ولد تقي الدين أبي العباس أحمد بن علي بن عبد القادر العبيدي المقريزي في القاهرة سنة ٧٦٦ هـ / ١٣٦٣ م. تتلمذ على ابن خلدون وغيره. فبدأ دراساته بعلوم الشريعة وكان على خلاف أستاذه ابن دُقماق الحنفي، شافعيًا متعصبًا. أخذ علوم الحديث في القاهرة في عهد المراهقة ثم تلقى سائر العلوم. تولّى في القاهرة منصب القضاء ثم الاحتساب. هاجر إلى دمشق وتصدى للتدريس وشؤون الأوقاف في سنة ٨١١ هـ. وبعد عشر سنوات عاد إلى القاهرة ومن حينها قضى وقته بالتأليف في مجال التاريخ حيث كان شديد الحب بهذا العلم. وفي عام ٨٣٤ هـ سافر مع عائلته إلى الحج وبقي في الحجاز مدة تعرف فيها على السعودية والحبشة وهذا ما هو ظاهر في مؤلفاته التاريخية. وفي سنة ٨٣٩ هـ عاد من الحجاز إلى القاهرة وبقي فيها حتى سنة ٨٤٥ هـ وهي سنة وفاته.
كان المقريزي يتمتع بشخصية مرموقة بين سائر المؤرخين الإسلاميين المصريين من حيث دقته في الرواية ونشاطه الواسع وعمله الدؤوب وسعة دائرة أبحاثه ودراساته واهتمامه الفائق بالجانب الاجتماعي والإحصائيات السكانية التاريخية، ويمكن عدّه إلى حدّ ما مؤسسًا لمدرسة تاريخية كان لها ازدهارها في مصر آنذاك وبزغت منها أسماء مشرقة كالعيني وابن حجر من معاصري المقريزي، وأبي المحاسن، تلميذة وندّه بعد ذلك، والتنحاوي الذي كان متأخرًا عنه وغير متفائل به، ثم السيوطي وبالتالي ابن إياس الذي شهد الفتح العثماني.
كان المقريزي ولعًا بالتاريخ وخلافًا لسائر المؤلفين العرب، لم يكتب في أي مجال آخر سوى التاريخ.
Shafi da ba'a sani ba
الجزء الاول
تقديم
بسم الله الرّحمن الرّحيم ها نحن أيها القارئ العربي العزيز نضع بين يديك كتابا جليلا من كتب تراثنا العربي ليكون لك عونا في التعرف على ماضي من سبقوا ووضعوا لبنة في بناء الحضارة العالمية، وفي مهد الحضارات وأمّ الدنيا مصر العزيزة.
هذا الكتاب، كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار والمعروف بالخطط المقريزية، نسبة لمؤلفه العلامة الجليل تقي الدين أبي العباس أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة ٨٤٥ هـ.
والذي يؤرخ فيه لأمّ الدنيا مصر العزيزة خلال الفترة الممتدة من سنة عشرين للهجرة النبوية الشريفة وحتى سنة ست وتسعمائة. مبينا فيه ما للنيل العظيم من أثر في حياة مصر، متعرضا لمناخها وطقسها، مؤرخا للكيفية التي تمّ بها إنشاء كل من مصر والقاهرة. القاهرة التي اختط أساسها القائد جوهر من الطوب النيء، مبتدئا بحارات القاهرة وظواهرها معددا سبعا وثلاثين حارة مبينا كيفية بناءها ومن قام على هذا البناء منطلقا إلى ما لا يطلق عليه اسم حارة أو درب بل يسمّى خطا، وهي كثيرة وكل قليل تتغير أسماؤها وقد أورد ما تيسّر له منها فكانت ثلاثون خطا، مبينا ما كان عليه كل خط وما آل إليه ومن أمر بإنشائه ومن قام على إنشائه وأسباب إنشائه. منتقلا إلى ذكر الدروب والأزقة مبينا أسماءها التي كانت وماذا أصبحت وإلى من تنسب من الأشخاص وما فيها من محال ودكاكين، وكان عددها خمس وستون دربا وثمان أزقة. ثم يعدد الخوخ، والخوخة نافذة في باب كبير وعددها أربع عشرة خوخة. ثم ينتقل إلى الرحاب، والرحبة تعني الموضع الواسع والرحاب كثيرة لا تتغيّر إلّا بأن يبنى فيها وقد ذكر تسع وأربعون رحبة ثم ينتقل إلى ذكر الدور الهامة وعددها ست وخمسون دارا مسمّيا إياها بأسماء أصحابها. ثم ينتقل إلى ذكر الحمامات والقياسر والفنادق والخانات والأسواق والسويقات والحكر أو الأحكار، مترجما لها وللأمراء والسلاطين الذين عملوا على بنائها.
ثم ينتقل إلى الخلجان والقناطر والبرك والجسور التي تمّ بناءها لجرّ مياه النيل إلى الحارات والخطط.
1 / 3
ثم يؤرخ للملوك والسلاطين الذين تعاقبوا عليها منذ بناء قلعة الجبل مبتدئا بمن حكم من الأكراد، بدءا بالقائد أبو الحسن جوهر الذي قدم إلى إفريقيا بعساكر مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ في سنة عشرين للهجرة، منتهيا بالملك الأشرف قانصوه الغوري الأشرفي قايتباي سنة ست وتسعمائة.
مترجما لحياتهم وكيفية وصولهم إلى السلطة وفتوحاتهم وغزواتهم وما قاموا به من خير أو شر لرعيتهم، وما بنوا وما هدموا وكان عددهم ست وخمسون سلطانا وملكا.
ثم انتقل إلى الجوامع ذاكرا بناتها والكيفية التي تمّ عليها البناء وعددها ثمان وثمانون جامعا. ثم ذكر مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص أرض مصر إلى أن صاروا إلى اعتقاد مذاهب الأئمة وما كان من الأحداث في ذلك.
ثم ذكر فرق الخليقة واختلاف عقائدها وتباينها، وفرق أهل الإسلام وانحصار الفرق المتهالكة في عشر طوائف هي: المعتزلة والمشبهة والقدرية والمجبرة والمرجئة والحرورية والبخارية والجهمية والروافض والخوارج، كما ذكر الحال في عقائد أهل الإسلام منذ ابتداء الملة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية.
ثم انتقل إلى ذكر المدارس ومن قام على بنائها والأوقاف الموقوفة عليها وما حلّ بها من تبدّل وتغير وعددها ثلاث وسبعون مدرسة. ثم انتقل إلى ذكر المساجد والمارستانات والخوانك والربط والزوايا والمشاهد والمقابر والقرافات ومساجد القرافات والجواسق والمصليّات والمعابد.
ثم انتقل إلى ذكر الملل غير الإسلامية الموجودة في مصر والقاهرة وهم اليهود والنصارى وذكر أحوالهم وكنائسهم ودياراتهم وما كان منهم وعليهم وما آلوا إليه من فرق وخلافات فيما بينهم ومع المسلمين.
ورغم كل ما يقدمه هذا العالم الجليل يعترف بتقصيره عن إتمام الكمال الذي لا يصله إلّا الله وحده.
ويختتم كتابه بحمد الله والاتكال عليه.
