ودخلنا غرفة كبرى كتب على رتاج بابها «الشرق الأوسط»، عمرت بالرفوف تحتشد فيها الكتب والأوراق والصور. وما إن لفظ ملر «الجامعة الأميركية في بيروت» حتى جاءه القائم على تلك الغرفة بدفاتر وكتب. وراح الماجور يقرأ إحداها عابسا بعض الأحيان، ومقهقها تارة قهقهة هزت كل خلية في جسمه، ثم سألني: بالطبع أنت تذكر بعض أغاني الجامعة؟
فوقفت وأنشدت منها أغنيتين.
فقلب مجلد صور فوتوغرافية وسأل: «هؤلاء الرجال، هل تعرف منهم أحدا؟ فحدقت وأجبت سلبا. وقلب الورقات إلي ثانية، فأشرت بإصبعي إلى تلك الهامة الجرمانية تعممها عليقة من الشعر الأبيض الكثيف وأجبت: «رحم الله الأستاذ نيكولي مدرسي في علم الاقتصاد.» - وهذه البنايات؟ - بلى، هذه «وست هول» حيث تقام الحفلات.
وكدت أن أحدثه عن «لولا المحامي» و«نخب العدو»، غير أني ذكرت أن الأميركان يمقتون المتبجحين.
ثم راح يتصفح دفترا آخر ظهرت فيه حوانيت ومتاجر ومطاعم، فلما أن وصل إلى صفحة 43، صحت: «قف! هذا هو المطعم الذي يقابل بوابة الجامعة. هذان صاحباه الأخوان توفيق وأديب فيصل، وهذا الدفتر الأسود الذي بينهما هو دفتر الهوالك. لو تصفحته لرأيت حسابي غير المدفوع؛ 34 ليرا و28 قرشا.»
فأطبق الدفتر ودفع به وبالكتب إلى القيم على تلك الغرفة. وصمت برهة مفكرا ثم خاطبني: اسمع! نحن في حرب وأنا جندي في جيش. إني مقتنع أنك خريج جامعة بيروت، ولكننا في الجيش لا ننفذ الأمور بسبب الأوهام أو الاقتناع أو الشعور أو الظواهر، بل نتقصى الحقائق الراهنة. ما أدراني أنك لم تكن مستخدما في الجامعة، أو تلميذا، أو أنك عرفت هذه الأمكنة والأشخاص بسبب مصادقتك لأحد الناس في الجامعة؟ إني آسف أن ليس في مقدوري أن أثبت للكابتن كلي أنك خريج جامعة بيروت؛ إذ إنك لم تأتني بالبرهان القاطع. غير أنه في طاقتي أن أخدمك. تعال إلى حانوت الجيش واشتر بعض حاجاتك. أسعارنا بخسة.»
وهبطنا إلى الحانوت، وهو في الطابق الأول من البناية، فعجبت لهذا الجيش يحارب ويصطحب معه ما رأيت من بضائع؛ فقد أبصرت الغرائب: كمنجة، قيثارة، ماندولين، كل أنواع العطور والحمرة والبودرة ... وما فتح الله ورزق من ضروري وغير ضروري. لا عجب أن قال ذلك القائد الألماني في إيطاليا: «الجيش الأميركي؟! زمرة مليوناريين في أثواب جنود.» ولما فرغت الفتاة التي تتولى البيع من خدمة أحد الزبائن، اقتربت من رفيقي الماجور فحيته: مرحبا يا عشيقي!
أجابها: مرحبا يا جميلة الوجه!
قالت: حسبتني نفضت يدي من كريه خدمتك أمس حين اشتريت كل حاجاتك بتلك المزيفة التي أعطيتنيها صباح البارحة.
أجاب الماجور: ما كنت لأرجع إلى التطلع إلى سحنتك البشعة لولا أني أريد أن أشتري - وأشار إلي - بعض حاجات لرفيقي. هاك وثيقة تخصيصاتي، ولا تبيعيني ثانية من تلك القاذورات التي تسمينها بضاعة.
Shafi da ba'a sani ba