مَوْضُوعُ ذِكْرَى الْعَامَّةِ مَوْضُوعٌ جَلِيلٌ، لَا يَصْلُحُ لَهُ إِلَّا كُلُّ حَكِيمٍ نَبِيلٍ. أَتَدْرِي مَنِ الْمُذَكِّرُ أَوِ الْوَاعِظُ أَوِ الْمُرْشِدُ؟ هُوَ إِنْسَانٌ حَافِظٌ لِحُدُودِ اللَّهِ، قَائِمٌ عَلَى إِرْشَادِ الْعُقُولِ، وَتَهْذِيبِ النُّفُوسِ، وَتَثْقِيفِ الْأَذْهَانِ، وَتَنْوِيرِ الْمَدَارِكِ وَتَصْحِيحِ الْمُعْتَقَدَاتِ وَإِبَانَةِ سِرِّ الْعِبَادَاتِ، وَإِمَاطَةِ مَا غَشِيَ الْأَفْهَامَ الْقَاصِرَةَ مِنْ غَيَاهِبِ الْجَهَالَةِ وَتُرَاثِ الضَّلَالَةِ.
الْمُذَكِّرُ وَارِثٌ مُحَمَّدِيٌّ، وَاقِفٌ عَلَى مَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ وَحِكْمَتِهِ، عَالِمٌ مَوَاضِعَ الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ، سَائِسٌ لِسَامِعِيهِ بِمَا يُلَائِمُهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ. لَا يَصْعَدُ بِهِمْ قِمَمَ الشِّدَّةِ وَالتَّعْسِيرِ، وَلَا يَهْبِطُ بِهِمْ إِلَى حَضِيضِ التَّرْخِيصِ غُلُوًّا فِي التَّيْسِيرِ، بَلْ يَسِيرُ بِهِمْ عَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ وَسَوَاءِ الطَّرِيقِ.
الْمُذَكِّرُ يَنْشُرُ الْعِلْمَ النَّافِعَ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَيُخَاطِبُهُمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ، وَيَتَنَزَّلُ لِإِرْشَادِهِمْ إِلَى لُغَتِهِمْ، يُعَاشِرُ بِالنُّصْحِ، وَيُخَالِطُهُمْ لِتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ.
الْمُذَكِّرُ هُوَ الْعَامِلُ الْأَكْبَرُ فِي إِخْرَاجِ النَّاسِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهَالَةِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ، وَتَحْرِيرِهِمْ مِنْ رِقِّ الْخُرَافَاتِ وَالْوَهْمِ. وَهُوَ كَالسِّرَاجِ فَإِذَا لَمْ يُنْتَفَعْ بِضَوْئِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي وُجُودِهِ، وَحَقٌّ مَا قِيلَ «لَا يَكُونُ الْعَالِمُ عَالِمًا حَتَّى يَظْهَرَ أَثَرُ عِلْمِهِ فِي قَوْمِهِ» إِذْ لَيْسَ مَسْؤُولًا عَنْ نَفْسِهِ وَحْدَهَا، بَلْ عَنْهَا وَعَنْ عَشِيرَتِهِ وَأُمَّتِهِ، فَمِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ وَيَعِظَ وَيُبَلِّغَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْمُذَكِّرُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي تَعْلِيمِهِ، كَامِلًا فِي إِرْشَادِهِ، كَامِلًا فِي أَخْلَاقِهِ.
وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ مُذَكِّرَ الْعَامَّةِ عَلَى قُوَّةِ مَلَكَتِهِ وَسِعَةِ مَدَارِكِهِ، يَضْطَرُّ إِلَى مَادَّةٍ تُعِينُهُ عَلَى ذِكْرَاهُ، وَتُمِدُّ ذَاكِرَتَهُ إِذَا أَمَّ مُبْتَغَاهُ. وَلَكِنْ أَيْنَ تِلْكَ الْمَادَّةُ الْمُمِدَّةُ؟ فَإِنِّي لَمْ أَرَ بَيْنَ الْمُصَنَّفَاتِ عَلَى كَثْرَتِهَا مَا أُلِّفَ لِذِكْرَى الْعَامَّةِ مُسْتَوْفِيًا لِلشُّرُوطِ التَّامَّةِ، بِأَنْ يَفْقَهُوا مَعْنَاهُ، وَيُدْرِكُوا مَنْطُوقَهُ وَمَغْزَاهُ، وَيَكُونَ وَافِيًا بِحَاجِيَّاتِهِمْ آتِيًا عَلَى جَمِيعِ كَمَالِيَّاتِهِمْ، مُجَرَّدًا عَنْ دَقَائِقِ الْمَسَائِلِ قَرِيبَ الْأَخْذِ لِلْمُتَنَاوِلِ ; فَيَسْتَعِينُ بِهِ الْمُذَكِّرُ، وَيَهْتَدِي بِهِ الْمُسْتَبْصِرُ. وَلَمْ أَزَلْ أَتَرَقَّبُ مِنْ نَفَحَاتِ التَّوْفِيقِ مَا يُهَدِّئُ الْبَالَ، إِلَى أَنْ رَأَيْتُ بَعْدَ مَا لَوَّنْتُ فِي عَامِ التَّدْرِيسِ كُلَّ كِتَابٍ نَفِيسٍ الْأَعْوَامَ الطِّوَالَ أَنَّ مِنْ أَنْفَعِ مَا يُقْتَبَسُ مِنْهُ عِظَةُ الْمُؤْمِنِينَ مَوَاضِيعَ تُنْتَخَبُ مِنْ (إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ) لِلْعَلَّامَةِ الْإِمَامِ حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ -. ثُمَّ اتَّفَقَ أَنْ تَذَاكَرْتُ مَعَ إِمَامٍ حَكِيمٍ وَاسْتَطْلَعْتُ رَأْيَهُ الصَّائِبَ فِي هَذَا الْمَرَامِ، فَقَالَ مُتَأَسِّفًا: «إِنَّ هَذَا الْمَوْضُوعَ لَمْ يُصَنَّفْ فِيهِ إِلَّا أَنَّ أَحْسَنَ مَا لَدَيْنَا لِذَلِكَ هُوَ الْإِحْيَاءُ بَعْدَ تَجْرِيدِهِ» فَعَدَدْتُ ذَلِكَ مِنْ بَدَائِعِ الْمُوَافَقَاتِ. وَأَتَذَكَّرُ الْآنَ أَنَّ أَحَدَ الْأَعْلَامِ فِي دِمَشْقَ أَشَارَ عَلَى مَنِ اسْتَشَارَهُ مِنَ الْمُدَرِّسِينَ بِالْإِحْيَاءِ، فَأَخَذَ الْمُدَرِّسُ فِي قِرَاءَتِهِ بِالْحَرْفِ، عَمَلًا بِالْأَمْرِ
1 / 10