقول في عكاظ: «وهو في أرض مستوية ليس بها جبال، وإذا كنت في عكاظ طلعت عليك الشمس على حرة سوداء، وبه عبيلات بيض تطيف بها العرب في جاهليتهم وينحرون عندها.»
1
قلت: فلننظر تصديق هذا، هذه أرض مستوية، وهذه الحرة تطلع الشمس عليها، أعني أنها شرقي المكان. قال هو وبدوي كان معنا: وهذه الحرة تسمى الخلص. وقال: والعبيلات البيض قد رأيناها في طريقنا متفرقة وسنراها. ونظرنا شطر الجنوب، فإذا جبل بعيد ينتهي إليه النظر. قال الشيخ: هذا الجبل يسميه البدو حلاة جلدن، والحلاة عندهم الهضب.
ونظرنا نحو أكمة تقع إلى الغرب والشمال من هذا الجبل البعيد، فقال: هذه الأكمة البيضاء هي العبلا أو العبيلا.
ونظرنا إلى الشمال والغرب من مقامنا فوق الحرة، فإذا جبيل أدكن، قال: هذه العرفا، ووراءها وادي قران.
وطمح بصرنا إلى جبال بعيدة كدت لا أراها أشار إليها الرفاق قائلين: وهذه جبال عشيرة.
قلت: فأين وادي شرب الذي قال ياقوت إنه في عكاظ؛ فهو عندي من أوضح الأدلة، إذ كان لا يزال معروفا باسمه في البادية وإن غير إلى شرب؟
قالوا: هذا وادي شرب يأتي من الجنوب والغرب إلى هذه الحرة، وتلتقي به أودية منها وادي الأخيضر يلاقيه في عكاظ.
قلت: هذا دليل واضح على أننا نشرف على سهل عكاظ الآن. قال الشيخ ابن بليهد: وهذه العبلا أو العبيلا دليل آخر، فقد ذكر في أيام الفجار يوم العبيلاء، وقيل إن العبيلاء بجانب عكاظ، فهذه العبيلاء تراها على مد البصر بجانب عكاظ.
فهذه الحجارة البيض التي رأينا في طريقنا إلى هذه الحرة، جديرة أن تسمى عبلاوات، فتوافق ما قال الأصبغ بن عرام.
وقد جمع الوصف والاسم قول ياقوت:
وقيل العبلاء اسم علم لصخرة بيضاء إلى جنب عكاظ.
فإن قلنا العبلاء الصخرة البيضاء، فهذه الأكمة الكبيرة البيضاء، وهذه الحجارة الصغار التي مررنا بها كل واحدة منها تسمى عبلاء، وإن قلنا العبلاء صخرة بعينها إلى جنب عكاظ، فهذه الصخرة أمامنا بقي اسمها حتى يومنا هذا كما تقول أنت، ويشهد رفاقنا.
قال الشيخ العلامة:
وأرجوزة أحمد الرداعي اليماني. قلت: نعم، هذه الأرجوزة في آخر كتاب صفة جزيرة العرب للهمداني، وقد قرأتها فعرفت من نسق المواضع فيها أن عكاظ في طريق اليمن إلى مكة، قبل قرن المنازل أي قبل السيل الكبير الذي ظن بعض الناس أنه عكاظ.
قال الشيخ: وأمر آخر، قال صاحب الأرجوزة:
2
قلت لها في مطلخم طاخ
لدى مناخ أيما مناخ
لأوقح ذي المنهل الوضاخ
يا ناق هم الشهر بانسلاخ
فأزمعي بالجد لا التراخي
فانتهضت بمشرف شماخ
كالجذع جذع النخلة الشمراخ
كأم أفراخ إلى أفراخ
عن ذي طوى ذي الحمض والسباخ
قاربة للورد من كلاخ
قال الهمداني:
أوقح: منهل على واد عذب الماء. وقيل لعليل من أهل صنعاء وهو في منزله: ما تشتهي؟ قال: شربة من ماء أوقح. وكلاخ: واد ماؤه ثقيل ملح. وكل هذه البلاد من تبالة إلى نخلة ديار هوازن فيها من كل بطونها. ذو طوى: وذو طوى بمكة أيضا.
قال الشيخ:
وكلاخ إلى الجنوب من هذا الجبل الذي يسمى جلدان، وهو موضع فيه أبنية ونخل، وكان صاحب الأرجوزة ذاهبا إلى الحج يعدد المواضع التي يمر بها، فذكر كلاخا هذا.
قلت: وأضيف إلى هذا أن ياقوتا قال في المعجم: وكلاخ موضع قرب عكاظ، ثم قال الراجز:
يا هند لو أبصرت عن عيان
قلائصا يوضعن في جلدان
بالقوم من يقظان أو وسنان
وكل صلت ثابت الجنان
أروع مفضال على الإخوان
لا ثلب خب ولا منان
وكل نكس حضر ضنان
معمم بالذم ضب وان
جم الخنا نوامة حيران
علمت من ذو الفضل في الركبان
قال الهمداني:
جلدان: موضع قاع واسع. خب: ثقيل، يقال هو خب ضب.
وجلدان هو الجبل الذي نرى إلى الجنوب، ذكره الراجز بعد كلاخ.
ثم قال الراجز ذاكرا ما بعد كلاخ وجلدان:
فقلت لما ثاب لي احتفاظي
والقلب فيه شبه الشواظ
سل الهوى عن قلبك المغتاظ
والعيس تطوي الأرض بالمظاظ
مشفقة من زاجر كظاظ
مسهلة للخبت من عكاظ
طوت فجاج الأرض باندعاظ
بمجمرات صلب غلاظ
بفتية لا فحش فظاظ
لا بل رواة صدق حفاظ
قال الهمداني:
المظاظ: من المماظة وهي المغاشة والمشاقة. عكاظ: بمعكد هوازن وسوق العرب القديمة، وهي لبني هلال اليوم. والاندعاظ: الاندفاع. والمجمر: الخف المستدير الصليب الجوانب.
فقد مر بعكاظ بعد كلاخ وجلدان فذكرهما بعدهما، وهو سائر من الجنوب إلى الشمال، وترى جلدان وخلفه كلاخ وليس بعدهما إلا عكاظ، ثم ماذا بعد عكاظ؟
قال الراجز:
فانجردت بالرفق العصائب
عيدية مفعمة المناكب
تاركة قران للمناقب
بحيث خط الميل كف الكاتب
وشربا في جنح ليل واقب
بكل محض حسن الضرائب
يدعو إلى الله دعاء الراغب
من مشفق من ذبه وتائب
يقول والأمر إلى العواقب
يا رب هب لي أحسن المواهب
قال الهمداني:
المفعم: الممتلئ. وقران وشرب: مكانان من أرض عكاظ، وقران هذا غير قران اليمامة، وقران الجوف جوف أرحب، وهذه المواضع من الجرداء، ويضرب على مشرق جميع هذه المواضع جبل الحضن من المحجة على يوم وكسر، ثم ضرب الناس من قران وشرب ذات اليسار فعلوا رأس السراة وهو المناقب خمس عقاب منها الغمضة وغيرها، فانحدروا فيها وسقطت بهم على قرن الحرض، وهو الذي وقته النبي عليه السلام لأهل نجد ولأهل تهامة يلملم، ولأهل الشام ومصر الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق.
فهذا قران الجبيل الذي ترى، وشرب ذكرناه آنفا.
وأما المناقب فهي الريعان التي نهبط إليها في طريقنا إلى مكة، بعد أن نجاوز السيل الصغير.
قلت: أعرفها وأعرف مضايقها ومخاوفها، حين تدخل فيها السيارات فلا تزال أبواقها تدوي حتى تخرج منها.
وقال ياقوت:
مناقب: اسم جبل معترض ، قالوا وسمي بذلك لأن فيها ثنايا وطرقا إلى اليمن، وإلى اليمامة، وإلى أعالي نجد، وإلى الطائف، ففيه ثلاث مناقب وهي عقاب ... إلخ.
وهذا يصدق قولك في أن المناقب هي هذه الريعان التي نجوزها بعد أن نرتقي من السيل الكبير إلى جبال الطائف.
