Wasan Kwaikwayo na Malhami
المسرح الملحمي
Nau'ikan
ولكن ما تأثير هذه البطولة السلبية الجديدة على الدراما؟ كيف أثر عليها هذا الشلل الذي أصاب الفعل بعد أن تحدد من خارج الإنسان لا من داخله؟ كانت نتيجتها المباشرة هي تفتت لحظة الفعل وانهيار الحدث في الدراما؛ فالفعل والتجربة اللذان لا يجدان مكانا في الحياة الخارجية ينسحبان إلى باطن الإنسان ويفتشان عن مكان لهما في مسرح ذاته. ولقد كانت لهذا آثاره في أوائل القرن التاسع عشر على الدراما التي حاولت أن تحافظ على البناء الأرسطي بأي ثمن، فقد عدلت فكرة الدراما نفسها، وبعد أن كانت في أصولها الأولى تعبيرا عن صراع مع القدر والآلهة، أصبحت تعبيرا عن صراع مع حتمية التاريخ وقانونه الحديدي، كما أصبحت مسرح الصراع مع المجتمع. وما فتئت تسير في هذا الطريق حتى صارت مسرحية اجتماعية، ومسرحية حوار فكري، ومسرحية متقنة الصنع. وأصبح موضوعها ملحميا صريحا، وبدأ نوع من الانفصال بين الشكل والمضمون، كشف بصورة واضحة عن أزمة الدراما الأرسطية إزاء العالم الحديث ومشكلاته الجديدة.
احتفظت الدراما عند أصحاب النزعة الطبيعية بالبناء الأرسطي من حيث التزامها بوحدة الزمان والمكان وتشابك الأحداث وتسلسلها تسلسلا عليا مبنيا على أساس نفسي وواقعي. غير أنها اخترقت هذا البناء الأرسطي بتضييقها لمعنى الفعل كما فهمه القدماء. فالبطل السلبي يعطل في معظم الأحيان نمو الدراما وتطورها بالمعنى الأرسطي، بل إنه يوقف حركة الأحداث الخارجية ويقيدها في حدود الحدث النفسي. ولن نستطيع في هذا المجال المحدود أن نتتبع هذا التطور بالتفصيل؛ إذ يكفي من وجهة النظر السابقة نظرات عاجلة على المسرح الحديث لنرى كيف تطورت أزمة الدراما وكيف حاولت أن تجد لها مخرجا في محاولات وتجارب عديدة من أهمها تجربة المسرح الملحمي. •••
ونبدأ بمسرح إبسن (1828-1906م) فنلاحظ أن أسلوبه التحليلي في الدراما يتفق مع البناء الأرسطي. ولكننا لو نظرنا إليه نظرة أدق لوجدناه يختلف عن الأسلوب التحليلي الذي أشاد به أرسطو في حديثه عن أوديب سوفوكليس؛ فإبسن لا يجعل من الماضي وظيفة للحاضر كما فعل سوفوكليس، بل هو يهيب بالماضي ويدعوه من خلال الحاضر؛ ولذلك يصبح التحليل الدرامي عنده وسيلة يلجأ إليها ليدخل مادة الماضي (التي كانت تحتاج إلى معالجة ملحمية ) في نسيج الحاضر. وأوضح مثل على هذا نجده في مسرحيته جون جابرييل بوركمان (1896م). إنه مدير بنك سابق يعيش مع زوجته جونهيلد في بيت واحد، ولكنه يحيا بعيدا عنها في وحدة تامة ولم يرها من سنوات طويلة ... وفي إحدى ليالي الشتاء تزور البيت «إلارنتهايم» شقيقة جونهيلد وحبيبة بوركمان السابقة. ويدور الحوار فنتبين ماضي هذه الشخصيات الثلاث، ونرى كيف يعيشون في ذكريات الماضي بعيدين كل البعد عن العالم الخارجي. إن قوة الماضي وجبروته لا تدع أي مجال يتنفس فيه الحاضر. إنها تخنقه في بدايته، فلا يكاد البطل يجرب الفعل حتى ينتهي نهاية فاجعة. فحين يقرر بوركمان الهرب من سجن الماضي ليجرب الحياة تنتهي محاولته بالموت.
