ولما مات فرناندو بعد امرأته في سنة 1516 كانت إسبانيا دولة واحدة قوية، وليس فيها من العرب غير بعض الآثار وكانت أميركا برمتها أو ما عرف منها إلى ذلك الحين في قبضة هذه الدولة، وقد هاجت الخواطر من اكتشاف تلك القارة وبدأ الذهب يرد منها إلى إسبانيا والهمم تتحرك ونفض الناس غبار الخمول، وقامت أوروبا بعد ذلك الظلام الدامس تحاول التقدم فكانت إسبانيا في طليعة هذه الممالك العظيمة، ولما ولي الملك كارلوس الأول ابن فرناندو هذا كان صاحب أعظم الممالك ثم انتخب إمبراطورا لألمانيا بحق الوراثة؛ لأن أمه كانت صاحبة الحق في تلك المملكة؛ فصار كارلوس الأول ملك إسبانيا وهو شارل الخامس إمبراطور ألمانيا أعظم ملوك الزمان في أيامه لم تغب الشمس عن أملاكه ولم تر إسبانيا عزا مثل عز دولته؛ فإن الذهب تدفقت ميازيبه على إسبانيا مدة حكمه من أميركا وصولته عمت البلدان؛ لأنه قهر فرانسوا الأول ملك فرنسا والسلطان سليمان، وأذل الأمراء المعاندين له وبقية تاريخه ذكرت في تاريخ النمسا وألمانيا. وتنازل هذا الملك العظيم في سنة 1556 عن الملك فخلفه في إسبانيا ابنه فيليب الثاني وكانت البلاد يومئذ في أوج عزها ومعظم ثروتها، واقترن فيليب هذا بماري ملكة إنكلترا، فلما ماتت حاول الاقتران بأختها إليصابات التي خلفتها على الملك وغضب من إبائها، فصمم النية على قهرها وإخضاع بلادها، وأرسل على إنكلترا أسطولا عظيما يعرف باسم الأرمادا الكبيرة، كانت قطعها 135 وفي ظن الملك فيليب أن مثل هذه القوة البحرية لا تغلب، ولكن الأقدار عاندته فحطمت سفن الإنكليز هذا الأسطول بقيادة أمير البحر درابك وعاد فيليب عن بلاد الإنكليز بالخسران، وكان المذهب البروتستانتي قد نشأ في ألمانيا على عهد كارلوس الأول، فلما صار فيليب ملكا ورأى تقدم البروتستانت ساقته الغيرة على دينه الكاثوليكي إلى تعذيب البروتستانت واضطهادهم في كل ممالكه، وهو الذي ثارت هولاندا عليه على مثل ما تقدم في تاريخها، وكان فعل القوم في إسبانيا على منتهى القسوة والشدة حتى لم يعد أحد الأهالي يجسر على ذكر المذهب البروتستانتي؛ فامحى من ذلك اليوم ولم تزل إسبانيا كلها كاثوليكية قحة إلى هذا النهار.
ومات فيليب سنة 1598 معذبا من أشد الأمراض آلاما فخلفه ابنه فيليب الثالث، وتلاه فيليب الرابع وهو الذي سلخت البورتوغال عن إسبانيا في أيامه سنة 1640. وخلفه كارلوس الثاني، فلما مات سنة 1700 حدثت ثورة وحرب انتهت بانتخاب أمير من آل بوربون - وهم ملوك فرنسا - للحكم باسم فيليب الخامس، وكان هذا الملك الجديد ابن إحدى الأميرات الإسبانيات، ويعد من أعقل ملوك إسبانيا هو والذين تلوه من آل بوربون، فقد كانوا جميعا أهل حزم وتعقل ظلوا حاكمين من تلك السنة إلى 1788 حين مات كارلوس الثالث، وهو آخر ملوك الدولة البوربونية، فحدثت حروب وثورات كثيرة لا محل لذكرها انتهت بعد تولية عدة ملوك وملكات بأن كارلوس الرابع تخاصم مع ابنه على الملك وحكما نابوليون الأول في أمرهما سنة 1808، فحكم بعزل الاثنين وجعل أخاه يوسف ملكا للبلاد، وكان يوسف عادلا متأنيا ولكنه لم يملك طويلا؛ لأن البلاد قامت عليه وجاءت جنود إنكلترا فطردته وقائدها يومئذ الديوك أوف ولنتون الشهير الذي سحق قوة نابوليون في واترلو، وبعد خروج الجنود الإنكليزية عادت الحروب والقلاقل واستقلت ولايات أميركا الجنوبية كلها سنة 1820، فصارت جمهوريات معلوم أمرها، وقد كان أكثرها للدولة الإسبانية ما خلا بلاد البرازيل؛ فإنها كانت تابعة لمملكة البورتوغال، وما زال أهل أميركا الجنوبية إلى هذا اليوم يعرفون بأصلهم الإسباني ولغتهم إسبانية أيضا، وظل أهل إسبانيا كل يوم ينصبون ملكا أو ملكة وهم لا يقر لهم قرار حتى قر رأيهم على تمليك الأميرة إيزابلا سنة 1843، ولكنهم عادوا وانقلبوا عليها وهم في ثورات وحروب أهلية إلى سنة 1870 حين انتخبوا أماديو الأول ابن ملك إيطاليا فكتور عمانوئيل، وما ملك غير ثلاث سنين ثم تنازل عن الملك سنة 1873، فانتخب الأهالي أميرا من آل بوربون هو ألفونس الثاني عشر والد الملك الحالي، كان ذكيا مقداما أسكن ثائر الأهالي وأعاد الطمأنينة إلى البلاد، واقترن بأميرة من آل هابسبرج هي والدة الملك الحالي، ومات هذا الملك الطيب بالهواء الأصفر سنة 1886 وامرأته يومئذ حامل، فحكمت مكانه وصية للملك حتى ولد ابنها ألفونس الثالث عشر وهو الملك الحالي، وقد عنيت الملكة كرستينا بتربيته تربية تساعده على إدارة مهام الملك، واستعانت بأمهر الأساتذة والمربيات.
