51

ويريد فرويد أن يجعل قيادة موسى - عليه السلام - من قبيل هذه القيادة، ولكنه يذهب بعيدا حين يزعم أن موسى كان من المصريين الذين دانوا بعقيدة «أتون»، وكفروا بعقيدة آمون، فلما انقلب الكهنة على الوحدانية التي جاءت بها عقيدة أتون، تحول موسى إلى المستضعفين من اليهود في أرض مصر لينشر بينهم هذه العقيدة في الإله الواحد، وأضاف إليها ما تلقاه من العلم بدين «يهوا» حين نجا بنفسه إلى صحراء سيناء، والتقى في أرض مدين بنبي الصحراء.

ألف فرويد المشهور - وهو إسرائيلي - كتابا خاصا عن موسى والوحدانية

Moses and Monotheism ، حاول فيه جهده أن يرجع بأصل موسى - عليه السلام - إلى الأسرة المصرية المالكة، وقال: إن اسمه نفسه يدل على أصله المصري؛ لأنه مؤلف من كلمة ابن، ومن اللاحقة التي تشبه اللواحق في أسماء رعموسيس وتحتموسيس وأموسيس، وقصته في الماء - على رأي فرويد - تقابلها في البابلية قصة سراجون الملك، الذي وضعته أمه على حافة النهر وجعلت له مهدا عائما من السلال.

وقد توسع فرويد في تخمينه فقال إن أدوناي التي أطلقها العبريون على الإله إنما هي أتون أو أتوم المصرية، وأن موسى - عليه السلام - وفق بين عبادتين ليقنع بني إسرائيل بدعوة أخناتون، وإلى هذا يرجع الاضطراب في النصوص العبرية القديمة.

وليست طريقة فرويد في تخمين التاريخ إلا أسلوبا آخر من طريقته في كشف العقد النفسية بالتخمين والتأويل تفسيرا لبواطن المريض، وقد يكون تفسير هذه البواطن قرينة على صحة الرجم بالغيب في استكشاف الأمراض الباطنية، ولكن تخميناته في سيرة موسى - عليه السلام - لا تعتمد على قرينة ولا على ظن مقبول، وليس لها سند من الآثار المصرية أو من الآثار العبرية، وفي وسع من يشاء أن يخمن مثلها على هذا المنوال، ويأتي بعشرين فرضا متضاربا من فروض الخيال.

أما سيرة موسى - عليه السلام - من المراجع الدينية، فليس فيها ما يدل على زعامة معترف بها بين بني إسرائيل، بل فيها إنكار هذه الزعامة بالقول الصريح؛ لأنه أراد أن يحكم بين خصمين من العبرانيين فقال له أحدهما: «من جعلك رئيسا وقاضيا علينا؟ ألعلك تريد قتلي كما قتلت المصري بالأمس؟»

ويرجح برستيد - أحد الثقات في التاريخ المصري القديم - أن موسى قد تخرج من المدارس المصرية الكبرى، واطلع على مكنونات علم الكهنة والحكماء، وكانت له منزلة فاضلة عند ولاة الأمر لعله كان يستخدمها في الشفاعة لقومه، والعلم بنيات الولاة وأوامرهم فيما يمس شئونهم، فتعود عقلاؤهم أن يلجئوا إليه ويوسطوه ليستشفعوا به فيما ينوبهم من الظلم وسوء الحال، وأصبح له حق الشورى عليهم كلما ارتبط الأمر بمشيئة الدولة ومطالب بني إسرائيل.

وعلى خلاف الصورة التي تخيلها «ميكال أنجو» للرسول العظيم، يؤخذ من أوصافه أنه كان وديعا «حليما جدا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض»، كما جاء في كتاب العدد من العهد القديم، وأنه كان يشكو حبسة في لسانه؛ فهو يقول عن نفسه كما جاء في سفر الخروج: «لست أنا صاحب كلام منذ أمس، ولا أول من أمس، ولا من حين كلمت عبدك، بل أنا ثقيل الفم واللسان، قال له الرب: من صنع للإنسان فما؟ أما أنا هو الرب؛ فالآن فاذهب وأنا أكون مع فمك، وأعلمك ما تتكلم به ...»

ولم يخطر له بادئ الرأي أن يقود قومه في خروجهم من مصر، ولم يكن على أهبة للرسالة الدينية قبل هجرته إلى صحراء سيناء، ولقائه في أرض مدين للنبي العربي الذي يرجح الأكثرون أنه هو نبي الله شعيب، ولكنه على مختلف الروايات قد تعلم من ذلك النبي علوما شتى في شئون التبليغ والقيادة، ولم يزل يتعلم منه، كما جاء في كتب العهد القديم بعد عودته إلى مصر، وخروجه منها مع قومه، وكان يثوب إليه كلما ساورته المخاوف، وأوشك أن ييأس من هداية القوم، أو يضيق ذرعا بما يسومونه من شهوات الطعام ولدد الخصومة والمنافسة بين العشائر على صغائر الأمور.

فالسنوات التي قضاها إلى جوار نبي مدين كانت هي فترة الاستعداد، والرياضة الروحية، والتدبر الطويل فيما يمكن عمله لإخراج بني إسرائيل من مصر، وإحلالهم حيث حل على مقربة من سيناء وكنعان، ولا بد أنه قد جاس خلال تلك الصحراء، ووطئ بقدميه أماكن الرحلة التي لا بد منها قبل الإقدام على استقرار في ذلك الجوار.

Shafi da ba'a sani ba