ومسرحية «الأشباح» (1881م) تصور هذا الموقف نفسه بشكل أوضح؛ فالبطل الفنج الذي تسيطر آثامه الماضية على جو المسرحية وتتسبب في وقوع الكارثة قد مات قبل بداية المسرحية نفسها بزمن طويل. ويتكشف لنا ماضيه من خلال التذكر والرواية، فنعرف مدى سلطانه وبأسه، ونرى أنه لا يترك للحاضر إلا بقايا ثلاث شخصيات محطمة بائسة. وليس نمو الحدث الخارجي إلا تكثيفا خانقا لأشباح عاشت في حياة سابقة، فنراه يتجسد أمامنا في شخصية أزفالد الفنج الذي يجن في نهاية المسرحية، وتسدل عليه الستار وهو يمد يده عبثا إلى نور الشمس. •••
ويصل تشيكوف (1860-1904م) إلى أبعد مما وصل إليه إبسن. بل إنه ليقترب بموضوعاته من عالم صمويل بيكيت وإن لم يستخلص النتائج الدرامية اللازمة عنها. وتشيكوف هو كاتب المتعبين من الحياة - إن صح هذا التعبير المصري القديم! شخصياته - مثل إيفانوف والخال فانيا - أسارى عجزهم عن الفعل. وحوارهم لا يدور في حقيقته إلا حول العجز عن الحياة والعمل، أي حول السأم والملل. ها هو ذا إيفانوف يقول: «الكسل يقيد روحي. وأنا عاجز عن أن أفهم نفسي. إنني لا أحس بحب ولا تعاطف؛ فكل ما أشعر به هو نوع من الفراغ والإرهاق ... أما الآن فأنا لا أعمل شيئا ولا أفكر في شيء، بل أحس التعب في جسدي وروحي. إنني أجلب الملل على نفسي.» فإذا ما قرر إيفانوف أن يعمل، كان أول عمل يقوم به هو محاولة الانتحار. والواقع أنه ليس وحده في هذا، ومن الخطأ أن ننظر إليه كحالة مرضية. فمشكلته ترزح فوق صدور شخصيات تشيكوف كلها. وسواء أكان اسم هذه الشخصيات هو إيفانوف أم الخال فانيا أم غيرهما من الأسماء فهم يوشكون أن يهتفوا بصوت واحد: «لا بد أن يعمل الإنسان شيئا ... لا بد أن نعمل ... نعمل!»
ولكنهم مساكين متعبون، يحاولون بثرثرتهم الدائمة عن العمل والأخلاق أن يداروا موقف عجز وإحباط لا نجاة منه.
