Wasannin Shawqi
محاضرات عن مسرحيات شوقي: حياته وشعره
Nau'ikan
ولو أننا نظرنا بإمعان في مسرح شوقي لوجدنا أنه يقوم على عناصر أخرى دخيلة على عنصر الدراما: (1)
ففي بعض الأحيان نلقى مشاهد قصصية ووصفية لا نتبين علاقتها بعناصر الدراما، وهي أكثر صلاحية إما للقصص أو للملاحم، ونحن نفهم أن يأتي القصص والوصف عرضا في بعض الحالات داخل الحوار، إذا كان هذا الوصف أو ذلك القصص، يؤثر في عنصر الدراما أو يكشف عن جوانب نفسية من الشخصيات، ويفسر سلوكها، ولكننا لا نتبين أحيانا أيه علاقة بين ذلك الوصف أو القصص، وسير الدراما أو شخصياتها، ونضرب لذلك مثلا بالمشهد الذي يصف فيه الشاعر مرور موكب الحسين بن علي في صحراء الحجاز وتهليل العرب وتكبيرهم لذلك الموكب، ولقد يصور هذا المشهد حقيقة تاريخية ثابتة في مطلع حكم الأمويين وهزيمة العلويين وظهور مذهب الشيعة في الحجاز، ولكننا لم نتبين في المسرحية تأثير هذه الظاهرة في سيرها أو في أشخاصها، وكذلك مشاهد الجن وندوات غناء الغريض في نفس المسرحية، وذلك مع العلم بأنه حتى في مجال القصص الذي يتسع لتصوير البيئة يحرص القصاص على أن يربطوا بين تلك البيئة وأحداث قصتهم وشخصياتهم، وفي مسرحية «أميرة الأندلس» نشاهد عدة لوحات استعراضية، تصيب عنصر الدراما فيها بشيء غير قليل من البطء والتفكك، والظاهر أن شوقي كان يطمع في أن يصور البيئات التاريخية التي استمد منها مواضيع مسرحياته، وهذا مطمع لا غبار عليه، ولكن الفن المسرحي كان يقضي بأن يأتي هذا التصوير في تضاعيف عنصر الدراما، وأن يربط به رباطا وثيقا، وإنه لمن الغريب أن نلاحظ أنه عندما يكون لوصف تلك البيئة تأثير مباشر على سير الدراما نجد شوقي يلزم الصمت، أو الاقتضاب المخل في تصويرها، ولعل هذا أوضح ما يكون في رواية «قمبيز»، حيث يوضح كيف أن جنود اليونان المرتزقة، قد كانوا العنصر الغالب المسيطر في جيش فرعون، ثم يفاجئنا بأن «فانيس» رئيس أولئك الجند، قد غدر بفرعون، والتجأ إلى «قمبيز»، حيث أخبره بالخديعة التي خدعه بها فرعون عندما زوجه ب «نتيتاس» موهما إياه بأنها ابنته، وذلك دون أن يخبرنا بسبب هذا الغدر ولا بواعثه. (2)
والعنصر الثاني الذي يراه النقاد المحدثون دخيلا على الدراما هو العنصر الغنائي، وذلك باعتبار أن شوقي قد وضع مسرحياته؛ لكي تمثل، لا لكي تغنى فهي مآس وملهاة، لا أوبرا ولا أوبريت، وهم يفسرون ذلك بأن شوقي كان شاعرا غنائيا أقحم نفسه على الفن المسرحي دون أن يستطيع التخلص من طابعة الغنائي، وهذا النقد صحيح، ولكنه لا يذهب بقيمة هذا الإنتاج الأدبي الجميل، ونحن نصر على أن مآسي شوقي الشعرية لو أتيح لها الموسيقيون والمغنون الذين يستطيعون تحويلها إلى أوبرا لأصابت نجاحا كبيرا، ومن منا لا يطرب ل «أنا أنطونيو وأنطونيو أنا»، أو «جبل التوباد حياك الحيا»، أو «تلفتت ظبية الوادي»؟! أو غيرها من المقطوعات التي لحنها وغناها المطرب محمد عبد الوهاب، فما بالنا لو لحنت كل تلك المآسي من مطلعها إلى نهايتها ومثلت بالغناء، وكلها مآس تصلح بموضوعاتها ولوحاتها وأشعارها؛ لأن تكون أوبرات رائعة مستوفية لكافة العناصر، وبذلك يستمر المسرح المصري الغنائي في تطوره الغنائي، ويكمل ما ابتدأه «سلامة حجازي» و«سيد درويش».
ويسوقنا هذا النظر إلى دراسة مسألة الشعر وصلاحيته للأدب المسرحي.
وبالرغم من أن الأدب المسرحي قد نشأ شعرا عند اليونان القدماء، واستمر شعرا عند جميع الكلاسيكيين، ثم عند عدد كبير من الرومانتيكيين، وظل شعرا عند بعض المحدثين والمعاصرين، مثل إدمون روستان، إلا أن الجدل لا يزال قائما حول صلاحية الشعر للأدب المسرحي، بعد أن طغى عليه النثر، حتى كاد يغرقه، وبخاصة بعد احتلال القصص النثرية مكان الصدارة في جميع الآداب، وتقهقر الشعر حتى الغنائي منه، ونحن لا نريد استقصاء جميع النظريات التي تدور حول الشعر والنثر والمقارنة بينهما، وإنما نكتفي بعرض سريع لبعض تلك النظريات، التي تكشف عن اتجاهات ذلك الجدل، وهي نظريات قديمة متجددة قدم الأدب وتجدده.
