وقبل أن أتمكن من الرد عليه مشمئزا، أسرع إلى طاولتنا جندي، فأدى التحية العسكرية إلى الماجور أندرسون، وناوله كتابا مختوما بالشمع الأحمر، فابتسم أندرسون وصرف الرسول بهزة رأس بعد أن شكره. وصرف الأنثى التي كانت على ركبته بأن دس في يدها دولارين. وفتح الغلاف وقرأ الرسالة، ثم همس بأذن إبراهيم بحيث أسمع: «هل لي أن أأتمن صديقك هذا؟» أجاب إبراهيم: «يمكنك.» فقرأ الماجور في الرسالة أن قيادة الجبهة قد وافقت على الخطة التي اقترحتها: «تجد أمام مخفر المنكوبين أربعة كميونات، وخمسة قوارب، و84 جنديا، وعتادا من القذائف اليدوية. هاجم حال استلامك هذه الرسالة، وعليك أن تحتله بسرعة، فتكون مع رجالك في الجبهة المقابلة من الجسر قبل أن تظلم الدنيا، بحيث تتمكن قواتنا من عبور الجسر قبل العتمة. أفهم جنودك أن هذه العملية هي فدائية، فخير أيا أراد منهم بين الاشتراك بها أو العدول عنها.»
وابتسم الماجور فرحا، وراح يهزأ: «قلت لك يا إبراهيم إن الجنرال غبي؛ صار له أسبوعان يهاجم الجسر من الأمام. خطتي أن نركب هذه القوارب في أعلى النهر، وننساب مع التيار حتى نبتعد خمسين مترا شرقي الجسر ونهاجم اليابانيين من هناك؛ فبعد أن نمزق أجسامهم بالقذائف، نقرفص على جنوبي الجسر ونرسل دعوة لجنرالنا الأبله أن يشرفنا بزيارة.»
وفيما كان الماجور يتكلم، دفع إلي إبراهيم بأوراق صغيرة، طبع اسم الخمارة عليها مرفقا بأرقام، وقال: «ادفع أنت عن نفسك، وأنا أدفع عني وعن هري؛ لأنه ضيفي.»
وخرجنا نحن الثلاثة إلى حيث الكميونات وحولها الجنود، فوقف فيهم أندرسون خاطبا بلهجة عادية وصوت منخفض: «أيها الغلمان! في جيبي أمر بأن نعصف بالجسر الرابع فنحتله بعد أن نرسل إلى جهنم كل ابن قحبة ياباني يحرسه. حين تشع الأنوار هذه الليلة، قليلون منا من يمسي راقصا في هذه الحانة؛ إذ إن أكثرنا يكون إما طائفا على مياه «الباسغ» نحو أسماك البحر، أو مفترشا بقعة قرب الجسر في راحة أبدية. على أنكم غير مرغمين على المساهمة في هذه النزهة. أي سعدان منكم أراد أن يتخلف، فليفتح فمه ولينطق بكلمة، فأستبدل به قردا ثانيا من معسكرنا!» ولبث يردد العبارة الأخيرة بضع مرات فلم يجبه أحد، حتى تنطع فتى أمرد فخاطب رفاقه: «الظاهر أن ضابطنا الماجور أندرسون لا يحب وجوهنا ولا يستطيب مرافقتنا، ما قولكم لو سألنا الجنرال أن يرسل لنا ضابطا آخر؟» فقهقه الجميع وطفقوا يقفزون إلى الكميونات. أما الماجور فأعطى إبراهيم صورة زوجته وابنه وهمس بأذنه: «هذا عنوان بيتي في كاليفورنيا، لئن رجعت إليك، فلك حمل كميوني بضاعة بألفي دولار، ولئن بقيت هناك فزر زوجتي ورد لها هذه الصورة وأخبرها أنك اجتمعت بي.»
ووقفت أتطلع إلى الكميونات تسير كأنما ركابها جماعة عمال في طريقهم إلى مصنع، أو تلامذة قاصدون إلى نزهة، أو مسافرون ينتقلون من مدينة إلى مدينة. أين ذلك مما طبع في مخيلتي عن زيد الهلالي وعنترة العبسي وسلطان الأطرش وعودة أبو تايه، وما رسمته في خاطري تلغرافات الحرب عن الفروسية في الحروب؟
وحين غابت الكميونات مشيت وإبراهيم إلى «مخيم اللاجئين»؛ حيث كانت خيمتي نمرو 27، وقصدنا مكتب المخيم، فسجل إبراهيم اسمه وتناول بطاقة تخصيصاته، ثم دلفنا إلى العنبر، فتناول منه سريره وحرامه، وبعض ألبسة ومعدات، وذهبنا إلى خيمته نمرو 78، فمد سريره وقعدنا صامتين.
من المؤلم أن تجالس شخصا، كتفه إلى كتفك، وبينكما صحاري الدنيا وبحارها، وأن تكون بالقرب منه بحيث يستطيع أن يسمع همسك ولا تتكالمان. ولقد قعدت إزاء إبراهيم على حافة سريره صامتا يقتتل شعوري وتفكيري. أريد أن أكره نفسي على بغض صديقي فلا أقوى؛ إذ كلما ثرت على مجونه الوقح، وتهافته على المال، ولهجته الشرسة، ذكرته لأسبوع مضى، كيف كان خلا حبيبا مرحا يحتقر المال، ويستشهد بحكايات «مجاني الأدب»، ويعبد المكرمات. ثم أدور على نفسي فأجد في الحرب وأهوالها عذرا لتغير فيه أردت أن أحسبه عارضا. وإني فيما أهم بأن أبغضه كنت معجبا بحرارة الإيمان فيه، فنفس المرء تبقى ميتة حتى يملأها الإيمان فتتكهرب وتحيا وتثير الخضوع في الناس، وإن يكن إيمانها بمعبود مرذول.
وصرخت بعد حين صفارة المخيم تدعونا إلى العشاء، فهززت عني أفكاري، والتقطت صحوني المعدنية، ومشيت وإبراهيم إلى حيث الطعام، فوقفنا في صف طويل نسمع المدافع وأزيز الرصاص، وإلى القرب منا مجهر المخيم الصوتي ينطلق منه صوت نسائي بأغنية قديمة:
تراك تحبني في شتاء العمر
مثلما أحببتني في نواره؟
Shafi da ba'a sani ba