1 / 4
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[مقدمة المؤلف]
الحمد لله الذي عرّف وفهم، وعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، وأسبغ على عباده نعما باطنة وظاهره، ووالى عليهم من مزيد آلائه مننا متظافرة متواترة، وبثهم في أرضه حينا يتقلبون، واستخلفهم في ماله فهم به يتنعمون، وهدى قوما إلى اقتناص شوارد المعارف والعلوم، وشوّقهم للتفنن في مسارح التدبر والركض بميادين الفهوم وأرشد قوما إلى الانقطاع من دون الخلق إليه، ووفقهم للاعتماد في كل أمر عليه وصرف آخرين عن كل مكرمة وفضيلة، وقيض لهم قرناء قادوهم إلى كل ذميمة من الأخلاق ورذيلة، وطبع على قلوب آخرين فلا يكادون يفقهون قولا، وثبطهم عن سبل الخيرات، فما استطاعوا قوّة ولا حولا، ثم حكم على الكل بالفناء ونقلهم جميعا من دار التمحيص والابتلاء إلى برزخ البيود والبلاء، وسيحشرهم أجمعين إلى دار الجزاء ليوفي كل عامل منهم عمله، ويسأله عما أعطاه وخوّله.
وعن موفقه بين يديه سبحانه وما أعدّ له لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. أحمده سبحانه حمد من علم أنه إله لا يعبد إلا إياه، ولا خالق للخلق سواه حمدا يقتضي المزيد من النعماء، ويوالي المنن بتجدّد الآلاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعبده ورسوله ونبيه وخليله سيد البشر وأفضل من مضى وغبر الجامع لمحاسن الأخلاق والسير، والمستحق لاسم الكمال على الإطلاق من البشر الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين، ورقم اسمه من الأزل في عليين، ثم تنقل من الأصلاب الفاخرة الزكية إلى الأرحام الطاهرة المرضية حتى بعثه الله ﷿ إلى الخلائق أجمعين، وختم به الأنبياء والمرسلين وأعطاه ما لم يعط أحدا من العالمين وعلى آله وصحابته والتابعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
وبعد، فإنّ علم التاريخ من أجل العلوم قدرا، وأشرفها عند العقلاء مكانة وخطرا، لما يحويه من المواعظ والإنذار بالرحيل إلى الآخرة عن هذه الدار والاطلاع على مكارم الأخلاق ليقتدى بها، واستعلام مذامّ الفعال ليرغب عنها أولو النهي، لا جرم إن كانت الأنفس الفاضلة به وامقة والهمم العالية إليه مائلة وله عاشقة. وقد صنف فيه الأئمة كثيرا، وضمّن الأجلّة كتبهم منه شيئا كبيرا، وكانت مصر هي مسقط رأسي، وملعب أترابي ومجمع ناسي، ومغنى عشيرتي وحامتي، وموطن خاصتي وعامّتي، وجؤجؤي الذي ربى جناحي
1 / 5
في وكره وعش مأربي فلا تهوى الأنفس غير ذكره لا زلت مذ شذوت العلم وآتاني ربي الفطانة والفهم أرغب في معرفة أخبارها وأحبّ الأشراف على الاغتراف من آبارها، وأهوى مسائلة الركبان عن سكان ديارها فقيدت بخطى في الأعوام الكثيرة، وجمعت من ذلك فوائد قل ما يجمعها كتاب، أو يحويها لعزتها وغرابتها أهاب إلّا أنها ليست بمرتبة على مثال ولا مهذبة بطريقة ما نسج على منوال، فأردت أن ألخص منها أنباء ما بديار مصر من الآثار الباقية، عن الأمم الماضية والقرون الخالية، وما بقي بفسطاط مصر من المعاهد غير ما كاد يفنيه البلى والقدم ولم يبق إلّا أن يمحو رسمها الفناء والعدم، وأذكر ما بمدينة القاهرة من آثار القصور الزاهرة، وما اشتملت عليه من الخطط والأصقاع، وحوته من المباني البديعة الأوضاع، مع التعريف بحال من أسس ذلك من أعيان الأماثل، والتنويه بذكر الذي شادها من سراة الأعاظم والأفاضل وأنثر خلال ذلك نكتا لطيفة، وحكما بديعة شريفة من غير إطالة ولا إكثار، ولا إجحاف مخل بالغرض ولا اختصار، بل وسط بين الطرفين، وطريق بين بين.
فلهذا سميته (كتاب المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار)، وإني لأرجو أن يحظى إن شاء الله تعالى عند الملوك ولا ينبو عنه طباع العاميّ والصعلوك ويجله العالم المنتهي، ويعجب به الطالب المبتدي، وترضاه خلائق العابد الناسك، ولا يمجه سمع الخليع الفاتك ويتخذه أهل البطالة والرفاهية سمرا، ويعدّه أولو الرأي والتدبير موعظة وعبرا، يستدلون به على عظيم قدرة الله تعالى في تبديل الأبدال، ويعرفون به عجائب صنع ربنا سبحانه من تنقل الأمور إلى حال بعد حال، فإن كنت أحسنت فيما جمعت وأصبت في الذي صنعت ووضعت، فذلك من عميم منن الله تعالى وجزيل فضله وعظيم أنعمه عليّ، وجليل طوله، وإن أنا أسأت فيما فعلت وأخطأت إذ وضعت فما أجدر الإنسان بالإساءة والعيوب إذا لم يعصمه ويحفظه علام الغيوب:
وما أبرّئ نفسي أنني بشر ... أسهو وأخطىء ما لم يحمني قدر
ولا ترى عذرا أولى بذي زلل ... من أن يقول مقرّا أنني بشر
فليسبل الناظر في هذا التأليف على مؤلفه ذيل ستره إن مرّت به هفوة، وليغض تجاوزا وصفحا إن وقف منه على كبوة، أو نبوة فأيّ جواد وإن عنق ما يكبو، وأيّ عضب مهند لا يكل ولا ينبو لا سيما والخاطر بالأفكار مشغول، والعزم لالتواء الأمور وتعسرها فاتر محلول، والذهن من خطوب هذا الزمن القطوب كليل والقلب لتوالي المحن، وتواتر الإحن عليل:
يعاندني دهري كأني عدوّه ... وفي كل يوم بالكريهة يلقاني
فإن رمت شيئا جاءني منه ضدّه ... وإن راق لي يوما تكدّر في الثاني
1 / 6
اللهمّ غفرا ما هذا من التبرّم بالقضاء، ولا التضجر بالمقدور، بل إنه سقيم ونفثة مصدور يستروح أن أبدي التوجع والأنين، ويجد خفا من ثقله إذا باح بالشكوى والحنين:
ولو نظروا بين الجوانح والحشا ... رأوا من كتاب الحب في كبدي سطرا
ولو جرّبوا ما قد لقيت من الهوى ... إذا عذروني أو جعلت لهم عذرا
والله أسأل أن يحلي هذا الكتاب بالقبول عند الجلة والعلماء، كما أعوذ به من تطرّق أيدي الحساد إليه والجهلاء، وأن يهديني فيه وفيما سواه من الأقوال والأفعال إلى سواء السبيل، إنه حسبنا ونعم الوكيل وفيه جلّت قدرته لي سلوّ من كل حادث، وعليه ﷿ أتكل في جميع الحوادث، لا إله إلا هو ولا معبود سواه.