ويزيد هذا ثبوتا أن صاحب الأرجوزة قال بعد ذكر مناقب:
حتى إذا أدنى الركاب مدني
بقوة المنعم لا بالوهن
استبدلت بالخوف دار الأمن
وجاءت الميقات وادي قرن
ومسجدا حف بزي الحسن
به يهل الحج قبل الركن
والمشعرون البدن أهل البدن
ويزجر المرفث كي لا يخني
ويترك الفسق الذي لا يغني
وجدل القول الذي لا يعني
قال الهمداني:
بقرن مسجد النبي
صلى الله عليه وسلم
وبئره، وهو واد ونخل وحصون، وهو على رأس البوباة.
فقد أقبل على الميقات ميقات الإحرام وهو قرن المنازل. ونحن نعلم أن الناس يحرمون اليوم عند السيل الكبير، وهو أول ما يلقى السائر حين يهبط من جبال الطائف في طريقه إلى مكة، فهذا يصدق القول بأن مناقب هي هذه الريعان.
قلت: ودليل آخر إن بقيت حاجة إلى الاستدلال والنقل عن الكتب؛ نقل الفاسي في كتابه العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين عن أبي الوليد الأزرقي ما يأتي:
وعكاظ وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء في عمل الطائف على بريد منها، وهي سوق لقيس عيلان وثقيف، وأرضها لنصر.
فالآن وضحت الأدلة؛ قد قرأنا وصف عكاظ، وقرأنا عن منازل قريبة منه، وعن أودية فيه أو بجانبه، وكانت كلها مبهمة في عقلي حتى بينتها في هذا المقام. بارك الله فيك. •••
ثم قلت ونحن على الحرة: إن القبائل لا تجتمع على غير ماء، فأين الماء إن كان هذا موضع عكاظ؟ إن وادي شرب ووادي الأخيضر لا يدوم فيهما الماء، فكيف كان أهل عكاظ يشربون ويسقون أنعامهم إن لم يكن فيه ماء معين؟ قال ضيف الله أحد رفاقنا، وهو من قبيلة عتيبة: انظر في مجرى الوادي - وأشار صوب المشرق - هذه الأحجار على فوهة بئر، وتلك الأحجار على بئر أخرى ، وآبار كثيرة هنا طمها الوادي.
ونزلنا من الحرة فسرنا في سهل عكاظ، فرأينا آثار بناء آخر، وجدرا من الأحجار مسواة بالأرض، وسرنا إلى العبيلاوات البيض فرأينا بعضها، وكلها بيضاء من رخام أو مرمر. •••
ثم أوينا إلى فسطاط كبير فرش بالبسط، ومد لنا سماط كان في أدواته وألوان طعامه ما بعد بنا عن البادية وأخرجنا من عكاظ حينا.
ولبثنا إلى ما بعد العصر، ثم ركبنا نضرب في السهل شطر الجنوب نريد العبلاء البيضاء التي رأيناها ونحن فوق الحرة، ونطمح إلى جلدان وما يليه، فانتهينا إلى أكمة بيضاء حجارتها كحجارة العبيلاوات التي رأيناها آنفا، وصعدنا عليها فأجلنا الطرف فيما حولنا نرى الحرة من بعيد ونرى جلدان. وأشير إلى نخل شطر الغرب والجنوب فقيل: وهذا الأخيضر، وهو للعداوين أي لقبيلة عدوان، وعدوان في هذه المواضع منذ الجاهلية. وعبرنا وادي الأخيضر فارتفعنا عن سهل عكاظ نؤم الحوية فالطائف، وقد نزلنا في أحد بساتين سمو الأمير فيصل في الحوية، فاسترحنا وأكلنا عنبا وجلنا بين الأشجار والثمار قليلا، ثم دخلنا الطائف بعد الغروب، وقد بلغت أربا من عكاظ وأيقنت أنه هذا الموضع لا ريب، وأن قولنا فيه قول فصل، وقد قطعت جهيزة قول كل خطيب.
هوامش
مقال الشيخ محمد بن بليهد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحديث على ذكر عكاظ والعثور على موضعه بعد اندراسه في أوائل القرن الثاني، وقد أكثر أهل المعاجم من ذكره، وأهل كتب التاريخ على اختلاف بينهم في رواياتهم، ولم يهتدوا إلى موضعه، وقد كشفنا مكانه بالروايات الصادقة التي وقفنا عليها ورأينا ما ذكر هناك:
موضعه يبعد عن مطار الحوية مسافة اثني عشر كيلا للسيارات تقريبا من الجهة الشرقية، غربي موضع ذلك السوق مجمع الواديين: وادي شرب ووادي الأخيضر، شرقيه ماء يقال له المبعوث. فالعجب من اندراس هذه السوق، وهي من أعظم أسواق العرب في الجاهلية، وفي أول الإسلام تنتابها الناس من كل ناحية، فلما كانت سنة 129 من الهجرة، وظهرت الخوارج الحرورية مع المختار بن عوف بمكة، نهب هذه السوق، فما زالت يقلص ظلها شهرا بعد شهر، وعاما بعد عام حتى اندرس اسمها، وعمي عن الأبصار رسمها. وكانت أهل المعاجم إذا أتت على ذكر عكاظ تقول هي على مرحلتين من مكة وعلى مرحلة من الطائف، وكثر التضارب والاختلاف في تحديدها، فمنهم من قال إنها السيل الصغير، ومنهم من قال إنها السيل الكبير أو قريب منه؛ وكل هذه الأقاويل خطأ لأنها لم يستند أهلها على شيء يثبت ذلك. والتحديد الصحيح الذي عن معرفة ويقين ما ذكرته في أول هذه العبرة الذي غربيه مجمع الواديين وشرقيه الماء المسمى المبعوث، فمن أراد أن يقف برجله ويرى بعينه الآثار الدارسة والأطلال البالية، فليذهب إلى هناك، فإنا لم نذكر تحديد هذه السوق إلا مستندين على خمسة أسانيد صحيحة:
أحدها:
ما ذكره أحمد الرداعي اليماني في أرجوزة له رسم فيها طريق مكة، من صنعاء إلى مكة، وهو قاصد الحج، ولن نذكر من هذه الأرجوزة إلا ما دعت الحاجة إليه، وقد ذكرها الهمداني في آخر كتابه المسمى جزيرة العرب.
الثاني:
ما ذكره عرام بن الأصبغ السلمي.
الثالث:
ما ذكره الأصمعي في معجم البلدان على ذكر عكاظ.
الرابع:
ما ذكره سعيد الأفغاني في كتابه المسمى بأيام العرب، لما مر على ذكر أيام الفجار وهي تنشأ في سوق عكاظ، وهي بين كنانة وقريش وبطونها، وبين قيس عيلان وبطونها، وذكر مواضع المعارك، فكلها بعكاظ ومحيطة به.
الخامس:
ما ذكره الكميت بن زيد الأسدي، وهو بيت واحد في قصائده الهاشميات، وسنعود إلى الأسانيد الخمسة التي أشرنا إليها: «الأول»:
ما ذكره الرداعي في أرجوزته وهو يخاطب راحلته:
قلت لها في مطلخم طاخ
لدى مناخ أيما مناخ
يا ناق هم الشهر بانسلاخ
فأزمعي بالجد للتراخي
كأم أفراخ إلى أفراخ
عن ذي طوى ذي الحمض والسباخ
وأوقح ذي المنهل الوضاح
قاربة للورد من كلاخ
انظر أيها القارئ: إن الشاعر خرج من أوقح ووصل إلى كلاخ، وكلاخ وأوقح واديان معروفان بهذه الأسماء إلى هذا العهد، ثم اندفع وهو يخاطب راحلته فقال:
قلت لها سيري بلا توان
سيري بمفضال على الإخوان
ليس بفحاش ولا منان
وكل صلت ثابت الجنان
يا هند لو أبصرت عن عيان
قلائصا يوضعن في جلدان
وجلدان: موضع لم يتغير اسمه بين كلاخ وعكاظ، وهناك هضبة منفردة عن الجبال تسميها العرب إلى هذا العهد حلات جلدان.
