ابتسم وهو يقول لها بأدب كبير، بأنه من خلق لأجل المسيح، وقال لها كما قال يوحنا المعمدان ذات مرة: أنا لست سوى خادمه.
ثم أضاف وهو يقترب منها كثيرا إلى أن شمت عبق الزهور البرية: أنا يحيى يا مريم، هل نسيتني، يحيى ابن مريم كويا، جاركم في حي الوادي؟
أطعمها وجبة الجراد المفضلة لديه، وسقاها من العسل المخلوط بالماء وهما شرابه وطعامه منذ سنوات كثيرة؛ أي منذ أن هام بوجهه في فلوات الله الواسعة، يبحث عن معنى لوجوده بعد أن أجلس ابن الإنسان في كرسي العرش الذي مهده له هو بنفسه. كان يرى أن مهمته قد انتهت، وأن مهمة أخرى لا تقل صعوبة قد بدأت، وهي مهمة البحث عن معنى، معنى يجعله يعيش ألف سنة أخرى، وألفا بعدها، ليبشر بسيده أيضا، في حيوات دنيا وسماوية كثيرة تنتظر في إبط الأزمنة الحنون.
حدثها بأن الرجل في انتظارها، وأنه يتوقعها في كل لحظة وحين، وقال لها: كلنا من أجل أن نمهد سبله، وهو جاء لكي يصنع الموكب الذي يعد له الآن.
سألته: ما هو الموكب؟
يبدو أن الفرس كان مستمتعا بالعشب، قام فسقاه بعض الماء، لاحظت للمرة الثانية أن رائحة جسده لم تكن كرائحة جسدها، رائحته أشبه بشميم الزهور البرية، أما رائحة جسدها فكانت مثل رائحة نسر كاسر قضى العمر يعمل منقاره ومخالبه في الجيف المنتنة، كان خفيفا وهو يمضي ما بينها والفرس، ما بينها ومائدة الجراد ساري الليل، ما بينها وثمار الدوم التي يقدمها أيضا للفرس ولها، ما بينها والنار المستعرة، التي يوقدها بنواة الدوم الصلبة. حدثها بأنه يعرف الليل معرفة حميمة، ويعرف النهار، وأنه يعرف الصحراء والغابات والفلوات الشاسعة الممتدة من هذه النقطة إلى ما لا نهاية، وأنه يعرف الإنسان والحيوان والجماد والمكان والزمان، وقال لها كل ذلك لم يسعفه في أن يجد معنى.
قالت له: هل لأن المعنى من الله؟
لم يجبها. قضيا الليل يحكيان عن طفولتيهما في هذه الأنحاء، وعن الناس والحرب اللئيمة، وربما اتفقا أن السيد جاء من أجل أن يمحو سيرة الحرب. في الصباح الباكر وصف لها أقرب الطرق إلى جبل أم كردوس، ومضى.
عندما شاهدت الرجل، استطاعت أن تتعرف عليه منذ الوهلة الأولى. لقد بحثت عنه بعيدا جدا، وكان هو أقرب ما يكون، سوف لا يخذلها كما خذلها شارون، إنه هو عيناه تقولان ذلك، بساطته السلام الذي يشع من وجهه كله، الهدوء والبساطة في كل ما يقوم به، إنه لا يضحك مثل شارون بل يبتسم، وهو لا يقيم كمائن وينصب الألغام للأعداء، ولكنه ينصبها من المحبة للمؤمنين به، وعرفت فيما بعد أن ذلك للكافرين به أيضا، فهو صائد قلوب وأرواح، ليس صائدا للأجساد والمليشيات، الشيء الوحيد الذي يجمع الرجلين هو كراهيتهما للجنجويد، تلك الكراهية التي لها رائحة تشم، ولون يرى، وصرخات تسمع، وأنين وجحيم. ولقد قال عنهم شارون مرة إنه لا يدري إذا كان الجنجويد قد خلقهم الله الذي خلق الوردة والماء، أم أنهم قد تم تحضيرهم في المعمل مثلهم مثل الجراثيم والقنابل النووية، كأحد أسلحة الحرب.
لأن الجنجويد يفتقدون لأبسط القيم الإنسانية، دعنا من قيم التسامح والحب والجمال. وقد ربطت ذلك فيما بعد بمقولة الرجل الشهير: «أهون لجمل أن يمر من ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله.» وتيقنت أن الجنجويد من الأشياء المستحدثة؛ أي روبوتات وليسوا بشرا؛ لأن مقولة الرجل هذه لا تستقيم مع مسيحيته؛ فالتسامح وعدم الإدانة هما مما يدعو بهما الرجل؛ إذ إن الجنجويد هؤلاء أشياء من تحضير البشر، إنهم من صنع مخلوق أدنى، في يوم ما سيتأكد الناس من ذلك؛ فلا يمكن لروبوت أن يدخل الملكوت، إلا بقدر أن تدخله بندقية أو دبابة.
Shafi da ba'a sani ba