1 / 7
ذكر الرءوس الثمانية
اعلم أنّ عادة القدماء من المعلمين قد جرت أن يأتوا بالرؤوس الثمانية قبل افتتاح كل كتاب، وهي: الغرض والعنوان والمنفعة، والمرتبة، وصحة الكتاب، ومن أيّ صناعة هو وكم فيه من أجزاء، وأيّ أنحاء التعاليم المستعملة فيه فنقول:
(أما الغرض) في هذا التأليف فإنه جمع ما تفرّق من أخبار أرض مصر، وأحوال سكانها كي يلتئم من مجموعها معرفة جمل أخبار إقليم مصر وهي التي إذا حصلت في ذهن إنسان اقتدر على أن يخبر في كل وقت بما كان في أرض مصر من الآثار الباقية والبائدة ويقص أحوال من ابتدأها، ومن حلها وكيف كانت مصائر أمورهم وما يتصل بذلك على سبيل الاتباع لها بحسب ما تحصل به الفائدة الكلية بذلك الأثر.
(وأمّا عنوان هذا الكتاب) أعني الذي وسمته به فإني لما فحصت عن أخبار مصر وجدتها مختلطة متفرّقة فلم يتهيأ لي إذ جمعتها أن أجعل وضعها مرتبا على السنين لعدم ضبط وقت كل حادثة لا سيما في الأعصر الخالية، ولا أن أضعها على أسماء الناس لعلل أخر تظهر عند تصفح هذا التأليف فلهذا فرّقتها في ذكر الخطط والآثار، فاحتوى كل فصل منها على ما يلائمه ويشاكله، وصار بهذا الاعتبار قد جمع ما تفرّق وتبدّد من أخبار مصر، ولم أتحاش من تكرار الخبر إذا احتجت إليه بطريقة يستحسنها الأريب، ولا يستهجنها الفطن الأديب كي يستغني مطالع كل فصل بما فيه عما في غيره من الفصول، فلذلك سميته:
(كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) .
(وأما منفعة هذا الكتاب) فإنّ الأمر فيها يتبين من الغرض في وضعه، ومن عنوانه أعني أنّ منفعته هي أن يشرف المرء في زمن قصير على ما كان في أرض مصر من الحوادث والتغييرات في الأزمنة المتطاولة والأعوام الكثيرة، فتتهذب بتدبر ذلك نفسه وترتاض أخلاقه فيحب الخير ويفعله، ويكره الشرّ ويتجنبه، ويعرف فناء الدنيا فيحظى بالإعراض عنها، والإقبال على ما يبقى.
(وأما مرتبة هذا الكتاب) فإنه من جملة أحد قسمي العلم اللذين هما العقليّ والنقليّ، فينبغي أن يتفرّغ لمطالعته وتدبر مواعظه بعد إتقان ما تجب معرفته من العلوم النقلية والعقلية، فإنه يحصل بتدبره لمن أزال الله أكنة قلبه وغشاوة بصره نتيجة العلم بما صار إليه
1 / 9
أبناء جنسه بعد التخوّل في الأموال والجنود من الفناء والبيود، فإذا مرتبته بعد معرفة أقسام العلوم العقلية والنقلية ليعرف منه كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبل.
(وأما واضع هذا الكتاب ومرتّبه) فاسمه أحمد بن عليّ بن عبد القادر بن محمد، ويعرف بالمقريزيّ رحمه الله تعالى ولد بالقاهرة المعزية من ديار مصر بعد سنة ستين وسبعمائة من سني الهجرة المحمدية، ورتبته من العلوم ما يدل عليه هذا الكتاب وغيره مما جمعه وألفه.
(وأما من أيّ علم هذا الكتاب) فإنه من علم الأخبار وبها عرفت شرائع الله تعالى التي شرعها، وحفظت سنن أنبيائه ورسله، ودوّن هداهم الذي يقتدى به من وفقه الله تعالى إلى عبادته، وهداه إلى طاعته، وحفظه من مخالفته، وبها نقلت أخبار من مضى من الملوك والفراعنة وكيف حل بهم سخط الله تعالى لما أتوا ما نهوا عنه، وبها اقتدر الخليقة من أبناء البشر على معرفة ما دوّنوه من العلوم والصنائع، وتأتي لهم على ما غاب عنهم من الأقطار الشاسعة، والأمصار النائية وغير ذلك مما لا ينكر فضله، ولكل أمّة من أمم العرب والعجم على تباين آرائهم واختلاف عقائدهم أخبار عندهم معروفة مشهورة ذائعة بينهم، ولكل مصر من الأمصار المعمورة حوادث قد مرّت به يعرفها علماء ذلك المصر في كل عصر ولو استقصيت ما صنف علماء العرب والعجم في ذلك لتجاوز حدّ الكثرة، وعجزت القدرة البشرية عن حصره.
(وأما أجزاء هذا الكتاب فإنها سبعة): أولها: يشتمل على جمل من أخبار أرض مصر، وأحوال نيلها وخراجها وجبالها.
وثانيها: يشتمل على كثير من مدنها وأجناس أهلها.
وثالثها: يشتمل على أخبار فسطاط مصر ومن ملكها.
ورابعها: يشتمل على أخبار القاهرة وخلائقها وما كان لهم من الآثار.
وخامسها: يشتمل على ذكر ما أدركت عليه القاهرة وظواهرها من الأحوال.
وسادسها: يشتمل على ذكر قلعة الجبل وملوكها.
وسابعها: يشتمل على ذكر الأسباب التي نشأ عنها خراب إقليم مصر.
وقد تضمن كل جزء من هذه الأجزاء السبعة عدّة أقسام.
وأما أيّ أنحاء التعاليم التي قصدت في هذا الكتاب، فإني سلكت فيه ثلاثة أنحاء، وهي النقل من الكتب المصنفة في العلوم، والرواية عمن أدركت من شيخه العلم وجلة الناس، والمشاهدة لما عاينته ورأيته. فأما النقل من دواوين العلماء التي صنفوها في أنواع العلوم فإني أعزو كل نقل إلى الكتاب الذي نقلته منه لأخلص من عهدته، وأبرأ من جريرته فكثيرا ممن ضمني وإياه العصر، واشتمل علينا المصر صار لقلة إشرافه على العلوم وقصور
1 / 10
باعه في معرفة علوم التاريخ، وجهل مقالات الناس يهجم بالإنكار على ما لا يعرفه ولو أنصف لعلم أن العجز من قبله وليس ما تضمنه هذا الكتاب من العلم الذي يقطع عليه، ولا يحتاج في الشريعة إليه وحسب العالم أن يعلم ما قيل في ذلك ويقف عليه.
وأما الرواية عمن أدركت من الجلة والمشايخ فإني في الغالب والأكثر أصرح باسم من حدّثني إلا أن لا يحتاج إلى تعيينه، أو أكون قد أنسيته وقلّ ما يتفق مثل ذلك.
وأمّا ما شاهدته فإني أرجو أن أكون ولله الحمد غير متهم ولا ظنين، وقد قلت في هذه الرءوس الثمانية ما فيه قنع وكفاية، ولم يبق إلا أن أشرع فيما قصدت، وعزمي أن أجعل الكلام في كل خط من الأخطاط وفي كل أثر من الآثار على حدة ليكون العلم بما يشتمل عليه من الأخبار أجمع وأكثر فائدة وأسهل تناولا والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وفوق كلّ ذي علم عليم.