انظر أيها القارئ: إن الشاعر الآن عند الحلات، ثم اندفع يتغنى وهو قريب من عكاظ فقال:
فقلت لما ثاب لي احتفاظي
والقلب فيه شبه الشواظ
سل الهوى عن قلبك المغتاظ
والعيس تطوي الأرض بالمظاظ
مشفقة من زاجر كظاظ
مسهلة في الأرض من عكاظ
الآن هو في عكاظ، انظر أيها القارئ كلامه لما خرج من عكاظ:
فانجردت بالرفق العصائب
عيدية مفعمة المناكب
بكل خف مستدير الجانب
وحيث خط الميل كف الكاتب
تاركة قران للمناكب
وشربا في جنح ليل واقب
انظر أيها القارئ كلام الرداعي تاركا شربا، وهو الوادي الذي يفيض على عكاظ في جنح الليل، ثم قال: «تاركة قران للمناقب»، وقران هو الوادي الذي تنعرج منه سكة عشيرة قبيل أن تطلع على السيل الصغير باق بهذا الاسم إلى هذا العهد يسمى قران، و«المناقب» معلوم أنها الريعان التي تقع بين السيل الكبير والسيل الصغير. هذا الاستناد الذي ذكرناه عن أحمد الرداعي. «الثاني»:
ما ذكره عرام بن الأصبغ في كتابه المسمى «جبال تهامة والحجاز ومحالها»، قال لما مر على ذكر عكاظ: «وهو في أرض مستوية ليس بها جبال، وإذا كنت في عكاظ طلعت عليك الشمس على حرة سوداء، وبه عبيلات بيض تطيف بها العرب في جاهليتهم ينحرون عندها» انتهى. فإني رأيت الأرض المستوية التي ليس بها جبال بعيني، ورأيت الحرة السوداء، ورأيت العبيلات البيض وأنا في صحبة صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز لما آب من قنصه، وما اشتبه علينا شيء منها. «الثالث»:
الذي عن الأصمعي في معجم البلدان، لما مر ياقوت على ذكر عكاظ، وكثر الروايات به فأصحها وأقربها للصواب قوله: قال الأصمعي: عكاظ نخل في واد، بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليال، وبه كانت تقام سوق العرب بموضع منه يقال له الأثيدا، وبه كانت أيام الفجار، وكانت هناك صخور يطوفون بها ويحجون إليها. «الرابع»:
ما ذكره سعيد الأفغاني في كتابه المسمى أيام العرب، لما مر على أيام الفجار ذكر منها ثلاثة تسمى يوم العبلاء ويوم الحريرة ويوم شرب. واسمع عبارته حين قال على يوم العبلاء: عاد الأحياء المذكورون من هؤلاء وأولئك، فالتقوا من قابل في اليوم الثالث من أيام عكاظ بالعبلاء إلى جنب عكاظ، فاقتتلوا على التعبية التي تقدمت، فكان هذا اليوم لهوازن على قريش وكنانة، فأصيبت قريش وقتل أحد صناديدها العوام بن خويلد والد الزبير بن العوام، قتله مرة بن معتب الثقفي، وقال في ذلك شاعر من ثقيف يفتخر بقتله لما له من الخطر والشرف في قومه:
منا الذي ترك العوام منجدلا
ينتابه الطير لحما بين أحجار
وفي هذا يقول شاعر هذه الحروب من هوازن، وهو خداش بن زهير:
ألم يبلغهم أنا جدعنا
لدى العبلاء خندف بالقياد
ضربناهم ببطن عكاظ حتى
تولوا طالعين من النجاد
قال في هذه العبارة لما ذكر المعركة (بالعبلاء إلى جنب عكاظ) وهو الصحيح، تقع في جنوبي عكاظ تسمى اليوم العبلا
1
يملكها قوم من عدوان. وكان عامر بن الظرب العدواني من حكام العرب في الجاهلية في عكاظ، ويمكن أن هذه القطعة وما فيها من الآبار والمزارع من ممتلكاته، وأن الباقين فيها إلى يومنا هذا من ذريته، وهو قبل مبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بثلاثمائة سنة تقريبا. وانظر كلام خداش بن زهير حين قال: «ضربناهم ببطن عكاظ حتى»، ثم قال على ذكر يوم شرب: ثم التقوا على رأس الحول في اليوم الثالث من أيام عكاظ بشرب، وشرب من عكاظ. انظر أيها القارئ إلى عبارة صاحب هذا الكتاب قال: وشرب من عكاظ، وهي معركة عظيمة هزمت قريش فيها هوازن. وقال أمية بن الأشكر الكناني:
ألا سائل هوازن يوم لاقوا
فوارس من كنانة معلمينا
لدى شرب وقد جاشوا وجشنا
فأوعب بالنفير بنو أبينا
وقال أيضا:
قومي اللذو بعكاظ طيروا شررا
من رأس قومك ضربا بالمصاقيل
انظر كلام أمية بن الأشكر لما ذكر معركة شرب، ذكرها في نفس عكاظ، والصحيح أن عكاظا فيضه شرب، وقال على يوم الحريرة وهو آخر أيامهم: ثم التقوا على رأس الحول بالحريرة، وهي حرة إلى جنب عكاظ. هذه رواية صاحب أيام العرب، وهذه الحريرة هي التي ذكرها عرام
2
بن الأصبغ السلمي التي تطلع عليها الشمس إذا كنت في عكاظ، وفي هذه المعركة انهزمت قريش، فقالت شعراء هوازن في هذه المعركة قصائد كثيرة منها هذا البيت:
لقد بلوتم فأبلاكم بلاؤهم
يوم الحريرة ضربا غير مكذوب «الخامس»:
وهو بيت الكميت بن زيد في الهاشميات حين قال في قصيدة له طويلة:
أهل الحنيفة فاسأل عن منازلهم
بالمسجدين وملقى الرحل من شرب
قال مصنف هذه الأحرف: قرأت هذه القصيدة التي منها هذا البيت على الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى، ونحن ببلدة أشيقر، وهو رجل علامة في جميع الفنون وبالأخص تاريخ العرب وأنسابهم وديارهم وتنقلاتهم، فلما مررت على هذا البيت أشكل علي منه ملقى الرحل من شرب، فسألته عن ملقى الرحل من شرب، فقال لي: إن هذا الشاعر لما ذكر بني هاشم ومكارمهم قال اسأل عن مكارمهم أهل مكة وأهل المدينة وملقى الرحل من شرب، يعني سوق عكاظ، فقلت له: شرب هو اسم لسوق عكاظ؟ قال: شرب واد قريب الطائف ينصب من الغرب إلى جهة الشرق، وعنده واد يقال له وادي الأخيضر ينصب من الغرب إلى جهة الشرق، فعكاظ مجمع الواديين. فقلت له: من أين أخذت هذا التحديد الواضح؟ قال: وجدته في كتاب من مكتبة بالبصرة - هو أحسن من معجم البلدان - عن ذكر نجد وجبالها ومياهها. فقلت له: هذا الكتاب طبع أم خط؟ فقال لي: إنه خط. انتهى.
وقد أوردنا على تحديد عكاظ الدلائل الواضحة التي لا تلتبس على أحد، والذي أضل قسما من أهل الأدب وقال إن عكاظا قريب مكة، واستدل بقول خداش بن زهير:
يا شدة قد شددنا غير كاذبة
على سخينة لولا الليل والحرم
ولوا شلالا وعظم الخيل لاحقة
كما تخب إلى أعطانها النعم
وهي قصيدة طويلة، وهي حجة من استدل بهذا البيت أن عكاظا قريب مكة، وهو لا يعلم أين موضع المعركة التي ذكر هذا البيت من أجلها، فإني أعلمها وأعلم السبب الذي جرها، وأعلم موضع المعركة، كانت في بطن نخلة بين الزيمة والبهيتة؛ فأما السبب الذي من أجله نشأت وهي أول أيام الفجار: لما اجتمعت العرب في عكاظ، وكان عروة الرحال سيد وازن قد أجار لطيمة النعمان بن المنذر التي يبعثها إلى عكاظ في كل عام تباع فيه - واللطيمة إبل تحمل الطيب والبز وطرائف من تجارة الحيرة - فلما انتصف في طريقه تبعه البراض الكناني فقتله قريب النقرة، ثم بعث رجلا إلى حرب بن أمية وهو سيد قريش في ذلك الوقت يخبره أنه قتل عروة سيد هوازن، وقال له ستجده في عكاظ، وأخبره سرا ولا تعلم بك هوازن، ففعل الرجل وأخبر حربا، فاستشار حرب رؤساء قريش وبني كنانة واتفق رأيهم على أن ينصرفوا إلى مكة ولا يحضروا عكاظا في هذا العام، ويعتذروا للقيسية بعذر عند خروجهم، ففعلوا، فبعد مضي يوم وليلة علمت القيسية بمقتل عروة، وكان سيد قيس عيلان في ذلك الوقت عامر بن مالك الذي يقال له ملاعب الأسنة، فنهض بقيس عيلان ولحقوا قريشا وكنانة، فدارت المعركة بينهم في بطن نخلة، وانهزمت قريش ومن معها، فقال خداش بن زهير هذا البيت، وظن من سمعه أن المعركة في عكاظ، وقد أفرد لهذه المعركة يوم من أيام العرب فسمي يوم نخلة، وهو يعد من أيام الفجار؛ لأنه في الأشهر الحرم، فلم تسم الفجار إلا أنهم فجروا في الأشهر الحرم، فإن الأيام الباقية غير هذا اليوم التي يقال لها الفجار فهي تنشأ في سوق عكاظ، وتدور المعركة إلى أي جهة منه، فتسمى المعركة باسم تلك الجهة، كيوم العبلاء ويوم شرب ويوم الحريرة كلها في عكاظ. وجميع ما ذكرناه عن تحديد عكاظ حاضره بأيدينا.
