وقال لنا: لا تصنعوا مني صنما وتعبدوه؛ لأنني لا أصنع منكم أربابا وآلهة.
وقال لنا: أنتم أعرف مني في كل شيء، وأعلم مني عن كل شيء، وأقرب مني من كل شيء، وأنتم في الحب مثل اللهب في وجه الشمس، وأنا يا أحبائي الشمس: فلا تؤمنوا بي ولا تكفروا بي، وضعوني في ذاكرة أيامكم.
وقال لي: يا إبراهيم، لا تسع عينيك كما تسع قلبك، بل افتحهما للكون هكذا؛ ومد ذراعيه في اتجاهين متعاكسين، ورأيناهما يحتويان الدنيا كلها وقلبي وعيني وقلبه وعينيه.
قال لتلاميذه: العالم أضيق قليلا من أحلامكم وأكثر اتساعا من أحلامكم، إنه مثل شعلة النار التي تكمن في الشجرة، ومثل الشجرة التي تكمن في الصخرة، ومثل الصخرة التي في القلب: ثقيلة وملساء، ولها بريق جذاب، تحروا الحقيقة فإنها مخادعة.
عندما خرجوا من المغارة، خرجوا مثل الأغنام التي احتجب المرعى عنها سنوات طوالا، وبقي في ذاكرتها شهيا أخضر وبعيدا جدا ونادرا. كانوا يتشوقون إلى الراكوبة والقرية وغدير الماء العذب، خلعوا ملابسهم ورموا بأجسادهم في الماء، رجالا ونساء وأطفالا، في ذات المكان، ذات الشط، ذات الماء، وذات العري. كانوا يسبحون ويلعبون مثل الدلافين المسحورة، مثل سمكات دب فيها روح شيطان نزق: كالأطفال.
وعندما خطا خطوته الأولى في الماء، فعل الماء كما يفعل دائما عندما يتوغل فيه ابن الإنسان، أصبح أكثر هدوءا من لوحة على الحائط، أكثر صفاء من قلب أنثى تعشق، وأكثر جمالا من مرآتك الشخصية. كان مصقولا، دافئا، وله شميم الياسمين. ولأنهم اعتادوا على ذلك واصلوا يلعبون ويضحكون ويشربون الماء ويتغنون. كانوا من بلاد شتى، وسحنات شتى، وقبائل شتى، وألوان شتى، ورؤى فاتحة على نوافذ شتى: كانوا يلعبون.
قال لها: لا تجعلي قلبك مملوءا بالحب، لا تجعليه مملوءا بالجمال، لا تضعي ذلك الشيء الذي يسمى الرحمة والطمأنينة فيه؛ لأنهما يتمددان كالهواء الحار ويملآنه، لا تشغليه بهذا وذاك، حرري قلبك من كل شيء ولا شيء، حتى يصبح خاويا كالفراغ، حينها فقط تستطيعين أن توطني الكلمة فيه، فالكلمة لا تكون مع شيء ولا يكون شيء معها، ولكنها إذا استوطنت القلب ملأته بالأشياء.
شيزوفرينيا المستلب
أصبح شيكيري ملما بكل هذا الإرث المؤلم، وملكه بذلك نفسه تماما، وما كان يظن شيكيري أن إبراهيم يحمل كل هذا الماضي الحزين. أما من جانب إبراهيم فحكايات أصله وفصله جزء من أسطورة ذاته؛ فهو لا يخجل منها، بل يستطيع أن يقول إنها تمنحه قوة وثقة بنفسه، ودائما ما ينظر بإجلال لهؤلاء النفر من جدوده، الذين ذاقوا مرارة الحرمان، وبعضهم منذ ميلاده إلى مماته لم يعش يوما واحدا كإنسان حر، لم يستمتع بجمال هذا العالم المدهش، لم يحقق حلما ولو كان صغيرا خاصا به، حرموا حتى من الحق في الأسرة، حيث أطفالهم ملك لسادتهم، يبيعونهم كيفما ووقتما وأينما شاءوا. كان يعتبرهم أبطالا وشهداء فعليين، ومن حقهم عليه أن يفخر بهم، ومن حق كل من ساهم في مأساتهم أن يخجل من نفسه، وهذا أضعف الإيمان.
بدأ له شيكيري السكوت، الآن يضج بالتخبط، ويوقن أن زوجته عبد الرحمن بتهورها سوف ترميه في مهاو لا فكاك من شراك قيعانها، والآن قد تورطا في الحرب بصورة نهائية ومفجعة، فلقد أصبح أحد قادة الفصائل، وصار من أشرس المحاربين وصانعي الخدع الحربية، وهو الأسلوب الذي يتبعه شارون في خططه الحربية. أما عبد الرحمن فقد أخذت تحوز على مركز قوة تدريجيا، فمنذ اليوم الذي شوهدت فيه تمزق ملابسها وسط المدينة، وترتدي البذلة العسكرية، قد أصبحت شخصا آخر، شخصا يسعى للسلطة والسيطرة بكل ما أوتي من جهد وحيل ومكر، وكان واضحا أنها تسعى لأخذ موقع متقدم في قيادة الحركة، وتعرف أن كل نقطة قوة تحصل عليها، هي خصم من سلطة شارون، ويعرف شارون ذلك ، وهل يقبل أم أنه ينتظر إلى حين أن تقع عبد الرحمن في كمين يعده بمزاجه، كأسلوبه في إدارة المعركة؟
Shafi da ba'a sani ba