(فصل): أوّل من رتب خطط مصر وآثارها، وذكر أسبابها في ديوان جمعه: أبو عمر محمد بن يوسف الكنديّ «١»، ثم كتب بعده القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ «٢» كتابه المنعوت بالمختار في ذكر الخطط والآثار، ومات في سنة سبع وخمسين وأربعمائة قبل سني الشدّة، فدثر أكثر ما ذكر اه.
ولم يبق إلا يلمع وموضع بلقع بما حل بمصر من سني الشدّة المستنصرية من سنة سبع وخمسين إلى سنة أربع وستين وأربعمائة من الغلاء والوباء، فمات أهلها وخربت ديارها وتغيرت أحوالها، واستولى الخراب على عمل فوق من الطرفين بجانبي الفسطاط الغربيّ والشرقيّ. فأما الغربيّ فمن قنطرة بني وائل حيث الوراقات الآن قريبا من باب القنطرة خارج مدينة مصر إلى الشرف المعروف الآن بالرصد، وأنت مار إلى القرافة الكبرى. وأما الشرقيّ فمن طرف بركة الحبش التي تلي القرافة إلى نحو جامع أحمد بن طولون، ثم دخل أمير الجيوش بدر الجمالي مصر في سنة ست وستين وأربعمائة، وهذه المواضع خاوية على عروشها خالية من سكانها وأنيسها قد أبادهم الوباء والتباب، وشتتهم الموت والخراب ولم يبق بمصر إلا بقايا من الناس كأنهم أموات قد اصفرّت وجوههم وتغيرت سحنهم من غلاء الأسعار، وكثرة الخوف من العسكرية، وفساد طوائف العبيد والملحية، ولم يجد من يزرع الأراضي. هذا والطرقات قد انقطعت بحرا وبرّا إلا بخفارة وكلفة كثيرة، وصارت القاهرة
1 / 11
أيضا يبابا داثرة، فأباح للناس من العسكرية والملحية والأرض، وكل من وصلت قدرته إلى عمارة أن يعمر ما شاء في القاهرة مما خلا من دور الفسطاط بموت أهلها فأخذ الناس في هدم المساكن ونحوها بمصر، وعمروا بها في القاهرة، وكان هذا أوّل وقت اختط الناس فيه بالقاهرة.
ثم كان المنبه بعد القضاعي على الخطط والتعريف بها تلميذه أبو عبد الله محمد بن بركات النحويّ في تأليف لطيف نبه فيه الأفضل أبا القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي على مواضع قد اغتصبت وتملكت بعد ما كانت أحباسا ثم كتب الشريف محمد بن أسعد الجواني «١» (كتاب النقط بعجم ما أشكل من الخطط) نبه فيه على معالم قد جهلت وآثار قد دثرت، وآخر من كتب في ذلك القاضي تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوّج «٢» (كتاب إيعاظ المتأمّل وإيقاظ المتغفل) في الخطط بيّن فيه جملا من أحوال مصر وخططها إلى أعوام بضع وعشرين وسبعمائة قد دثرت بعده معظم ذلك في وباء سنة تسع وأربعين وسبعمائة ثم في وباء سنة إحدى وستين ثم في غلاء سنة ست وسبعين وسبعمائة.
وكتب القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد «٣» الظاهر (كتاب الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة) ففتح فيه بابا كانت الحاجة داعية إليه، ثم تزايدت العمارة من بعده في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون بالقاهرة وظواهرها إلى أن كادت تضيق على أهلها حتى حل بها وباء سنة تسع وأربعين وسنة إحدى وستين ثم غلاء سنة ست وسبعين فخربت بها عدّة أماكن فلما كانت الحوادث والمحن من سنة ست وثمانمائة شمل الخراب القاهرة ومصر وعامّة الإقليم، وسأورد من ذكر الخطط ما تصل إليه قدرتي إن شاء الله تعالى.
1 / 12
ذكر طرف من هيئة الأفلاك
اعلم أنه لما كانت مصر قطعة من الأرض تعيّن قبل التعريف بموقعها من الأرض وتبيين موضع الأرض من الفلك أن أذكر طرفا من هيئة الأفلاك، ثم أذكر صورة الأرض وموضع الأقاليم منها، وأذكر محل مصر من الأرض، وموضعها من الأقاليم وأذكر حدودها واشتقاقها وفضائلها وعجائبها وكنوزها وأخلاق أهلها، وأذكر نيلها وخلجانها وكورها ومبلغ خراجها، وغير ذلك ممّا يتعلق بها قبل الشروع في ذكر خطط مصر والقاهرة فأقول: علم النجوم ثلاثة أقسام: (الأوّل): معرفة تركيب الأفلاك، وكمية الكواكب، وأقسام البروج، وأبعادها وعظمها وحركتها ويقال لهذا القسم: علم الهيئة. (والقسم الثاني): علم الزيج، وعلم التقويم. (والقسم الثالث): معرفة كيفية الاستدلال بدوران الفلك وطوالع البروج على الحوادث قبل كونها ويسمى هذا القسم علم الأحكام، والغرض هنا إيراد نبذ من علم الهيئة تكون توطئة لما يأتي ذكره. اعلم أن الكواكب أجسام كريات والذي أدرك منها الحكماء بالرصد ألف كوكب وتسعة وعشرون كوكبا، وهي على قسمين: سيارة، وثابتة. فالسيارة سبعة وهي: زحل، والمشتري، والمرّيخ، والشمس، والزهرة، وعطارد، والقمر، وقد نظمت في بيت واحد وهو:
زحل شرى مرّيخه من شمسه ... فتزاهرت بعطارد الأقمار
ويقال لهذه السبعة: الخنّس، وقيل: إنها التي عناها الله تعالى بقوله: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ
[التكوير/ ١٥] والتي عناها الله تعالى بقوله: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْرًا
[النازعات/ ٥]، وقيل لها: الخنس لاستقامتها في سيرها ورجوعها، وقيل لها: الكنس لأنها تجري في البروج ثم تكنس أي تستتر كما يكنس الظبي، وقيل: الكنس والخنس منها خمسة وهي: ما سوى الشمس والقمر سميت بذلك من الانحناس وهو الانقباض، وفي الحديث:
«الشيطان يوسوس للعبد فإذا ذكر الله خنس» أي انقبض ورجع فيكون الخنس على هذا في الكواكب بمعنى الرجوع وسميت بالكنس من قولهم: كنس الظبي إذا دخل الكناس وهو مقرّة فالكنس على هذا في الكواكب بمعنى اختفائها تحت ضوء الشمس ويقال لهذه الكواكب المتحيرة لأنها ترجع أحيانا عن سمت مسيرها بالحركة الشرقية وتتبع الغربية في رأي العين فيكون هذا الارتداد لها شبه التحير، وهذه الأسماء التي لهذه الكواكب يقال: إنها مشتقة من صفاتها.
1 / 13
فزحل مشتق من زحل فلان إذا أبطأ سمي بذلك لبطء سيره، وقيل: للزحل والزحل الحقد، وهو بزعمهم يدل على ذلك ويقال: إنه المراد في قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ
[الطارق/ ١- ٣] . والمشتري سمي بذلك لحسنه كأنه اشترى الحسن لنفسه، وقيل: لأنه نجم الشراء والبيع، ودليل الريح والمال في قولهم.