والحرب امتدت بين قريش وبين القيسية خمس سنوات، كل سنة تدور معركة بين الفريقين، أولها يوم نخلة . الثاني: يوم شمطة، وقال هو موضع في عكاظ. الثالث: يوم العبلاء. الرابع: يوم شرب. الخامس: يوم الحريرة. انتهى.
قد اطلعت على مصادر كتاب أيام العرب والأسانيد التي اعتمد عليها، فوجدتها من أعظم الكتب وأصحها لغرض المصنف، منها: الإكليل، والأمالي، والأزمنة والأمكنة، وأساس البلاغة، والأغاني، وتاج العروس، وتاريخ الطبري، وتاريخ العرب قبل الإسلام، وتاريخ الذهبي، وسبائك الذهب، وسيرة ابن هشام، والعقد الفريد، وصبح الأعشى، وصحيح مسلم، وصفة جزيرة العرب، وعيون الأخبار، وطبقات ابن سعد، وتاريخ الأدب العربي، وتاريخ التمدن الإسلامي، وتاريخ اليهود في بلاد العرب، ورياض الصالحين، وخزانة الأدب، وصحيح البخاري، وفتح الباري لابن حجر، والكامل لابن الأثير، والكامل للمبرد، ولسان العرب، ومجمع الأمثال للميداني، ومسالك الأبصار في ممالك الأمصار، ومعجم البلدان لياقوت، ومعجم ما استعجم للبكري، والنهاية لابن الأثير، ونهاية الأدب للنويري.
فلم نذكر من هذه المصادر إلا قريب ثلث ما ذكره مصنف الكتاب، واكتفينا بما ذكرنا، وعلى الله الاعتماد، وصلى الله على رسوله وسلم.
المملوك
محمد بليهد
هوامش
مقال الشيخ حمد الجاسر
موقع سوق عكاظ
هذه كلمة حاولت أن أوضح بها موقع سوق «عكاظ» موردا أقوال متقدمي المؤرخين، وواصفا - على ضوء مشاهدتي - المكان الذي لا يخامرني شك في أنه هو موقع ذلك السوق، ومحاولا تطبيق تلك الأقوال على أوصاف ذلك المكان، ومشيرا إلى آراء متأخري الكتاب والأدباء؛ إشارة قصدت بها إطلاع القارئ على مختلف الآراء في هذا الموضوع، وإن كانت تلك الآراء - في نظري - قد جانفت الصواب، وخالفت الحق، ولم أكلف نفسي عناء مناقشتها، أو بيان ما فيها من جنف أو خطأ يظهران بمقارنتهما بأقوال المتقدمين. (1) أقوال متقدمي المؤرخين في تحديد موقع عكاظ (1)
قال محمد بن إسحاق (...-151ه):
1
كانت مجنة بمر الظهران، إلى جبل يقال له الأصفر، وكانت عكاظ فيما بين نخلة والطائف، إلى بلد يقال له الفتق، وكان ذو المجاز ناحية عرفة؛ إلى جانبها. (2)
وقال محمد بن عمر الواقدي (130-207): عكاظ
2
فيما بين نخلة والطائف، وذو المجاز خلف عرفة، ومجنة بمر الظهران. (3)
وقال أبو عبيدة (110-209): عكاظ
3
فيما بين نخلة والطائف ، إلى موضع يقال له الفتق، وبه أموال ونخل لثقيف، بينه وبين الطائف عشرة أميال.
أقول: للطائف
4
من مكة أربعة طرق: طريق يمر بعرفات، ثم بعقبة جبل كراء، ثم بأعلى وادي قرن - وادي المحرم - ثم بالطائف، ومنه سلك الرسول
صلى الله عليه وسلم
في عودته من دعوة ثقيف إلى الإسلام، وهو أخصر الطرق وأوعرها. والثاني: يمر بنهل حنين - عين الشرائع - ثم يتجه صوب الشرق، فيصعد عقبة دجنى (وتصحف في الكتب القديمة بدحنى وتحرف بتجنى) فوادي قرن، فالطائف، وكانت القوافل تأتي معه؛ قال أحد شعراء مكة في القرن الحادي عشر الهجري:
رأى صاحبي أثمار «وج» فقال لي:
ترى هذه الأثمار تسقط أم تجنى؟
فقلت له: كلها - هنيئا - فإنما
أطايبها «تجنى» وتأتيك من «تجنى»
والطريق الثالث: يمر بالشرائع، فوادي يدعان (جدعان في هذا العهد)، فوادي سبوحة، فقرية الزيمة، فوادي نخلة اليمانية، فقرن المنازل (السيل الكبير)، فالمناقب (الريعان جمع ريع)، ثم ينحرف ذات اليمين إلى الطائف، وهذا هو الطريق الرئيسي في هذا العهد، للسيارات وللقوافل. والرابع: لا ينحرف بعد المناقب، بل يتجه شرقا حتى يجوز الجبال، ويدع جبال الطائف أيمنه، فيمر بقرب عكاظ، ثم يأتي إلى الطائف من أسفله، والمتقدمون الذين قالوا إن سوق عكاظ بين نخلة والطائف، قصدوا هذا الطريق، ومنه سارت قريش حينما انهزمت في وقعات الفجار، مارة بنخلة، وقد سلكه الرسول
صلى الله عليه وسلم
في غزوة الطائف، مر بنخلة اليمانية، فقرن المنازل، فبطن المليح، فبحرة الرغاء من وادي لية، فوادي نخب، فالقرن الأسود، فالطائف. وقد حدد الهمداني موقع الفتق فقال:
5
إذا استقبلت مكة وأنت في الفتق، وقع الطائف بينك وبين مغرب الشمس. وقال: بين الفتق وبين المناقب اثنى عشر ميلا، وبين المناقب وبين قرن المنازل ستة أميال. وذكر أن الفتق قرية كانت لبني هلال، فخربت. وذكر الأصبهاني في الأغاني (ج1 ص149 طبعة الساسي) أن الفتق أسفل وادي العرج، ومعروف أن العرج شمال الطائف بميل قليل إلى الشرق. (4)
وقال الأصمعي (122-216):
6
عكاظ نخل في واد، بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليال ، وبه كانت تقوم سوق العرب، بموضع يقال له الأثيداء، وبه كانت أيام الفجار، وكانت هناك صخور يطوفون بها ويحجون إليها. (5)
وقال ابن هشام (...-218 تقريبا):
7
وكانت عكاظ في وسط أرض قيس عيلان. (6)
وقال الأزرقي (...-244 تقريبا):
8
وعكاظ وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء، في عمل الطائف على بريد منها، وهي سوق لقيس عيلان وثقيف، وأرضها لنصر ... (7)
وقال محمد بن حبيب البغدادي (...-245):
9
جهاز [صنم] لهوازن بعكاظ. وقال: عكاظ بأعلى نجد، قريبا من عرفات. كذا ورد في كتاب «المحبر ص267 المطبوع في الهند» ولعله سقط منه، أو من الأصل الذي نقل عنه المؤلف - إن كان له أصل - كلمة (وذو المجاز) بعد كلمة نجد، وإلا فأين أعلى نجد من عرفات؟! ومن الغريب أن الذين جاءوا بعد ابن حبيب ونقلوا كلامه، نقلوه بهذه الصورة؛ كالمرزوقي في كتاب الأزمنة والأمكنة، وأبي عبيد البكري في كتاب معجم ما استعجم، والحميري في كتاب الروض المعطار. (8)
وقال عرام بن الأصبغ السلمي:
10
والقفا جبل لبني هلال، حذاء عن ... وحذاؤه جبل آخر يقال له بس، وفي أصله ماء يقال له بقعاء، لبني هلال، بئر كثيرة الماء، ليس عليها زرع، وحذاؤها أخرى يقال لها الحدود، وعكاظ منها على غلوة.
