فإذا نظر خبير الخطوط في صفحة من الصفحات فقد تغنيه نظرة في الحكم عليها بالصحة أو التزييف، وربما جاز عليه أمر الكلمة والكلمات إذا لم يكن أمامه غير هذه الكلمة، أو هذه الكلمات للمقابلة والمضاهاة، ولكنه إذا حصل على تلك الكلمة المكتوبة عشر مرات أو عشرين مرة، لم يكن من اليسير أن ينخدع فيها كما ينخدع في الكلمة المفردة بغير تكرار، وعلى هذا المنوال يبدو الصحيح والزيف في الشعر الأصيل والشعر المدخول. وقد يجوز التزوير في الشطرة الواحدة أو البيت الواحد إذا امتنعت المقارنة بينه وبين أمثاله من تلفيق صاحب التزوير، ولكنه لا يجوز إذا كرر المزور الأبيات، ومثلت للناظر الناقد طريقته في تزوير هذه الأبيات المتفرقات.
تزوير الأدب الجاهلي مستحيل
أما المستحيل أو شبيه المستحيل، فهو تزوير أدب كامل ينسب إلى الجاهلية، ويصطبغ في جملته بالصبغة التي تشمله على تباين القائلين والشعراء، فإذا جمعنا الشعر المنسوب إلى الجاهلية كله في ديوان واحد، فمن المستحيل أو شبيه المستحيل أن نجمع ديوانا يماثله من كلام العباسيين، أو كلام الأمويين المتأخرين، وإذا قل الفارق بين الشعر المخضرم والشعر الأموي الأول والشعر الجاهلي؛ فتلك آية على صحة العلامات التي تميز الشعر الجاهلي، وعلى صحة القرابة بينه وبين الشعر الذي لم يفترق عنه افتراقا بعيدا بزمانه، وثقافة قائليه وبيئاتهم في المعيشة ومناسبات التعبير، فلا يتشابه الشعر الجاهلي والشعر المخضرم إن لم يكن بينهما ميزان مشترك، مع انتمائه إلى عشرات الشعراء الجاهليين والمخضرمين.
إن الملامح الشخصية التي تميز بين الفرزدق والأخطل وجرير لم يكن لها ثبوت أوضح وأقوى من ثبوت الفوارق التي تميز بين امرئ القيس وعمرو بن كلثوم وزهير. فمن يرى أن خلق دواوين الفرزدق والأخطل وجرير في وسع راوية واحد، فقد سهل عليه أن ينسب شعر الجاهليين جميعا إلى راوية أو رواة، ولكنه يذهب في الحالين مذهبا لا سند له ولا سابقة من مثله في آداب الأمم، ولا نصيب له من الذوق الأدبي غير النبو والاستغراب.
وربما كان «سنكلر ثسديل» الذي مثلنا به لجهل المستشرقين باللغة والذوق الأدبي مثلا صارخا، كما يقال في التعبير الحديث، ولكن المثل الصارخ هو الذي يبرز الحقيقة مستعصية على اللبس والمكابرة، ويحيط بما دونه من الأمثلة التي تتردد بين الشك واليقين، وقد أتينا على طائفة منها لا تتخلف عن المثل الصارخ بشوط بعيد.
سوء فهم وسوء نية
والمعهود في جماعة المستشرقين أن الكثيرين منهم يقرنون سوء الفهم بسوء النية؛ لأنهم يخدمون سياسة المستعمرين أو سياسة المبشرين المحترفين، أو ينظرون في بحوثهم نظرة الغربي الذي ينظر إلى الشرقي نظرة المتعالي عليه في حاضره وماضيه، غير أنهم - ما عدا القليل منهم - محدودون سطحيون يحومون حول المسائل الحسية، ولا يتوسعون في النظر أو يتعمقون وراء الظواهر التي يلمسها شاهد الحس لمسا، فلا تخرج عنده من حدود ما يثبته أو ينفيه من وقائع العيان والسماع.
فغاية ما يقصدون إليه من أمر اللغة أنهم يلتمسون الأسناد المعتمدة عند أهلها، فيأخذونها بالشك والتجريح، وأنهم يهدمون الدعائم القائمة ليستجيزوا بعد ذلك كل ادعاء يدعونه، وكل إنكار ينكرونه من أصول اليقين والاطمئنان، وتشكيكهم في أسانيد اللغة من هذا القبيل لا يعدوه إلى مطلب بعيد من مطالب الإحاطة والاستيعاب، فهو كالمنازع الذي ينكر على صاحب الدار وثيقته، ولا يعدوها إلى أركان الدار وما في الدار، وتقديرهم لمسألة الشك في وحدة اللغة أقل جدا من قدرها الصحيح في مقدمات الدعوة المحمدية؛ إذ هي أصلح هذه المقدمات للدلالة على ما بعدها، وأصدق في التمهيد لنتائجها من مقدمات السياسة والأحداث الاجتماعية؛ لأنها المقدمة الوحيدة التي تمشي في طريق الدعوة المحمدية مساوقة لها، مترقبة لأوانها، ولا تكون الدعوة المحمدية بالنسبة إليها كأنها رد الفعل الذي يقاوم ما قبله، ويجري معه مجرى النقيض من النقيض.
الفخر باللسان العربي
إن الشعور بالعربية والفخر باللسان العربي مقدمة لا بد منها للدعوة التي تواجه العرب بآية البلاغة في القرآن الكريم، وتروعهم بالمعجزة التي يحكونها إن استطاعوا، أو يحسبونها من قدرة الله.
Shafi da ba'a sani ba