والمرّيخ مأخوذ من المرخ وهو شجر يحتك بعض أغصانه ببعض فيوري نارا سمي بذلك لاحمراره، وقيل: المرّيخ سهم لا ريش له إذا رمي به لا يستوي في ممرّه، وكذا المرّيخ فيه التواء كثير في سيره ودلالته بزعمهم تشبه ذلك، والشمس لما كانت واسطة بين ثلاثة كواكب علوية لأنهم من فوقها، وثلاثة سفلية لأنهم من تحتها سميت بذلك لأنّ الواسطة التي في المخنقة تسمى شمسة، والزهرة من الزاهر وهو الأبيض النير من كل شيء، وعطارد هو النافذ في كل الأمور ولذلك يقال له أيضا الكاتب فإنه كثير التصرّف مع ما يقارنه ويلابسه من الكواكب، والقمر مأخوذ من القمرة وهي البياض والأقمر الأبيض.
ويقال لزحل كيوان، وللمشتري تبر والبرجيس أيضا، وللمرّيخ بهرام، وللشمس مهر، وللزهرة أياهيد وسدحت أيضا، ولعطارد هرمس، وللقمر ماه، وقد جمعت في بيت واحد وهو هذا:
لا زلت تبقى وترقى للعلى أبدا ... ما دام للسبعة الأفلاك أحكام
مهر وماه وكيوان وتبر معا ... وهرمس وأياهيد وبهرام
ويقال: لما عدا هذه الكواكب السبعة من بقية نجوم السماء الكواكب الثابتة.
سميت بذلك لثباتها في الفلك بموضع واحد، وقيل: لبطء حركتها فإنها تقطع الفلك بزعمهم بعد كل ستة وثلاثين ألف سنة شمسية مرّة واحدة.
ولكل كوكب من الكواكب السبعة السيارة فلك من الأفلاك يخصه، والأفلاك أجسام كريات مشقات بعضها في جوف بعض وهي تسعة أقربها إلينا فلك القمر، وبعده فلك عطارد، ثم بعده فلك الزهرة، وبعده فلك الشمس، وفوقه فلك المريخ، ثم فلك المشتري، وفوقه فلك زحل، ثم فلك الثوابت وفيه كل كوكب يرى في السماء سوى السبعة السيارة، ومن فوق فلك الثوابت الفلك المحيط وهو الفلك التاسع، ويسمى الأطلس، وفلك الأفلاك، وفلك الكل، وقد اختلف في الأفلاك فقيل: هي السماوات، وقيل: بل السماوات غيرها، وقيل: بل هي كرية، وقيل غير ذلك. وقيل: الفلك الثامن هو الكرسي، والفلك التاسع هو العرش، وقيل غير ذلك. وهذا الفلك التاسع دائم الدوران كالدولاب ويدور في كل أربعة وعشرين ساعة مستوية دورة واحدة، ودورانه يكون أبدا من المشرق إلى المغرب، ويدور بدورانه جميع الأفلاك الثمانية وما حوته من الكواكب دورانا حركته قسرية لإدارة
1 / 14
التاسع لها وعن حركة التاسع المذكور يكون الليل والنهار فالنهار مدّة بقاء الشمس فوق أفق الأرض والليل مدّة غيبوبة الشمس تحت أفق الأرض، وفلك الكواكب الثابتة مقسوم باثني عشر قسما كحجز البطيخة كل قسم منها يقال له: برج وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. وكل برج من هذه البروج الاثني عشر ينقسم ثلاثين قسما يقال: لكل قسم منها درجة، وكل درجة من هذه الثلاثين مقسومة ستين قسما يقال لكل قسم منها دقيقة وكل دقيقة من هذه الستين مقسومة ستين قسما يقال لكل قسم منها ثانية وهكذا إلى الثوالث والروابع والخوامس إلى الثواني عشر وما فوقها من الأجزاء وكل ثلاثة بروج تسمى فصلا. فالزمان على ذلك أربعة فصول: وهي الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء. وجهات الأقطار أربعة: الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب. والأركان أربعة: النار، والهواء، والماء، والتراب. والطبائع أربعة: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة. والأخلاط أربعة:
الصفراء، والسوداء، والبلغم، والدم. والرياح أربعة: الصبا، والدبور، والشمال، والجنوب.
فالبروج منها ثلاثة ربيعية صاعدة في الشمال زائدة النهار على الليل وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، وثلاثة صيفية هابطة في الشمال آخذة الليل من النهار وهي: السرطان، والأسد، والسنبلة، وثلاثة خريفية هابطة في الجنوب زائدة الليل على النهار وهي: الميزان، والعقرب، والقوس، وثلاثة شتوية صاعدة في الجنوب آخذة النهار من الليل وهي: الجدي، والدلو، والحوت، والفلك المحيط كما تقدم دائم الدوران كالدولاب يدور أبدا من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحتها فيكون دائما نصف الفلك، وهو ستة بروج بمائة وثمانين درجة فوق الأرض ونصفه الآخر وهو ستة بروج بمائة وثمانين درجة تحت الأرض، وكلما طلعت من أفق المشرق درجة من درجات الفلك التي عدّتها ثلثمائة وستون درجة غرب نظيرها في أفق المغرب من البرج السابع فلا يزال دائما ستة بروج طلوعها بالنهار، وستة بروج طلوعها بالليل، والأفق عبارة عن الحدّ الفاصل من الأرض بين المرئيّ والخفيّ من السماء، والفلك يدور على قطبين شماليّ وجنوبيّ كما يدور الحق على قطبي المخروطة، ويقسم الفلك خط من دائرة تقسمه نصفين متساويين بعدهما من كلا القطبين سواء، وتسمى هذه الدائرة دائرة معدّل النهار فهي تقاطع فلك البروج ودائرة فلك البروج تقاطع دائرة معدّل النهار، ويميل نصفها إلى الجانب الشمالي بقدر أربع وعشرين درجة تقريبا وهذا النصف فيه قسمة البروج الستة الشمالية وهي من أوّل الحمل إلى آخر السنبلة ويميل نصفها الثاني عنها إلى الجنوب بمثل ذلك وفيه قسمة البروج الستة الجنوبية.
وهي من أوّل برج الميزان إلى آخر برج الحوت، وموضع تقاطع هاتين الدائرتين أعني دائرة معدّل النهار، ودائرة فلك البروج من الجانبين هما: نقطتا الاعتدالين أعني رأس الحمل
1 / 15
ورأس الميزان، ومدار الشمس والقمر، وسائر النجوم على محاذاة دائرة فلك البروج دون دائرة معدّل النهار وتمرّ الشمس على دائرة معدّل النهار عند حلولها بنقطتي الاعتدالين فقط لأنها موضع تقاطع الدائرتين، وهذا هو خط الاستواء الذي لا يختلف فيه الزمان بزيادة الليل على النهار ولا النهار على الليل. لأنّ ميل الشمس عنه إلى كلا الجانبين الشماليّ والجنوبيّ سواء فالشمس تدور الفلك وتقطع الاثني عشر برجا في مدّة ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم بالتقريب. وهذه هي: مدّة السنة الشمسية وتقيم في كل برج ثلاثين يوما وكسرا من يوم، وتكون أبدا بالنهار ظاهرة فوق الأرض، وبالليل بخلاف ذلك وإذا حلت في البروج الستة الشمالية التي هي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة فإنها تكون مرتفعة في الهواء قريبة من سمت رؤوسنا وذلك زمن فصل الربيع وفصل الصيف، وإذا حلت في البروج الجنوبية وهي: الميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، كان فصل الخريف وفصل الشتاء، وانحطت الشمس وبعدت عن سمت الرءوس.