وفي 17 مايو سنة 1892 احتفل الإسبانيون بتتويج ملكهم احتفالا قامت فيه أشكال السرور من جميع الناس بارتقاء جلالة الملك ألفونسو الثالث عشر عرش آبائه وأجداده بين مظاهر الطرب والحماس الشديد، وكان يوم التتويج صافي الأديم معتل النسيم خرجت فيه مدينة مدريد عن بكرة أبيها مع القادمين إليها من بعيد الأقطار؛ لتشهد الموكب العظيم وترى أبهة الملك، وكان كل المتفرجين بأحلى الحلي وأثمن الأطالس والحلي زاد عددهم في الشوارع الكائنة بين قصر الملك وقصر مجلس الأمة عن ثلاثمائة ألف نفس، وكانت قاعات المجلس قد ملئت بالمدعوين العظام من نواب إسبانيا وأشرافها وقوادها ورؤساء دينها ووزرائها وحكامها وقضاتها والسفراء والأمراء الأجانب الذين جاءوا وفودا من قبل الدول المتعددة ليشاركوا الدولة الإسبانية في الاحتفال بذلك اليوم، أحاطوا بعرش الملك والمقاعد المعدة لأقاربه حين يجيء ليقسم يمين الأمانة. وبينا هم ينتظرون سمعوا هتاف الجماهير من خارج القاعة وتعالت أصوات الناس وتصفيقهم وضج الفضاء بأنغام الطرب تزيد وضوحا لحظة بعد لحظة حتى إذا قرب الملك وموكبه من باب المجلس صار الصراخ شديدا يصم الآذان، ودخل جلالته باسما تظهر على محياه علامات السرور والشكر للحاضرين، فجعل يلتفت ذات اليمين وذات اليسار يحيي أولئك الكبراء وقد وقفوا حال دخوله القاعة، ثم جلس فوق العرش وجلس الباقون، وتقدم رئيس مجلس الأمة فوقف أمام الملك ووقف الملك، ثم تناول منه ورقة كتب عليها صورة القسم فتلاه بصوت جهير وتعريبه كما يجيء:
أقسم بالله العظيم وبهذا الإنجيل الطاهر، أني أحافظ على نظام البلاد وقوانينها، فإذا فعلت فليجزني الله بما يشاء وإن لم أفعل فليدعني الله للحساب.
ولما انتهى الملك من تلاوة هذا القسم ضج الحاضرون هتافا ودعاء وهم يقولون: ليحيا الملك مرة بعد مرة، وعند ذلك تقدمت الملكة كرستينا إلى ابنها فقبلته وهنأته وهنأه بقية الحاضرين من العظماء والكبراء، وألقى رئيس بلدية مدريد خطابا موجزا بين يديه؛ فانتهى بذلك احتفال الإسبانيين بارتقاء ملكهم عرش البلاد ودار الملك بعد ذلك بين العظماء الحاضرين يحدث هذا، ويلاطف ذاك حتى خرج من قاعة المجلس والكل من ورائه ثم ركب الجميع عرباتهم وساروا إلى الكنيسة الكبرى حيث تليت صلاة التتويج، وكانت الشوارع المؤدية إلى تلك الكنيسة غاصة بألوف الخلق ومئات الألوف وآيات الزينة في جانبي كل شارع مر به الموكب تبهر الأنظار، وملابس الإسبانيين رجالهم ونساؤهم ظاهرة الجمال كثيرة التزويق والألوان، وبلغت الزينات أجمل أشكالها حول الكنيسة؛ لأن خدمة الدين أنفقوا ألوفا مؤلفة على إعدادها باعتبار أنهم خدمة دولته الكاثوليكية وأعوان ملكه من قدم، وكان في الكنيسة من هؤلاء الرؤساء وكيل قداسة البابا وكاردينال سانتياغو وكاردينال برشلونة وثلاثون مطرانا وأسقفا وقفوا جميعهم في مدخل الكنيسة؛ ليرحبوا بجلالة الملك حين وصوله، وكانت الصلاة مؤثرة جدا ولا سيما الأنغام الروحية التي غناها أفراد مدربون استعدوا لها أياما طويلة من قبل التتويج.