11
وعكاظ صحراء مستوية، ليس فيها جبل ولا علم، إلا ما كان من الأنصاب التي كانت في الجاهلية، وبها الدماء من دماء الإبل كالأرجام العظام، وحذاؤها عين يقال لها خليص للعمريين، وخليص هذا رجل، وهو ببلاد تسمى ركبة. (9)
وقال ابن واضح اليعقوبي (...-292):
12
سوق عكاظ بأعلى نجد، تقوم في ذي القعدة، وينزلها قريش وسائر العرب، إلا أن أكثرها مضر. (10)
وقال الهمداني (...-334 تقريبا)
13 - بعد أن أورد قول عيسى بن أحمد الرداعي في أرجوزته التي وصف بها طريق الحج من صنعاء إلى مكة - وقد أوردت من أبياتها موضع الشاهد:
يا ناق هم الشهر بانسلاخ
فأزمعي بالجد، لا التراخي
عن ذي «طوى» ذي الحمض والسباخ
قاربة للورد من «كلاخ»
مشفقة من زاجر كظاظ
مسهلة للخبت من «عكاظ»
تاركة «قران» «للمناقب»
و«شربا» في جنح ليل واقب
قال الهمداني: عكاظ بمعكد هوازن، وهو سوق العرب القديمة، وهو لبني هلال اليوم ... قران وشرب مكانان من أرض عكاظ، وهذه المواضع من الجرداء، ويضرب على مشرق هذه المواضع جبل الحضن، من المحجة على يوم وكسر، ثم ضرب الناس من قران وشرب ذات اليسار، فعلوا رأس السراة وهو المناقب، وانحدروا فيها وسقطت بهم على قرن الحرض، وهو الذي وقته النبي
صلى الله عليه وسلم
لأهل نجد. وقال: وحضن عكاظ جبل، وفيه يقول الأعشى: كخلقاء من هضبات الحضن.
وقال الراجز:
لما بدا شغف بأعلى السي
وحضن مثل قرا الزنجي
وقال الهمداني أيضا: سراة الطائف غورها مكة، ونجدها ديار هوازن من عكاظ والفتق. (11)
وقال أبو عبيد البكري (...-487):
14
عكاظ بضم أوله، وفتح ثانيه، وبالظاء المعجم، صحراء مستوية، لا علم فيها ولا جبل، إلا ما كان من الأنصاب التي كانت بها في الجاهلية، وبها دماء الإبل كالأرحاء
15
العظام، وكانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا لمكة في الجاهلية، وعكاظ على دعوة من ماءة يقال لها نقعاء؛
16
بئر لا تنكف ... واتخذت سوقا بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وتركت عام الحرورية مع المختار بن عوف سنة 129 إلى هلم جرا ... ويتصل بعكاظ بلد تسمى ركبة، وبها عين تسمى عين خليص، للعمريين، وخليص رجل نسبت إليه. وذكر أبو عبيدة أنه كان بعكاظ أربعة أيام، يوم شمطة، ويوم العبلاء، ويوم شرب، ويوم الحريرة، وهي كلها من عكاظ، فشمطة من عكاظ، وهو الموضع الذي نزلت به قريش وحلفاؤها من بني كنانة، بعد يوم نخلة، وهو أول يوم اقتتلوا به في أيام الفجار، على ما تواعدت عليه من هوازن وحلفائها من ثقيف وغيرهم، فكان يوم شمطة لهوازن على كنانة وقريش، ولم يقتل من قريش أحد يذكر، واعتزلت بكر بن عبد مناة بن كنانة، إلى جبل يقال له دخم، فلم يقتل منهم أحد، وقال خداش بن زهير:
فأبلغ - إن مررت به - هشاما
وعبد الله أبلغ، والوليدا
بأنا يوم شمطة قد أقمنا
عمود الدين،
17
إن له عمودا
ثم التقى الأحياء المذكورة على رأس الحول، من يوم شمطة، بالعبلاء ، إلى جنب عكاظ، فكان لهوازن أيضا على قريش وكنانة. وقال خداش بن زهير:
ألم يبلغكم أنا جدعنا
لدى العبلاء خندف بالقياد
ضربناهم ببطن عكاظ حتى
تولوا طالعين من النجاد
فهو يوم العبلاء، ثم التقوا على رأس الحول، وهو اليوم الرابع من يوم نخلة بشرب، وشرب من عكاظ، ولم يكن بينهم يوم أعظم منه، فحافظت قريش وكنانة، وقد كان تقدم لهوازن عليهم يومان، وقيد أبو سفيان وحرب ابنا أمية، وأبو سفيان بن حرب أنفسهم، وقالوا: لا يبرح رجل منا مكانه حتى نموت أو نظهر، فسموا العنابسة، وجعل بلعاء بن قيس يرتجز:
إن عكاظا ملؤنا فخلوه
وذو المجاز بعد لن تحلوه
فانهزمت هوازن وقيس كلها؛ إلا بني نصر، فإنها صبرت مع ثقيف، وذلك أن عكاظا بلدهم، ولهم فيها نخل وأموال، فلم يغنوا شيئا ثم انهزموا، وقتلت هوازن يومئذ قتلا ذريعا. قال أمية بن الأشكر الكناني:
ألا سائل هوازن يوم لاقوا
فوارس من كنانة معلمينا
لدى «شرب» وقد جاشوا وجشنا
فأوعب في النفير بنو أبينا
ثم التقوا على رأس الحول بالحريرة، وهي حرة إلى جنب عكاظ مما يلي مهب جنوبها، فكان لهوازن على قريش وكنانة، وهو يوم الحريرة. (12)
وقال الشريف الإدريسي (...-565):
18
وسوق عكاظ قرية كالمدينة جامعة، لها مزارع ونخيل، ومياه كثيرة، ولها سوق يوما في الجمعة (كذا) وذلك يوم الأحد، يقصد إليها في ذلك اليوم بأنواع التجارات أهل تلك الناحية، فإذا أمسى انصرف كل واحد إلى موضعه ومكانه. ومن سوق عكاظ إلى مدينة نجران خمس مراحل. (13)
وقال ياقوت الحموي (...-626):
19
العبلاء اسم علم لصخرة بيضاء إلى جنب عكاظ. وقال: كلاخ - بالخاء المعجمة - موضع قرب عكاظ. (14)
وقال الحميري - مؤلف الروض المعطار:
20
عكاظ صحراء لا علم فيها ولا جبل، إلا ما كان فيها من الأنصاب التي كانت في الجاهلية، وهي بأعلى نجد، وقريب من عرفات (كذا)، وقيل هي وراء قرن المنازل بمرحلة، في طريق صنعاء، وهي من عمل الطائف، وقيل هي على ثلاث مراحل من تبالة. وسوق عكاظ قرية كالمدينة جامعة ، لها مزارع ونخيل، ومياه كثيرة ، ولها سوق في يوم الجمعة، يقصده الناس في ذلك اليوم بأنواع التجارات، فإذا أمسى المساء انصرف كل واحد إلى موضعه. (15)
وقال الفيومي (...-770):
21
عكاظ - وزان غراب - سوق من أعظم أسواق الجاهلية، وراء قرن المنازل بمرحلة، من عمل الطائف على طريق اليمن، وقال أبو عبيد: هو صحراء مستوية، لا جبل فيها ولا علم، وهي بين نجد والطائف.