وزعم وهب بن منبه أن أوّل ما خلق الله تعالى من الأزمنة الأربعة الشتاء فجعله باردا رطبا، وخلق الربيع فجعله حارا رطبا، وخلق الصيف فجعله حارا يابسا، وخلق الخريف فجعله باردا يابسا، وأوّل الفصول عند أهل زماننا الربيع ويكون فصل الربيع عندما تنتقل الشمس من برج الحوت، وقد اختلف القدماء في البداية من الفصول فمنهم من اختار فصل الربيع وصيّره أوّل السنة، ومنهم من اختار تقديم الانقلاب الصيفيّ، ومنهم من اختار تقديم الاعتدال الخريفيّ، ومنهم من اختار تقديم الانقلاب الشتويّ، فإذا حلت أوّل جزء من برج الحمل استوى الليل والنهار واعتدل الزمان وانصرف الشتاء ودخل الربيع، وطاب الهواء، وهبّ النسيم، وذاب الثلج، وسالت الأودية، ومدّت الأنهار فيما عدا مصر، ونبت العشب، وطال الزرع، ونما الحشيش وتلألأ الزهر وأوراق الشجر، وتفتح النور، واخضرّ وجه الأرض ونتجت البهائم، ودرت الضروع، وأخرجت الأرض زخرفها، وازينت وصارت كصبية شابة قد تزينت للناظرين ولله درّ القائل، وهو الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد اليعمريّ رحمه الله تعالى:
واستنشقوا لهوا الربيع فإنه ... نعم النسيم وعنده ألطاف
يغذي الجسوم نسيمه وكأنه ... روح حواها جوهر شفاف
وقال ابن قتيبة: ومن ذلك الربيع يذهب الناس إلى أنه الفصل الذي يتبع الشتاء ويأتي فيه النور، والورد، ولا يعرفون الربيع غيره، والعرب تختلف في ذلك فمنهم من يجعل الربيع الفصل الذي تدرك فيه الثمار، وهو الخريف وفصل الشتاء بعده ثم فصل الصيف بعد الشتاء وهو الوقت الذي تدعوه العامّة الربيع ثم فصل القيظ وهو الذي تدعوه العامّة الصيف، ومن العرب من يسمي الفصل الذي يعتدل وتدرك فيه الثمار وهو الخريف الربيع الأوّل، ويسمى الفصل الذي يتلوه الشتاء ويأتي فيه الكمام والنور الربيع الثاني وكلهم مجتمعون على
1 / 16
أن الربيع هو الخريف فإذا حلت الشمس آخر برج الجوزاء، وأوّل برج السرطان تناهي طول النهار، وقصر الليل وابتدأ نقص النهار وزيادة الليل وانصرم فصل الربيع، ودخل فصل الصيف، واشتدّ الحرّ، وحمى الهواء، وهبت السمائم، ونقصت المياه إلا بمصر، ويبس العشب، واستحكم الحب، وأدرك حصاد الغلال، ونضجت الثمار، وسمنت البهائم، واشتدّت قوّة الأبدان، ودرت أخلاف النعم، وصارت الأرض كأنها عروس فإذا بلغت آخر برج السنبلة وأوّل برج الميزان تساوى الليل والنهار مرّة ثانية وأخذ الليل في الزيادة والنهار في النقصان وانصرم فصل الصيف ودخل فصل الخريف فبرد الهواء، وهبت الرياح، وتغير الزمان، وجفت الأنهار، وغارت العيون، واصفرّ ورق الشجر، وصرّمت الثمار، ودرست البيادر، واختزن الحبّ، واقتنى العشب، واغبرّ وجه الأرض إلا بمصر، وهزلت البهائم، وماتت الهوامّ، وانحجرت الحشرات، وانصرف الطير والوحش يريد البلاد الدافئة، وأخذ الناس يخزنون القوت للشتاء وصارت الدنيا كأنها امرأة كهلة قد أدبرت وأخذ شبابها يولي ولله درّ القائل وهو الإمام عز الدين أبو الحسن أحمد بن عليّ ابن معقل الأزديّ المهلبيّ الحمصيّ حيث يقول:
لله فصل الخريف المستلذ به ... برد الهواء لقد أبدى لنا عجبا
أهدى إلى الأرض من أوراقه ذهبا ... والأرض من شأنها أن تهدي الذهبا
وقال أيضا:
لله فصل الخريف فصلا ... رقت حواشيه فهو رائق
فالماء يجري بقلب سال ... والدمع يبدو بوجه عاشق
فبرد هذا ولون هذا ... يلذه ذائق ووامق
وقال أيضا:
أتى فصل الخريف بكل طيب ... وحسن معجب قلبا وعينا
أرانا الدوح مصفرّا نضارا ... وصافي الماء مبيضا لجينا
فأحسن كلّ إحسان إلينا ... وأنعم كلّ إنعام علينا
وقال آخر يذم الخريف:
خذ في التدثر في الخريف فإنه ... مستو بل ونسيمه خطاف
يجري مع الأجسام جري حياتها ... كصديقا ومن الصديق يخاف
وقال آخر:
يا عائبا فصل الخريف وغائبا ... عن فضله في ذمه لزمانه
لا شيء ألطف منه عندي موقعا ... أبدا يعرّي الغصن من قمصانه
1 / 17
وتراه يفرش تحته أثوابه ... فأعجب لرأفته وفرط حنانه
وألذ ساعات الوصال إذا دنا ... وقت الرحيل وحان حين أوانه
فإذا حلّت الشمس آخر برج القوس وأوّل برج الجدي تناهى طول الليل وقصر النهار، وأخذ النهار في الزيادة والليل في النقصان، وانصرم فصل الخريف، وحلّ فصل الشتاء، واشتدّ البرد، وخشن الهواء، وتساقط ورق الشجر، ومات أكثر النبات، وغارت الحيوانات، في جوف الأرض وضعف قوى الأبدان وعري وجه الأرض من الزينة، ونشأت الغيوم وكثرت الأنداء، وأظلم الجوّ وكلح وجه الأرض إلا بمصر، وامتنع الناس من التصرّف، وصارت الدنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت. فإذا بلغت آخر برج الحوت وأوّل برج الحمل عاد الزمان كما كان عام أوّل وهذا دأبه ذلك تقدير العزيز العليم وتدبير الخبير الحكيم لا إله إلّا هو. وقد شبه بطليموس فصل الربيع بزمان الطفولية، وفصل الصيف بالشباب، والخريف بالكهولة، والشتاء بالشيخوخة، وعن حركة الشمس وتنقلها في البروج الاثني عشر المذكورة تكون أزمان السنة وأوقات اليوم من الليل والنهار وساعاتهما، وعن حركة القمر في البروج الاثني عشر تكون الشهور القمرية والسنة القمرية، فالقمر يدور البروج الاثني عشر ويقطع الفلك كله في مدّة ثمانية وعشرين يوما وبعض يوم، ويقيم في كل برج يومين وثلث يوم بالتقريب، ويقيم في كلّ منزلة من منازل القمر الثمانية والعشرين منزلة يوما وليلة، فيظهر عند إهلاله من ناحية الغرب بعد غروب جرم الشمس، ويزيد نوره في كل ليلة قدر نصف سبع حتى يكمل نوره، ويمتلئ في ليلة الرابع عشر من إهلاله، ثم يأخذ من الليلة الخامسة عشر في النقصان فينقص من نوره في كلّ ليلة نصف سبع كما بدا إلى أن يمحق نوره في آخر الثمانية وعشرين يوما من إهلاله ويمرّ في هذه المدّة منذ يفارق الشمس، ويبدو في ناحية الغرب، ويستمرّ إلى أن يجامعها بثمانية وعشرين منزلة وهي: السرطان «١»، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعوّا، والسماك، والغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرغ المقدّم، والفرغ المؤخر، وبطن الحوت. ولحساب ذلك كتب موضوعة وفيما ذكر كفاية والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
ذكر صورة الأرض وموضع الأقاليم منها
ولما تقدّم في الأفلاك من القول ما يتبين به لمن ألهمه الله تعالى كيف تكون الحركة التي بها الليل والنهار، وتركب الشهور والأعوام منهما جاز حينئذ الكلام على الأرض.