ففي سلسلة من المحاضرات التي ألقاها بول فاليري في الكوليج دي فرانس بباريس، عرض هذا الشاعر العظيم، نظرية تشبه النثر بالمشي، والشعر بالرقص، وهذه النظرية، وإن تكن وثيقة الصلة بالمذهب الرمزي الذي يدين به هذا الشاعر، الذي يعلق على موسيقى الشعر ونغماته الإيحائية الأهمية الأولى، إلا أنها مع ذلك تصدق إلى حد بعيد على معظم أنواع الشعر وأنواع النثر؛ فالنثر بوجه عام سير نحو هدف هو: التعبير عن مكنون الفكر أو إحساس القلب؛ وهو لذلك وسيلة لا غاية، وأما الشعر ففن جميل في ذاته يقصد إلى خلق الصور الجمالية أولا، ويأتي التعبير فيه في المرتبة الثانية، ونستطيع أن نقرب للفهم هذه النظرية بمثل بسيط نسوقه دون تخير خاص؛ لأنه يكفي في إيضاح الفكرة، وليكن قولنا: «جاء وقت الظهيرة» فهذا التعبير النثري البسيط يفصح عن المعنى الذي نريده، وهو يشبه السير نحو هذا الهدف التعبيري، وأما الشعر فحرصه الأول ينصرف إلى خلق صورة جميلة تداعب الخيال، وهذه الصورة هي الهدف الأول للشعر، بينما يأتي التعبير في المرتبة الثانية؛ ولذلك يعبر الأعشى عن هذا المعنى بقوله: «وقد انتعلت المطي ظلالها.» فهذه الصورة، وإن تكن تفيد حلول وقت الظهيرة، إلا أن المعنى يتضاءل أمام الصورة الشعرية في ذاتها، وكأن هذه الصورة الجمالية رقص لغوي، وإذا صحت هذه النظرية يكون الشعر فنا جميلا في ذاته، لا يطالب بتحليل خلجات النفس الخفية وخواطرها الهروب، بقدر ما يطالب بخلق الصور الجمالية والإيحاء والتصوير بواسطة النغم والإيقاع، وعلى هذا النحو يكون الشعر أصلح للوصف والتصوير منه للتعبير والإفصاح اللذين يتطلبهما الأدب المسرحي، ويكون مجاله الغناء لا المسرح.
على أن هذه النظرية قد عارضها الأدباء والمفكرون، منذ القدم وباستطاعتنا أن نعثر عند العرب أنفسهم على معارضة قوية لها، في قول صاحب «العقد الفريد»: «زعمت الفلاسفة أن النغم فضل في المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه ، فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس، وحن إليه الروح؛ ولذلك قال أفلاطون: «لا ينبغي أن تمنع النفس من معاشقة بعضها بعضا».» ومعنى هذا النص الجميل أن الشعر يفضل النثر؛ إذ يجمع بين التعبير والنغم، وبفضل هذا النغم يستخرج من النفس ما يعجز المنطق؛ أي التعبير، على استخراجه، ويظهر ذلك عندما نرجع الشعر أي نترنم به دون الاكتفاء بتقطيعه إلى تفاعيل، أو قراءته في صمت، وكأن النغم يستنزف عندئذ جزءا من مكنون النفس البشرية، بقي متخلفا بها بعد أن حملت الألفاظ إلى الخارج ما تستطيع حمله من ذلك المكنون؛ ولهذا تعشق النفس النغم؛ لأنه يحمل جزءا منها، وكأنها بذلك تعشق بعضها بعضا، وهذا المعنى أحسه الكثيرون من نقاد الشعر في الشرق والغرب، ولقد كتب سليمان البستاني في مقدمة ترجمته للإلياذة، صفحات دقيقة نافذة عن أوزان الشعر العربي، وصلاحية بعضها لبعض الموضوعات دون الأخرى، وباستطاعتنا أن نضرب هنا مثلا أو مثلين لإيضاح هذه النظرية الرائعة، ولنأخذ إحداهما من قول الشاعر أحمد زكي أبو شادي في حنينه إلى الماضي:
عودي لنا يا ليالي أمسنا عودي
وجددي حظ محروم وموعود
وموضع الاستشهاد هو أننا نلاحظ تلك المدات المتلاحقة، التي نحس منها الحنين إلى الماضي على نحو أقوى مما تحمله دلالة الألفاظ، وكأن النغم هنا وسيلة للتعبير العاطفي تضاف إلى التعبير العقلي الذي تفيده الألفاظ، وبذلك لا يكون الشعر وسيلة للتعبير فحسب، بل وسيلة مزدوجة تجمع بين العقل والعاطفة، أو تلون العقل بالعاطفة.
Shafi da ba'a sani ba