هذه جملة من أقوال المتقدمين، الذين تعرضوا لتحديد «عكاظ»، وهي على اختلاف عباراتها متقاربة في المعنى، بل متطابقة من حيث الجملة، وقد لا يوجد للمتقدمين من المؤرخين من الأقوال، في تحديد سوق «عكاظ» ما يخالفها. (2) خلاصة الأقوال المتقدمة
تتلخص تلك الأقوال، بأن موقع سوق عكاظ: (1)
في أعلى نجد، فليس في تهامة، ولا في الحجاز، ولا في اليمن، ولذلك عده ابن خرداذبة في كتاب المسالك
22
وابن رستة في الأعلاق
23
النفيسة، والبكري في معجم
24
ما استعجم - من مخاليف مكة النجدية. (2)
وأنه في ديار قيس عيلان من مضر، ثم في بلاد بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن بن قيس عيلان، في أول الإسلام، ثم كان في القرن الثالث الهجري وأول الرابع من منازل بني هلال. ومنازل بني نصر بن معاوية في ذلك العهد هي الأودية المنحدرة من سلسلة سراة الطائف، شرقا وشمالا إلى نجد، وما يقرب منها من مواضع لا تزال معروفة بأسمائها القديمة مثل: ركبة، وبسل، ولية - وفيه هدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حصن
25
مالك بن عوف، رئيس تلك القبيلة - وجلدان، وبس، وقران، والعقيق. وقد تبلغ بلادهم إلى حدود النخلتين، ويجاورهم غربا قبيلة هذيل، وجنوبا ثقيف - حلفاؤهم وخلطاؤهم في الديار - ومن الشمال - نحو الشرق - بنو هلال بن عامر، الذين حلوا بلادهم حقبة من الزمن، وتحالهم قبيلة عدوان في البلاد المتصلة بديار ثقيف، ولا تزال بقية بني نصر هؤلاء في تلك المواضع. (3)
وأنه يبعد عن الطائف مسافة اختلف المتقدمون في تقديرها بين عشرة أميال، أو بريد (= 12 ميلا)، أو مسيرة يوم، ولكن هذا الاختلاف ليس جوهريا، فإذا لاحظنا أن الطائف لا يطلق على المدينة وحدها ، بل يشمل ما يجاورها من الأمكنة والقرى التابعة لها، ظهر لنا أن تحديد المسافة في جميع تلك الأقوال، له وجه من الصحة والاتفاق. (4)
وأنه على طريق اليمن من مكة، بين المناقب وبين كلاخ؛ لليمن طريقان: تهامي يأخذ على الساحل، وآخر يأخذ على أطراف السراة مارا ببلاد عسير، وهو الذي يقع عكاظ عليه، وقد حدد الهمداني في صفة جزيرة العرب (ص187) مراحل هذا الطريق، فقال - باختصار - ومن يبشة بعطان إلى تبالة 11 ميلا، وهي من صنعاء على 23 بريدا (أو 276 ميلا)، وعرضها 18 درجة،
26
وثلث، وعشر. ومنها إلى القريحاء 22 ميلا، وعرضها 19 درجة. ومنها إلى كرى
27
16 ميلا، وعرض كرى 19 درجة، وسدس، وثلثا عشر. ومن كرى إلى تربة 15 ميلا، وعرضها 19 درجة، وثلث، وثمن درجة. ومنها إلى الضفن 22 ميلا، وعرض الضفن 19 درجة، وثلثان، وثمن. ومنها إلى الفتق، ثلاثة وعشرون ميلا؛ وهي من صنعاء على ثلاثين بريدا (أو 260 ميلا)، والفتق والطائف ومكة على خط الطول من المشرق إلى المغرب، وعرض الفتق 20 درجة، وعشر درجة. ومنها إلى رأس المناقب اثنا عشر ميلا، وهي منتهى الطريق إلى وجه الشمال، ثم رجعت نحو المغرب أو الجنوب. وعرض المناقب عشرون درجة، وربع، وثلث عشر. ومن رأس المناقب إلى قرن - ويسمى قرن المنازل - ستة أميال. انتهى.
وقد يعدل هذا الطريق من الفتق، فيتجه شمالا نحو منهل غمرة؛ فذات عرق - ميقات أهل العراق - حيث يجتمع مع طريق العراق إلى مكة، وتبلغ نهاية اتجاهه شمالا في منهل غمرة، التي ذكر الهمداني (ص185) أن عرضها 22 درجة، وأنها تبعد عن ذات عرق 21 ميلا، وذكر أن عرض ذات عرق (
درجة). ووصف ابن رستة (ص179) غمرة بأنها منزل خصب، كثير الماء من البرك والآبار، وقال: ومن هذا المنزل يحرم الحاج إلا الجمالين، فإنهم يحرمون من ذات عرق. وقال قدامة بن جعفر الكاتب:
28
ومن الغمرة تعدل إلى اليمين، فمن الغمرة إلى الخدد 12 ميلا - وهو موضع البريد، ومنقسم القوافل، وليس فيه إلا بئر واحدة، ونخل وزرع يستقى لها بالإبل، وهي موضع يسر مولى عثمان بن عفان - ومن الخدد إلى الفتق، ومن الفتق إلى تربة ، وهي قرية عظيمة بها عيون جارية وزروع، وهي قرية خالصة مولاة المهدي.
ولعل من المفيد أن نذكر هنا من أرجوزة الرداعي ما له صلة في هذا الموضوع، لأنه حدد مراحل هذا الطريق، وعدد مناهله، وبين كثيرا من أعلامه، قال:
29
ثم انتحت بالسير - منها - المطنب
إلى «غرابات القرين» الأنصب
ثم «الخريداء» بوخذ متعب
ثم إلى «صفن» روي المشرب
ثم على «ركبة» مر الأركب
الغراب: قرن منتصب، والخريداء أرض واسعة، وصفن منهل تأتيه الأعلاف من أمطار من ناحية الطائف.
قلت لها في مطلخم طاخ «بأوقح» ذي المنهل الوضاخ
يا ناق هم الشهر بانسلاخ
فانتهضت بمشرف شماخ
عن «ذي طوى» ذي الحمض والسباخ
قاربة للورد من «كلاخ»
أوقح منهل على واد عذب الماء،
30
وقيل لعليل من أهل صنعاء - وهو في منزله: ماذا تشتهي؟ قال: شربة من ماء أوقح. وكلاخ واد ماؤه ثقيل ملح، وكل هذه البلاد من تبالة إلى نخلة ديار هوازن، فيها من كل بطونها.
يا هند لو أبصرت عن عيان
قلائصا يوضعن في «جلدان»
بالقوم من يقظان أو وسنان
علمت من ذو الفضل في الركبان
جلدان:
31
موضع؛ قاع.
إذا انتحى القوم على الخوص العتق
عن «ذات أصداء» سنا في «الفتق»
أقول للبارق وهنا إذ برق:
هيجت أشجانا لذي شوق علق ••• ... فقلت لما ثاب لي احتفاظي
سل الهوى عن قلبك المغتاظ
والعيس تطوي الأرض بالمظاظ
مسهلة للخبت من «عكاظ» •••
فانجردت بالرفق العصائب
عيدية مفعمة المناكب
تاركة «قران» ل «المناقب»
و«شربا» في جنح ليل واقب •••
حتى إذا أدنى الركاب مدني
استبدلت بالخوف دار الأمن
وجاءت الميقات «وادي قرن»
ومسجدا حف بزي الحسن
بقرن مسجد النبي
صلى الله عليه وسلم
وبئره، وهو واد ونخل وحصون، وهو على رأس البوباة.
ثم استطفوا فوق يعملات
مفضين بالمسير إلى «البوبات»
البوبات
32
أرض منقلبة إلى وادي نخلة، ومصعدها إلى قرن كثيب، لا تكاد تعدوه الروايا والأنضاء.
ثم اعتزمن - العيس - بالتصميم
قواصدا للمسجد المعلوم
تواركا «للكفو» «فاليسوم»
المسجد المعلوم مسجد إبراهيم عليه السلام، إلى رأس وادي نخلة، ينزل الناس فيصلون فيه ويدعون، والكفو واليسوم
33
جبلان بنخلة.