1 / 18
فأقول: الجهات من حيث هي ست: الشرق وهو حيث تطلع الشمس. والقمر، وسائر الكواكب في كل قطر من الأفق، والغرب وهو حيث تغرب، والشمال وهو حيث مدار الجدي والفرقدين، والجنوب وهو حيث مدار سهيل، والفوق وهو مما يلي السماء، والتحت وهو مما يلي مركز الأرض.
والأرض جسم مستدير كالكرة، وقيل: ليست بكرية الشكل وهي واقفة في الهواء بجميع جبالها وبحارها وعامرها وغامرها، والهواء محيط بها من جميع جهاتها كالمحّ في جوف البيضة وبعدها من السماء متساو من جميع الجهات وأسفل الأرض ما تحقيقه هو عمق باطنها مما يلي مركزها من أيّ جانب كان. ذهب الجمهور إلى أن الأرض كالكرة موضوعة في جوف الفلك كالمح في البيضة، وأنها في الوسط وبعدها في الفلك من جميع الجهات على التساوي.
وزعم هشام بن الحكم: أن تحت الأرض جسما من شأنه الارتفاع وهو المانع للأرض من الانحدار، وهو ليس محتاجا إلى ما بعده، لأنه ليس يطلب الانحدار بل الارتفاع، وقال:
إن الله تعالى وقفها بلاد عماد.
وقال ديمقراطس: أنها تقوم على الماء، وقد حصر الماء تحتها حتى لا يجد مخرجا فيضطرّ إلى الانتقال، وقال آخر: هي واقفة على الوسط على مقدار واحد من كلّ جانب والفلك يجذبها من كل وجه فلذلك لا تميل إلى ناحية من الفلك دون ناحية، لأنّ قوة الأجزاء متكافئة، وذلك كحجر المغناطيس في جذبه الحديد فإنّ الفلك بالطبع مغناطيس الأرض، فهو يجذبها فهي واقفة في الوسط، وسبب وقوفها في الوسط سرعة تدوير الفلك ودفعه إياها من كل جهة إلى الوسط.
كما إذا وضعت ترابا في قارورة وأدرتها بقوّة فإنّ التراب يقوم في الوسط.
وقال محمد بن أحمد الخوارزمي «١»: الأرض في وسط السماء، والوسط هو السفلى بالحقيقة، وهي مدوّرة مضرسة من جهة الجبال البارزة والوهاد الغائرة، وذلك لا يخرجها عن الكرية إذا اعتبرت جملتها لأنّ مقادير الجبال وإن شمخت يسيرة بالقياس إلى كرة الأرض، فإن الكرة التي قطرها ذراع، أو ذراعان مثلا إذا أنتأ منها شيء أو غار فيها لا يخرجها عن الكرية، ولا هذه التضاريس لإحاطة الماء بها من جميع جوانبها وغمرها، بحيث لا يظهر منها شيء. فحينئذ تبطل الحكمة المؤدّية المودعة في المعادن، والنبات والحيوان، فسبحان من لا يعلم أسرار حكمه إلا هو. وأما سطحها الظاهر المماس للهواء من جميع
1 / 19
الجهات فإنه فوق، والهواء فوق الأرض يحيط بها ويجذبها من سائر الجهات، وفوق الهواء الأفلاك المذكورة فيما تقدّم واحدا فوق آخر إلى الفلك التاسع الذي هو أعلى الأفلاك، ونهاية المخلوقات بأسرها، وقد اختلف فيما وراء ذلك فقيل: خلا.
وقيل: ملاء، وقيل: لا خلاء ولا ملاء وكل موضع يقف فيه الإنسان من سطح الأرض فإنّ رأسه أبدا يكون مما يلي السماء إلى فوق، ورجلاه أبدا تكون أسفل مما يلي مركز الأرض، وهو دائما يرى من السماء: نصفها ويستر عنه النصف الآخر حدبة الأرض، وكلما انتقل من موضع إلى آخر ظهر له من السماء بقدر ما خفي عنه.
والأرض غامرة بالماء كعنبة طافية فوق الماء قد انحسر عنها نحو النصف، وانغمر النصف الآخر في الأرض، وصار المنكشف من الأرض نصفين، كأنما قسم بخط مسامت لخط معدّل النهار يمرّ تحت دائرته، وجميع البلاد التي على هذا الخط، لا عرض لها البتة، والقطبان غير مرتبين فيها، ويكونان هناك على دائرة الأفق من الجانبين.
وكلما بعد موضع بلد عن هذا الخط إلى ناحية الشمال قدر درجة ارتفع القطب الشماليّ الذي هو: الجدي على أهل ذلك البلد درجة، وانخفض القطب الجنوبيّ الذي هو: سهيل درجة، وهكذا ما زاد ويكون الأمر فيما بعد من البلاد الواقعة في ناحية الجنوب كذلك من ارتفاع القطب الجنوبيّ، وانحطاط القطب الشماليّ، وبهذا عرف عرض البلدان، وصار عرض البلد عبارة عن ميل دائرة معدّل النهار عن سمت رؤوس أهله، وارتفاع القطب عليهم، وهو أيضا بعد ما بين سمت رؤوس أهل ذلك البلد، وسمت رؤوس أهل بلد لا عرض له، فأمّا ما انكشف من الأرض مما يلي الجنوب من خط الاستواء، فإنه خراب، والنصف الآخر الذي يلي الشمال من خط الاستواء، فهو الربع العامر، وهو المسكون من الأرض، وخط الاستواء لا وجود له في الخارج، وإنما هو فرض بوهمنا أنه خط ابتداؤه من المشرق إلى المغرب تحت مدار رأس الحمل، وسمي بذلك من أجل أنّ النهار، والليل هناك أبدا سواء لا يزيد ولا ينقص أحدهما عن الآخر شيئا البتة في سائر أوقات السنة كلها، ونقطتا هذا الخط ملازمتان للأفق إحداهما على مدار سهيل في ناحية الجنوب، والأخرى مما يلي الجدي في ناحية الشمال.