ولما عاد الملك إلى قصره بموكبه العظيم وردت عليه التهاني من كل الأقطار ومن نواحي مملكته ألوفا، وكان أحسن ما قال الملك في الرد عليها جوابه المنشور على الأمة الإسبانية، وفيه ما يجيء:
إني وقد استلمت زمام الحكومة من يدي والدتي العزيزة أرسل إلى أفراد أمتي الإسبانية خالص تحياتي وحبي، وإني عالم بمقدار المسئولية الكبرى التي وقعت علي الآن، عازم بإذن الله العلي أن أقوم بأعبائها، باذلا في سبيل ذلك كل قواي، ولست بجاهل أني ينقصني الاختبار والعلم الذي أناله على ممر الأيام، ولكنني أؤمل من أمتي أن تسمح لي بالوقت الذي يلزم لهذا الاختبار، فإذا ساعدتني العناية الإلهية وإذا سمح الشعب الإسباني بتعضيدي كما عضدوا والدتي من قبلي في مدة وصايتها علي، فإن الأمة الإسبانية ستعلم أني لست أول أفرادها في الرتبة فقط، ولكنني أول أبنائها العاملين على ترقية شئونها والمجدين في المحافظة على سلامتها وعظمتها، ولي أمل أن الشعب يساعدني على يوم بلوغ هذا القصد الشريف.
وفي تلك الليلة أقيمت حفلة رقص في قصر الملك - وهو من أجمل قصور أوروبا كما سيجيء الكلام عنه - حضرها أربعة آلاف نفس من الأمراء والسفراء الأجانب ورجال الحكومة العظام من عسكرية وبحرية وأشراف إسبانيا، وفيهم العدد العديد من رؤساء العشائر القديمة التي لها شأن عظيم في تاريخ إسبانيا، وكان الكل بملابسهم الرسمية ونياشينهم، وكان الملك يلاطف المدعوين باسما ضاحكا، وعلى صدره نحو عشرين وساما وردت لجلالته من القياصرة والملوك أثناء تتويجه.
وفي الغد - أي يوم 18 في الشهر المذكور - استعرض الملك جيشه وخطب في الجنود خطبة حماسية وطنية، ثم استعرض طلبة المدارس، وفي مساء هذا اليوم أقيمت حفلة رقص كانت خاتمة الحفلات في زمان التتويج.
وزار ملك إسبانيا عدة عواصم في أوروبا فتعرف بالقياصرة والملوك وأسرهم، وكان ينوي في هذه السياحات أن ينتخب له قرينة فاختار البرنسيس أوجيني فكتوريا بنت البرنس هنري باتنبرج الألماني وأمها البرنسيس بياترس أخت جلالة ملك إنكلترا الحالي، وكان والد الفتاة قد حضر حرب الأشانتي في شرق أفريقيا سنة 1896 وبينا هو راجع منها إلى إنكلترا أصابته الحمى قبل أن يبلغ تلك البلاد فمات بها وأولاده يومئذ صغار؛ ولذلك عنيت جدتهم الملكة فكتوريا وأمهم بتربيتهم واهتمت البرنسيس بياترس للفتاة على نوع أخص حتى إنها شبت على أحسن المبادئ، واشتهرت بعد ذلك بجمالها الباهر حتى إن الملك ألفونسو فضلها على كل بنات حواء وخطبها من أمها وخالها فقبل طلبه، وعين يوم 31 مايو من سنة 1906 موعدا للاقتران في مدريد عاصمة إسبانيا، وكان الملك قبل الاقتران يتردد على لندن لزيارة خطيبته وترتيب معدات العرس ومقدماته وهي كثيرة ما بين السراة والملوك لا سيما، وأن البرنسيس كانت على المذهب البروتستانتي والملك على المذهب الكاثوليكي، وقد تمت الرسوم اللازمة لذلك، وأهمها أن الأميرة غيرت مذهبها واعتنقت مذهب الكاثوليك؛ ففي يوم الجمعة الموافق 25 مايو سنة 1906 - أعني قبل الاقتران بأسبوع - قامت البرنسيس من قصرها بجوار لندن مع والدتها وإخوتها وحاشيتها إلى محطة فكتوريا التي كانت غاصة بأفراد الأسرة المالكة الإنكليزية والوزراء واللوردات، وفي مقدمتهم ملك إنكلترا خالها، وكان فيها من الهدايا التي قدمها أهلها وكبار القوم في إنكلترا وألمانيا وغيرهما ما يقدر بمليوني جنيه، من ذلك تاج ألماس أهدته إليها الإمبراطورة أوجيني أرملة نابوليون الثالث وهي عرابتها - أي إنها كانت وصيتها ساعة الولادة - وهي - أي الإمبراطورة - صديقة أم الفتاة وجدتها، يقال إنها أوصت لها ببعض مالها نظرا إلى هذه العلاقة وإلى كون الإمبراطورة أوجيني من أصل إسباني واسم ملكة إسبانيا أوجيني فكتوريا كما تقدم على اسم هذه الإمبراطورة واسم الملكة فكتوريا أيضا.
Shafi da ba'a sani ba