لضيعة الطلحي مستقيمة
صادرة عنها تؤم «الزيمة»
ثم على «سبوحة» القديمة
إلى «أريك» تعتلي صميمة
ضيعة الطلحي - من قريش - نخل قديمات. الزيمة موضع فيه بستان ابن عبيد الله الهاشمي، وكان في أيام المقتدر على غاية من العمارة، وكان يغل خمسة آلاف دينار، وفيه حصن للمقاتلة مبني بالصخر، ويحميه بنو سعد ... وعدد جذوعه ألوف، وفيه غيل مستخرج من وادي نخلة،
34
غزير؛ يفضي إلى فوارة في وسط الحائط، تحت حنية، ثم إلى مأجل كبير، وفيه الموز والحناء، وأنواع من البقول، وسبوحة موضع. وأريك عقبة تضاف إلى المكان فيقال عقبة أريك بضم الهمزة ... والطريق حينئذ من رأس المناقب إلى مكة بين المغرب والجنوب، ثم تكون الشمس - عاشيا - على صدغك الأيمن.
ثم انتحت، وخدا على انكماش
بئر «الجذامي» باحتياش
إلى «حنين» المنهل الجياش
حتى إذا أفضت إلى «المشاش»
عجت بتحنان لشوق غاشي
آبار الجذامي: بئر معمورة - والجذامي من أهل مكة، وحنين هو الذي كانت فيه وقعة حنين بين النبي
صلى الله عليه وسلم
وهوازن. المشاش موضع تلتقي فيه محجة اليمن ونجد، ومحجة العراق والبحرين. انتهى ملخصا. (5)
وأنه يقع في صحراء مستوية، خالية من الأعلام والجبال، سوى صخرات كبار، وحريرة في مهب الجنوب منه. (6)
وأنه متصل بأرض ركبة، ويقع حضن - الجبل المعروف - في مشرقه، مسيرة يوم وكسر، ويقع وادي قران في مغربه بقربه. (7)
وأن من أوديته وادي «شرب». (3) أين موقع سوق عكاظ
إن جميع الأوصاف المتقدمة، تنطبق انطباقا تاما على الأرض الواسعة، الواقعة شرق الطائف - بميل نحو الشمال - خارج سلسلة الجبال المطيفة به، وتبعد تلك الأرض عن الطائف مسافة 35 (كيلومترا) تقريبا، ويحدها غربا جبال بلاد عدوان (العقرب - شرب - العبيلاء)، وجنوبا: أبرق العبيلاء، وضلع الخلص،
35
وشرقا: صحراء ركبة، وشمالا: طرف ركبة والجبال الواقعة شرق وادي قران. وتشمل هذه الأرض وادي الأخيضر (وهو المعروف في العهد القديم باسم وادي عكاظ) ووادي شرب، حينما يفيضان في الصحراء، ويخرجان من الجبال، وما بينهما من الأرض، وما اتصل بهما من طرف ركبة . (4) المواضع التي بقرب عكاظ
ذكر المتقدمون مواضع كثيرة، يستدل بها على موضع عكاظ، منها ما هو معروف في هذا العهد باسمه القديم، ومنها ما هو مجهول، فمن المواضع المعروفة: (1)
بس: وهو جبل أسود (طرف حرة) مشرف على منهل عشيرة، التي هي المحطة الأولى بعد قرن المنازل للذاهب إلى نجد، ويقع هذا الجبل شمال موقع عكاظ، بمسافة أقل من مسيرة نهار للإبل. (2)
جلدان: وهي أرض سهلة واسعة، تقع بين وادي لية وبين وادي بسل، متصلة بركبة، وفيها هضبة سوداء، تسمى قديما «بتعة»، نقل ياقوت
36
عن الأصمعي أن بها نقبا، كل نقب قدر ساعة، كان يلتقط بها السيوف العادية والخرز، ويزعمون أن فيها قبورا لعاد، وكانوا يعظمون ذلك الجبل. ا.ه.
وتسمى هذه الهضبة في عهدنا «الحلاة؛ حلاة جلدان». ومن كلام بدو تلك الناحية: من ملك نزهان بن نزهان، وأتانة وأتان، وخمسين من الضان، ومرعى جنب «حلاوة جلدان»، فهو سلطان ما عليه سلطان؛ أي من ملك كلبا أصيلا، وحمارين ذكرا وأنثى، وخمسين شاة يرعاها في هذا الموضع، فقد بلغ الغاية من العز. (3)
حضن: وهو الجبل المعروف الذي ورد فيه المثل: من رأى حضنا فقد أنجد، ويقع شرقي موقع عكاظ، ويشاهد منه عن بعد؛ مسيرة يوم للإبل. وقد أضافه الهمداني إلى عكاظ، تمييزا له عن جبل آخر يسمى بهذا الاسم في بلاد باهلة (في عرض شمام). (4)
ركبة، وهي فلاة واسعة تبلغ مسيرة أيام للإبل، ولكل جهة منها اسم خاص كوجرة، والسي. وعكاظ في طرفها الغربي الجنوبي، متصل بها. (5)
شرب: وهو واد عظيم أعلاه وادي العقيق، الواقع غرب الطائف وشماله، ثم ينحدر مارا بمزارع القيم، فأم الحمض، فالقديرة، ثم يلتقي به وادي الحوية من الغرب، فيكونان واديا واحدا يدعى وادي «شرب»، وعلى مسافة ميل واحد من الحوية تقع قرية شرب في الوادي نفسه، ثم يجوز السلسلة الجبلية، ويفضي إلى الأرض البراح فثم عكاظ حتى تنتهي إلى وادي الأخيضر الواقع شرقا عن وادي شرب، ويفضي الواديان في ركبة. وقد يطلق على سوق عكاظ اسم شرب كما في قول الكميت - الذي أورده البكري في معجمه (ص809).
وفي الحنيفة فاسأل عن مكانهم
بالموقفين، وملقى الرحل من شرب (6)
العبلاء: قرية ذكر الهمداني أنها خربت، وتقع بقرب العبيلاء قرية عدوان المعروفة، وتقع جنوب عكاظ مجاورة له، وقد ذكر الأصبهاني في الأغاني - في ترجمة ابن الدمينة - أنه كان ينشد شعره في سوق العبلاء، فلعل سوق عكاظ كان يطلق عليه سوق العبلاء، وأنه امتد إلى ذلك العهد، خلافا لقول البكري ومن تابعه. (7)
عن: جبل يقع يمين المتجه إلى تربة، ويشاهد على مسافة بعيدة في طرف ركبة الجنوبي، ويقع شرق قرية «كلاخ»، وفيه وشل يرده بعض المسافرين الذين لا يمرون بكلاخ. (8)
قران: واد ينحدر من الأرض الواقعة بين وادي الحوية ووادي السيل الصغير (الواقع غربه)، ويجتمع بالعقيق الكبير - الذي هو أعظم الأعقة وأطولها. ويقع وادي قران غرب عكاظ، يفصل بينهما آكام (جبال صغيرة) تمتد من الجنوب الغربي، إلى الشمال الشرقي، وقد عد الهمداني قران من أرض عكاظ، والظاهر أنه خارج عنها. وفي العقيق يقول الصمة الجشمي
37 - والد دريد - في حرب الفجار التي وقعت في عكاظ:
ولاقت قريش غداة «العقي
ق» أمرا - لها - وجدته وبيلا
وجئنا إليهم كموج الآتي
يعلو النجاد، ويملا السبيلا (9)
كلاخ:
38
قرية فيها مزارع، أسفل وادي بسل، وتقع جنوب عكاظ بميل إلى الشرق.