والعمارة من المشرق إلى المغرب مائة وثمانون درجة من الجنوب إلى الشمال من خط أريس إلى بنات نعش: ثمان وأربعون درجة، وهو مقدار ميل الشمس مرّتين، وخلف خط أريس، وهو مقدار: ستة عشر درجة، وجملة معمور الأرض نحو من: سبعين درجة لاعتدال مسير الشمس في هذا الوسط، ومرورها على ما وراء الحمل والميزان مرّتين في السنة، وأما الشمال والجنوب، فالشمس لا تحاذيهما إلّا مرّة واحدة، ولأنّ أوج الشمس مرّتين في جهة الشمال، كانت العمارة فيه لارتفاعها وانتفاء ضرر قربها عن ساكنيه، ولأن
1 / 20
حضيضها في الجنوب، عدمت العمارة هنالك.
وقد اختلف الناس في مسافة الأرض، فقيل: مسافتها خمسمائة عام ثلث عمران، وثلث خراب، وثلث بحار، وقيل: المعمور من الأرض مائة وعشرون سنة: تسعون ليأجوج ومأجوج، واثنا عشر: للسودان، وثمانية للروم، وثلاثة للعرب، وسبعة لسائر الأمم.
وقيل: الدنيا سبعة أجزاء: ستة ليأجوج ومأجوج، وواحد لسائر الناس، وقيل:
الأرض خمسمائة عام: البحار ثلثمائة، ومائة خراب، ومائة عمران، وقيل: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ: للسودان اثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، ولفارس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف.
وعن وهب بن منبه: ما العمارة من الدنيا في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء.
وقال أزدشير بن بابك: الأرض أربعة أجزاء: جزء منها للترك، وجزء للعرب، وجزء للفرس، وجزء للسودان، وقيل: الأقاليم سبعة: والأطراف أربعة، والنواحي خمسة وأربعون، والمدائن عشرة آلاف، والرساتيق مائتا ألف وستة وخمسون ألفا، وقيل: المدن والحصون أحد وعشرون ألفا وستمائة مدينة وحصن، ففي الإقليم الأوّل ثلاثة آلاف ومائة مدينة كبيرة، وفي الثاني ألفان وسبعمائة وثلاثة عشر مدينة وقرية كبيرة، وفي الثالث ثلاثة آلاف وتسع وسبعون مدينة وقرية، وفي الرابع وهو بابل ألفان وتسعمائة وأربع وسبعون مدينة، وفي الخامس ثلاثة آلاف مدينة وست مدائن، وفي السادس ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان مدن، وفي السابع ثلاثة آلاف وثلاثمائة مدينة في الجزائر.
وقال الخوارزميّ: قطر الأرض سبعة آلاف فرسخ، وهو نصف سدس الأرض والجبال والمفاوز والبحار، والباقي خراب يباب لا نبات فيه ولا حيوان، وقيل: المعمور من الأرض مثل: طائر، رأسه الصين، والجناح الأيمن الهند والسند، والجناح الأيسر الخزر، وصدره مكة والعراق والشام ومصر، وذنبه الغرب، وقيل: قطر الأرض سبعة آلاف وأربعمائة وأربعة عشر ميلا ودورها عشرون ألف ميل وأربعمائة ميل، وذلك جميع ما أحاطت به من برّ وبحر.
وقال أبو زيد أحمد بن سهل البلخيّ «١»: طول الأرض من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب نحو أربعمائة مرحلة، وعرضها من حيث العمران الذي من جهة الشمال، وهو مساكن يأجوج ومأجوج إلى حيث العمران الذي من جهة الجنوب، وهو مساكن السودان
1 / 21
مائتان وعشرون مرحلة وما بين براري يأجوج ومأجوج إلى البحر المحيط في الشمال، وما بين براري السودان، والبحر المحيط في الجنوب خراب ليس فيه عمارة، ويقال: إن مسافة ذلك: خمسة آلاف فرسخ، وهذه أقوال لا دليل على صدقها.
والطريق في معرفة مساحة الأرض أنّا لو سرنا على خط نصف النهار من الجنوب إلى الشمال بقدر ميل دائرة معدّل النهار عن سمت رؤوسنا إلى الجنوب درجة من درج الفلك التي هي جزء من ثلاثمائة وستين جزءا، وارتفع القطب علينا درجة نظير تلك الدرجة فإنا نعلم أنا قد قطعنا من محيط جرم الأرض جزءا من ثلاثمائة وستين جزءا، وهو نظير ذلك الجزء من الفلك، فلو قسنا من ابتداء مسيرنا إلى انتهاء مكاننا الذي وصلنا إليه حيث ارتفع القطب علينا درجة، فإنا نجد حقيقة الدرجة الواحدة من الفلك قد قطعت من الأرض ستة وخمسين ميلا، وثلثي ميل عنها خمسة وعشرون فرسخا فإذا ضربنا حصة الدرجة الواحدة، وهو ما ذكر من الأميال في ثلاثمائة وستين خرج من الضرب عشرون ألفا، وأربعمائة ميل، وذلك مساحة دور الأرض فإذا قسمنا هذه الأميال التي هي مساحة دور الأرض على ثلاثة وسبع خرج من القسمة ستة آلاف وأربعمائة، وأربعون ميلا، وهي مساحة قطر الأرض، فلو ضربنا هذا القطر في مبلغ دور الأرض، لبلغت مساحة بسط الأرض بالتكسير مائة ألف ألف واثنين وثلاثين ألف ألف وستمائة ألف ميل بالتقريب. فعلى هذا مساحة ربع الأرض المسكون بالتكسير ثلاثة وثلاثون ألف ألف ميل ومائة وخمسون ألف ميل، وعرض المسكون من هذا الربع بقدر بعد مدار السرطان عن القطب، وهو خمسة وخمسون جزءا وسدس جزء، وهذا هو سدس الأرض وانتهاؤه إلى جزيرة تولي في برطانية، وهي آخر المعمور من الشمال، وهو من الأميال ثلاثة آلاف وسبعمائة وأربعة وستون ميلا، فإذا ضربنا هذا السدس الذي هو مساحة عرض الأرض في النصف، وهو مقدار الطول، كان المعمور من الشمال قدر نصف سدس الأرض. وأما الطول فإنه يقل لتضايق أقسام كرة الأرض، ومقداره مثل خمس الدور، وهو بالتقريب أربعة آلاف وثمانون ميلا، وفي الربع المسكون من الأرض: سبعة أبحر كبار، وفي كل بحر منها عدة جزائر، وفيه خمسة عشر بحيرة منها ملح وعذب، وفيه مائتا جبل طوال، ومائتا نهر، وأربعون نهرا طوالا، ويشتمل على سبعة أقاليم تحتوي على سبعة عشر ألف مدينة كبيرة.
وقال في كتاب هروشيوس: لما استقامت طاعة بوليس الملقب قيصر الملك في عامّة الدنيا، تخير أربعة من الفلاسفة سماهم، فأمرهم أن يأخذوا له وصف خدود الدنيا، وعدّة بحارها، وكورها أرباعا فولّى أحدهم أخذ وصف جزء المشرق، وولى آخر أخذ وصف جزء المغرب، وولى الثالث أخذ وصف جزء الشمال. وولى الرابع أخذ وصف جزء الجنوب، فتمت كتابة الجميع على أيديهم في نحو من ثلاثين سنة، فكانت جملة البحار المسماة في الدنيا تسعة وعشرين بحرا قد سمّوها: منها بجزء الشرق ثمانية، وبجزء الغرب ثمانية،
1 / 22