ومسرحيات تشيكوف الأخرى تتناول نفس الموضوع. فطائر البحر (1899م) يسيطر عليها ذلك الماضي الذي لمسنا جبروته في مسرح إبسن. والشقيقات الثلاث (1901م)، يتخلين عن الحاضر ويحيين في ذكريات الماضي. فإذا بحثنا عن الفعل وجدناه يتأثر بأحداث تنفذ إلى العالم الساكن الذي تعيش فيه الشقيقات ولكنها لا تؤثر عليه تأثيرا يذكر. فالحدث الحقيقي ساكن وجامد في مكانه. والحوار لا يولد فعلا ولا يدفع حدثا إلى الأمام. والشخصيات التي صدت نفوسها عن الحاضر تكتفي بتحليل ذاتها واجترار سأمها أو أملها في مستقبل خيالي لا أساس له في أرض الواقع. وكل من قرأ «بستان الكرز» (1904م) يعلم أن تشيكوف قد جعل هذا التعب من الحياة عنوانا على طبقة اجتماعية تتحلل وتنهار، وما بستان الكرز إلا رمز حياتها الباطنة التي تتحطم. والمسرحية لا تنمو ولا تتطور بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة، بل تصف حالة تزداد سوءا على سوء. والشخص الوحيد الذي يمكن أن يقال عنه إنه يعمل ويفرح بنتيجة عمله - وهو «لوباخين» الذي سيرث البستان - إنما يجسد في الواقع روح العصر الجديد، روح رجل الأعمال الصغير الذي لا سبيل إلى التفاهم بينه وبين الشخصيات. ولعل بستان الكرز هي أوضح مسرحيات تشيكوف تعبيرا عن الجزر المنعزلة التي تعيش فيها شخصياته منطوية على أحزانها. ما من أحد يجد جسرا يصله بالآخر، بل كل منها يعيش وحيدا في عالمه الوحيد. كل واحد يتحدث في الحقيقة مع نفسه، ويتكلم بكلام لا يفهمه غيره، حتى يصبح الحوار في النهاية وسيلة للاغتراب والتباعد، لا للاقتراب والتفاهم. إنه يفرغ من مضمونه، ويصبح نوعا من المونولوج الذي يدور في الفراغ، وهو ما سنجده في مسرح بيكيت فيما بعد.
والنتيجة الطبيعية المترتبة على هذا الموقف هي أن الشخصية التي تقف خارج المجتمع ويجسد فيها بيكيت رفضه لهذا المجتمع ويجعلها المحور الذي تدور عليه رؤيته للعالم هي الشخصية البارزة في مسرح تشيكوف. ونحن إذا استعرضنا شخصيات بستان الكرز وجدناها تضم نبلاء بؤساء، وطلبة صعاليك، وعاجزين فاشلين من كل نوع، وفتاة تشيخ وتتحسر على العمر الذي يفلت منها، كما نجد المربية شارلوت التي نسمع في كلماتها تلك النغمة الأساسية التي تحدد طابع المسرحية كلها: «إنني لا أملك بطاقة شخصية صحيحة ولا أعرف سني ... عندما كنت صغيرة كان أبواي يرحلان إلى كل الأسواق ويعرضان ألعابهما الممتازة، أما أنا فكان علي أن أقفز قفزات الموت ... إنني دائما وحيدة، دائما وحيدة، وما من أحد يمكنني أن أقول عنه إنه ينتمي إلي أو إنني أنتمي إليه ... أنا لا أعرف أبدا من أنا ولا لماذا وجدت.»
والمهم أن الطبقة الاجتماعية التي تعيش هذه الشخصيات في ظلها وتأكل من طعامها - وتمثلها صاحبة الضيعة وشقيقها - طبقة تقف على شفا السقوط والاندثار. وهم جميعا ينطوون في النهاية على عجزهم ووحدتهم، ويخفقون في صراع الحياة مكتفين بأن يحلموا بالبدء من جديد، دون أن يعرفوا كيف ولا من أين يبدءون ...
وأخيرا نجد في بستان الكرز أسلوبا مسرحيا يظهر ويتكرر ظهوره في مسرح اللامعقول فيما بعد، وتعني به ملء خشبة المسرح وإخلاءها، فوصول الشخصيات ورحيلها - وهما العنصران اللذان يمثلان الحدث المرئي فوق الخشبة - تصبح لهما وظيفة محدودة. وفي ختام المسرحية تظل الخشبة خالية لفترة طويلة قبل أن يسدل الستار. ولو رجعنا لإرشادات تشيكوف للمخرج لوجدناه يقول: «تغلق النوافذ من الخارج وتوصد بالمسامير، يحل الظلام على خشبة المسرح. ثم يعود النغم البعيد كأنما يهبط من السماء، ويسمع صوت عزف على القيثارة، يتوثب ثم يحتضر في حزن . يخيم السكون ولا يبقى إلا صوت ضربات الفئوس المختنق فوق الأشجار آتيا من أعماق البستان.»
Shafi da ba'a sani ba