وحالا ذكرت أن قنينة الوسكي التي دفعت ثمنها لم أشربها كلها، وأن في شفتي تلك الفتاة شهوة مسكرة. وكنت حينما جلست قبالة جميل، أجد مقعدي ناعما كأنه مليء بأشعار فوزي المعلوف؛ فشعرت بعد أن تطلعت إلى جميل ثانية، أن الكرسي صار وخازا كأن حشوه خطابات المطران مبارك ... فتهيأت للنهوض والانصراف، ولكن عيني إذ ذاك التقتا بعيني جميل.
سبحان الله! اليد تصافح العدو مخادعة، واللسان ينطق بالكذب، والشفتان تنفرجان عن ابتسامة ختل. أما روح الإنسان الصادقة، فقد صبها الله في العينين فلا تكذبان. وقد التقت روحانا خلال عينينا، فاغتصب جميل ضحكة، وقال: «إن في نفسك معركة يا بحار، وكدت أن تنهزم منها.» ودخل إذ ذاك أحد مستخدمي المحل فأمره جميل بأن يقفل الباب وينصرف، وألا يسمح لأحد أن يدخل علينا، ثم تابع جميل حديثه: «تريد أن تسألني سؤالا ولا تجسر. وجدتني ممسوخا. تريد أن تعرف لماذا؟ إني مخبرك. لقد عرفت أسراري كلها في زمن فقري، فلم أخفيها عنك اليوم؟ ولكني أقول لك: إنه ليس في وسعك إسعافي! إن بي مرضا لا يشفى. أنت تذكر آلامي في أيام القلة. لقد رويت لك أي مهانة ملكت نفسي يوم ذهبت وزوجتي إلى كلية الراهبات لنسجل اسم ابنتنا في ذلك المعهد، وكيف أعرضت عنا الراهبات، ورفضن قبول ابنتي لولا توسل زوجتي. وما كان ذنبنا إلا أن حقارة أثوابنا أعلنت قلة دراهمنا . تذكر كيف كنت، حين انصرفنا بعد ظهر يوم ماطر، أقبع في مدخل البناية منتظرا انقطاع المطر، وكيف كان يمر أمامي الأوتوموبيل خلف الأوتوموبيل، ترش علي الوحول، وتحمل الكثيرين من أجلاف الناس. أنت تذكر حين جاءت الجوقة الأميركية ولم نقدر أن نشهد أيا من رواياتها؛ إذ كان ثمن التذكرة خمسة دولارات. تذكر أني كنت أقترض منك الدولار والاثنين والخمسة. أنت تذكر مرارتي وثورتي وآلامي. هذا ليس عليك بجديد.
وجاءت الحرب فطوحت بنا الفاقة، وكاد سجن اليابانيين يطحن روحي وجسمي. إلى أن حررتنا جيوش الأميركان.
وكنت آمل أن تمطر الدنيا دولارات، ولكني لم أحلم بمثل هذا الطوفان. لقد كانت لي علاقات وثيقة ببعض فبارك أميركا - كما تعرف - وكان اسمي في «السوق» محترما، والبلاد خالية من البضائع. اجمع هذا إلى ذاك واضربه بشيء من الحظ، تفهم كيف أسبح الآن هذا الأوقيانوس من الأموال.
وحين هبط علي الغنى لم أصبح مقترا، بل إني ابتنيت شبه قصر في ضاحية المدينة، فرشته بأفخم الرياش. وصارت ابنتي تذهب إلى كلية الراهبات - تلك التي أرادت رفضها بسبب فقرنا - بأكبر سيارة في المدينة.
ولكن شيئا من عناصر نفسي خشن وتصلب وآلم.
فحين مرضت زوجتي قبل الحرب كنت أسهر الليل أحدثها وأواسيها، وإذ تغفو أكب على قراءة كتاب، وربما ألفت قصة أو قطعة من رواية. أما بعد الغنى، فإني أكتري لها ممرضتين؛ واحدة لليل، وأخرى للنهار، ثم أنام ملء عيني. كنت في زمن الفقر، إذ يقبل العيد، آتي بدمية رخيصة الثمن وأعطيها لابنتي وألاعبها وأضاحكها. أما اليوم، فأوصي من نيويورك على أثمن الدمى، ولكني لا أضاحك ابنتي ولا ألاعبها. في زمن العدم، كنت أدخل وعائلتي إلى دار السينما، فنضحك أو نبكي مهما كانت الصورة سخيفة. أما منذ حين، فقد أقاموا حفلة خيرية وعرضوا فيها صورة «سلم إلى السماء» وباعوني ثلاث تذاكر، الواحدة بخمسين دولارا، فبقيت زهاء ساعتين أتطلع إلى الشاشة البيضاء، فلا أرى إلا الشاك الذي أمضيته لهم: 150 دولارا، 150 دولارا، 150 دولارا. أتذكر يا بحار يوم جاءتني من لبنان علبة الزيتون ، وجئت أنت ونسيب ويوسف وسليم وداود معي إلى البيت، وفي طريقنا اشترينا بستين سنتيما خبزا و40 سنتيما خيارا، وأكلنا وأكلنا وأكلنا، وضحكنا وضحكنا وضحكنا ... أما اليوم فإن وجوه المدينة يأتون إلى العشاء في بيتي، ولا نتبادل إلا المداجاة، وإني أعد عليهم حبوب العنب إذ يأكلون؛ كيلو العنب ثمنه ثلاثة دولارات يا بحار ...
وذات يوم جاءني بريد بيروت، فإذا فيه رسالة من رفيق الصبا، وعشير الدراسة، كنت أدعوه «المكاري»؛ إذ إن معظم رجال ضيعته أكارون، وكان يدعوني «المعاز»؛ لكثرة رعاة الماعز في ضيعتي. كانت رسالة المكاري إلي كلها عواطف، وقد أرفقها بنسخة من مجلة يصدرها؛ فذاب قلبي حنوا وتذكارا، وقطعت له حوالة ب 100 دولار اشتراكا بمجلته المتواضعة. وحين رجع الأجير من البنك بالحوالة، تصفحت المجلة فوجدت أن اشتراكها عشرة دولارات. لماذا أرسل له مائة؟ من وهبني خلال أيامي كلها تسعين دولارا، حتى أرمي بهذه التسعين؟ فأرجعت الأجير إلى البنك، واستبدل الحوالة بثانية قيمتها عشرة دولارات.
وبعد ظهر ذلك اليوم انصرفنا، وكان المطر شديدا؛ فركبت أوتوموبيلي الفخم، أمر بالناس تقي رءوسها من الأمطار بالجرائد، كما كنت أفعل في أيام الحاجة. أما أنا فكان كل تفكيري أن هذا الوحل الذي يخوضه أوتوموبيلي سيضطرني إلى غسله وتشحيمه في اليوم الثاني؛ أربعة دولارات ... أربعة دولارات ... أربعة دولارات ... وأرى الناس في مداخل البنايات تنتظر انقطاع المطر، فأذكر يوم كنت أقف بينهم موجعا، فأغسل روحي بصلاة خاشعة طالبة السعة، أو شتيمة وأسبيروتية تعلن الفقر. أما الآن، أربعة دولارات ... أربعة دولارات ...
وبلغت البيت، وجلست إلى العشاء، واتفق أن زلت القدم بالخادمة؛ فوقعت وكسر الصحن الذي كانت تحمله؛ فنظرت إلى القطع تنتشر على الأرض، وتألمت كأنها كسرات من أضلعي.
Shafi da ba'a sani ba