المواضع المجهولة (1)
الأثيداء: الموضع الذي ذكر الأصمعي أن السوق يقام فيه. (2)
بقعاء: يفهم من قول عرام إنها بئر في أصل بس؛ أنها بئر عشيرة القديمة، أو بقربها، إذ هذا الوصف ينطبق عليها. (3)
جبجب: موضع نقل البكري عن ابن الأعرابي أنه من عكاظ. (4)
الحريرة - تصغير حرة: يفهم من كلام المتقدمين أنها هي المعروفة الآن باسم «ضلع الخلص»، والضلع في لغة عرب هذا العصر: الجبيل، وهذا الخلص: جبيل أسود صغير، يقع في الجنوب، بميل قليل نحو الشرق من موقع عكاظ. (5)
الخدود - أو الخدد: قرية، يفهم من كلام الحموي والزبيدي - وقبلهما قدامة الكاتب وقد مر كلامه - أنها تقع شمال عكاظ، فيما بينه وبين منهل عشيرة. (6)
دخم: الجبل الذي لجأت إليه بنو كنانة يوم شمطة، لا يبعد أن يكون هو الجبل المسمى في عهدنا ب «الصالح» بقرب قرية «المقرب» لعدوان، ويسمونه الصالح لاعتقادهم بأن رجلا صالحا قبر فيه، وهم يعظمون ذلك الجبل في العهد الماضي، ويقع غرب موقع عكاظ بمسافة قصيرة. (7)
شمطة: موضع في عكاظ - غير معروف. (8)
عين خليص: غير معروفة، ولعلها كانت بقرب ضلع الخلص. (9)
الفتق: بلد قد خرب - كما ذكر الهمداني - ويفهم من كلام المتقدمين أنه جنوب عكاظ، بينه وبين العرج. وقول أبي عبيدة (به أموال ونخل لثقيف) يقصد الفتق، لا عكاظا؛ لأنه ذكر في خبر حرب الفجار - الذي نقله البكري عنه - أن عكاظا بلد لبني نصر، ولهم فيه نخل وأموال. (10)
القفل: جبل، يدل كلام عرام على أنه أحد الجبال المجاورة لعن، الواقعة جنوب ركبة، وقد أورد عرام فيه هذا البيت:
وقالوا: خرجنا م «القفا» وجنوبه
و«عن» فهم القلب أن يتصدعا (5) سكان هذه النواحي
أشار المتقدمون إلى أن هذه الجهات من منازل هوازن، ثم صارت لبني هلال، والظاهر أن بني هلال حلوها وقت انتشارهم وقوتهم، في القرنين الثالث والرابع الهجريين، ثم لما هاجروا بعد ذلك إلى مصر، ثم إلى بلاد المغرب، عاد سكانها القدماء إليها، ولا يزالون بها. فمن سكانها: (1)
الجثمة: واحدهم جثامي، وقد يقال: جشامي - بتخفيف الشين حتى تقرب من الثاء - والجثمة تحريف «الجشمة» بالشين لتقارب الحرفين في بعض صفات النطق، وهم بنو جشم بن بكر بن معاوية بن هوازن - إخوة بني نصر - وقبيلة دريد بن الصمة، وتسكن هذه القبيلة في وادي قران، ووادي العقيق، وفي السيل الصغير. (2)
عدوان: القبيلة القديمة، التي منها حكيم العرب عامر بن الظرب، وذو الإصبع الشاعر، وغيرهما. وتسكن في قرية «العقرب» - وهي على ضفة وادي الأخيضر في أعلاه، وفيها نخل وزروع، وفيها عين أوشكت أن تغور - وفي قرية «الخضيراء» - الواقعة على ربوة شرب الغربية بقرب «المطار» - وفي قرية «العبيلاء». (3)
العصمة: وهم حلفاء لبني جشم منذ العهد الجاهلي، كما في كتب النسب، ويسكنون أسفل وادي لية، في واد يسمى باسمهم. (4)
ثقيف: كانت قبيلة ثقيف تجاور هوازن، في أسفل أودية الطائف (لية - العرج - شرب) ولكنها ارتفعت إلى أعلى تلك الأودية، ولا تزال فيها إلى هذا العهد. (6) آراء المتأخرين في تحديد موضع عكاظ (1)
رأي الأستاذ خير الدين الزركلي؛ قال في رحلته «ما رأيت وما سمعت»: وعلى ذكر السيل - أو اليمانية - لا أرى أن تفوتني الإشارة إلى أشهر سوق من أسواق العرب، أعني سوق عكاظ، لوقوعها في تلك الطريق على مرحلتين من مكة للذاهب إلى الطائف عن طريق السيل. يميل قاصد عكاظ نحو اليمين، فيسير نحو نصف ساعة، فإذا هو أمام نهر في باحة واسعة الجوانب، يسمونها «القانس» بالقاف المعقودة - وهو موضع سوق عكاظ ... إلى أن قال: والواقف في القانس - أو عكاظ - يرى على مقربة منه موضعين مرتفعين، أحدهما يسمى الدمة - بكسر ففتح - والآخر البهيتة - بصيغة التصغير - وعكاظ هو الفاصل بين الدمة والوادي الموصل إلى الطريق التي يمر بها سالكو درب «السيل» اليمانية ... ثم قال الأستاذ - بعد إيراد كلام ياقوت في المعجم: وسمعت كثيرا من أهل الطائف يقولون: إن عكاظا في مكان يعرف اليوم باسم «القهاوي» في وادي لية، من الطائف، غير أن الشيوع يؤيد ما قلناه آنفا؛ من أنه القانس نفسه، وعليه أكثر العارفين من أهل هذه الديار. (2)
رأي الأمير شكيب أرسلان - رحمه الله - قال في الارتسامات اللطاف (ص110) بعد أن أورد كلام الزركلي المتقدم: أفلا يحتمل أن يكونوا أقاموا السوق مرة في القانس، ومرة في المكان المسمى اليوم بالقهاوي؟ على أن قول الأخ الزركلي أن القهاوي هي في وادي لية، فيه نظر؛ لأن القهاوي ليست في وادي لية، ولا وادي لية هو قريب من هناك ... وقال ص117: إن المسافة من المكان الذي كانت فيه سوق عكاظ إلى مدينة الطائف، هي نحو من ساعة، بسير الكهرباء. (3)
رأي الأستاذ عبد الله فلبي؛ قال الدكتور محمد حسين هيكل باشا في «منزل الوحي» - ص380: أما المستر فلبي فيرجح السيل الصغير موقعا لعكاظ، وقد وضعها على خريطته في مكان هذا السيل . (4)
رأي الدكتور محمد حسين هيكل باشا؛ قال في «منزل الوحي» - ص381: انفرجت الجبال عن السيل الكبير، فتخطت السيارة إليه ... واستدرنا بالسيارة فيما وراء الجبل، ثم اعتدلنا نقطع بطنا من الأرض ... ووقفنا في موضع يقال له «الخر» من واد يقال له «غسلة» وراء جبل يسمى «دما» وهبطنا من السيارة، وسرنا خطوات ... ثم وقفنا عند آثار بناء في تخوم الأرض، مستوية على سطحها، يدل وجودها على وجود عمارة قديمة في المكان، تتألف من ثماني غرف حسنة البناء، ليست في شيء من منازل البدو. قال صاحبي - بعد أن زرنا هذه الآثار: أشهد أني أميل إلى ترجيح عكاظ بهذا المكان، وأحسب هذه الغرف الفسيحة كانت مقام سادة السوق. قلت: لعلك لم تبالغ إذ رجحت. ثم وصف الدكتور البناء وقال: إنه يرجح عندي قيام عكاظ بهذا المكان. وإن لم يقم سندا علميا على هذا الترجيح. انتهى باختصار.
وهذه الآراء تدور حول موضعين: السيل الكبير - المعروف قديما بقرن المنازل - في رأي الأستاذ الزركلي والدكتور هيكل باشا، والسيل الصغير الواقع بين الطائف وبين السيل الكبير - على مسافة تقرب من ثلاثين كيلومترا من الطائف في طريق مكة - في رأي المستر فلبي. وقد أغرب الأمير شكيب - رحمه الله - حينما حاول الجمع بين القولين، بقوله بإمكان إقامة السوق في الموضعين؛ مرة هنا، ومرة هناك.
هوامش
الخاتمة
بقلم حمد الجاسر
هذه آراء بعض مشاهير متأخري الكتاب، وتلك أقوال بعض متقدمي المؤرخين - من القرن الثاني الهجري إلى القرن الثامن - وللباحث أن يدرسها وأن يقارن بينها لتظهر له الحقيقة، وليرى أي الآراء أصوب، وأي الأقوال أكثر انطباقا وأوضح دلالة في تحديد ذلك الموضع التاريخي «عكاظ».
1
وقد رسمت مع هذا البحث رسما مقربا - وإن لم يكن دقيقا من كل وجه - أوضحت فيه موقع عكاظ - في رأيي - وبعض الأمكنة التي لا تزال معروفة بأسمائها في هذا العهد.
هوامش
Shafi da ba'a sani ba