قلنا إن جيشا قويا من اليابان أقام على محاصرة بورت أرثر حتى اضطرها إلى التسليم، ثم انضم إلى الجيش الكبير الذي كان أوياما قائده في منشوريا فصارت قوة اليابانيين هنالك عظيمة قدرت بنحو 450 ألفا، وتقدمت على أهم مواقع الروس في مكدن، وهي عاصمة منشوريا، فحدثت هنالك معركة ربما كانت أكبر معارك التاريخ الحديث، اشترك فيها نحو مليون محارب من الجانبين، ودامت يومين، ثم رأى القائد الروسي أن البقاء موضعه أصبح مستحيلا؛ نظرا إلى تكاثر قوات الأعداء فأرسل يخبر القيصر بتقهقره مرة أخرى، واستعفى من القيادة العامة فخلفه الجنرال لنيفتش، ولكن الحرب وقفت بعد هذه المعارك الهائلة؛ لأن أمم الأرض بدأت ترى جسامة مصائبها فجعلت تسعى في الصلح، وكان السابق في هذا السعي المستر روزفلت رئيس ولايات أميركا المتحدة سابقا ففاز بالمراد ودعا مندوبي الدولتين إلى بلاده لعقد الصلح، وقد تم الصلح على شروط ، أهمها: أن تعترف روسيا بسيادة اليابان على كوريا وتخلي لها بورت أرثر، وتعيد إلى الصين النصف الجنوبي من منشوريا وتتنازل لليابان عن نصف جزيرة سخالين، ولكنها لم تدفع غرامة حربية وبهذا انتهت أكبر حروب القرن العشرين.
على أن روسيا لم تنته من هذه الحرب حتى وقعت فيما هو شر منها، إذ ثارت في أرجائها القلاقل الداخلية، وقام المطالبون بالدستور وأهل الفوضى على الحكام والسراة فأودوا بكثيرين، أعظمهم الغراندوق سرجيوس عم القيصر قتل في موسكو بقنبلة انفجرت تحت عربته فحطمتها ومزقت الرجل تمزيقا، وألقيت قنبلة في منزل المسيو ستولبين رئيس الوزارة يومئذ، فأودت ببعض الأعوان وجرحت ابنة الوزير وكثير من سواها، وما زال القوم في مطالبة بالدستور ومعظم رؤساء الدين والأشراف يقاومونهم حتى أذعن القيصر لرأي الأمة وعمل بالمشهور عنه من حب الرعية؛ فأمر بإنشاء مجلس نيابي اسمه الدوما وإشراكه مع الحكومة في شئون البلاد، ويبلغ عدد سكان روسيا مائة وخمسين مليونا وهم يزيدون مليونا ونصف مليون من النفوس كل عام، فسيكون لها شأن عظيم في المستقبل.
نقولا الثاني إمبراطور روسيا.
بطرسبرج
تعد اليوم بمليونين من النفوس، وقد أسسها القيصر بطرس الكبير على ما عملت في باب التاريخ، وجعل موقعها على نهر النيفا، وهو يخرج من بحيرة عظيمة اسمها لادوجا على مقربة من المدينة، ويصب في البلطيق عند مدينة كرونستاد.
كانت مدينة موسكو المشهورة عاصمة روسيا حتى قام بطرس الكبير ورأى أن بعدها عن بقية أنحاء أوروبا وعدم اتصالها ببلدان الغرب يضر ببلاده؛ ولهذا انتخب موقع بطرسبرج ودعا إليها العملة ألوفا، فكان يعمل في بناء المدينة نحو 40 ألف عامل مدة أعوام متوالية، والأسوجيون يوالون الهجوم عليه حتى اضطر أن يبني حصونا ترد هجماتهم وتقي العمال شر فعلهم، ولم يزل ذلك الموقع حصينا مشهورا باستحكاماته هو كرونستاد التي مر عنها الكلام.
وبنى بطرس لنفسه كوخا من الخشب في ذلك المكان، وأبدله بعد ذلك بمنزل فخيم على ضفة النيفا، فكان يراقب سير العمال ويرشدهم بنفسه ويدير أمور المملكة من ذلك الموضع، وكلما عسر عليهم أمر فعله بيده حتى إنه ليروى عنه أنه جاءه عامل يشكو من ألم في ضرسه ويرجوه الإذن بالذهاب إلى الطبيب، فقام القيصر واقتلع ذلك الضرس بيده حتى لا يغيب الرجل عن عمله زمانا، ولم يزل الضرس محفوظا في أحد معارض العاصمة دليل اجتهاد هذا القيصر العظيم وكثرة مواهبه، وظل الأسوجيون يهاجمون بطرسبرج إلى أن سحق بطرس الكبير قواتهم في معركة بولتافا، ومن ثم تقدم العمل في بناء المدينة وتنظيمها حتى صارت من المدائن العظيمة، وتقاطر السكان إليها من كل حدب بعيد.
على أن تقاطر الناس للسكن في بطرسبرج لم يكن بغير عناء، فإن أهل موسكو وكييف، وهما العاصمتان القديمتان لروسيا ما زالوا يحنون إلى وطنهم ويذكرون ما فيه من الكنائس والأديرة ومدافن القديسين، وهم أهل تقى وورع مشهور - كما يعلم القارئ - فرأى القيصر أن يحول ميلهم إلى مدينته الجديدة بنقل عظام القديس نفسكي الذي يعتبره المسكوييون وليهم الأكبر من موسكو إلى بطرسبرج، وبنى لهذه العظام كنيسة وديرا عظيمين ومدرسة يتلقى فيها رجال الدين العلوم اللاهوتية، فمالت بعض النفوس إلى الانتقال مع عظام هذا القديس، وكان القيصر يلجأ إلى القوة في بعض الأحيان؛ لنقل العائلات وتعمير العاصمة الجديدة، وحول بطرس بعد موسكو نظره إلى كييف، وهي العاصمة الأولى لروسيا، فيها مدفن القديس إسحق الذي أدخل النصرانية إلى البلاد وكانت يومئذ أشهر مدائن روسيا بمعابدها وأديرتها، فبذل القيصر جهده وبنى للمهاجرين منازل من الحجر، وحظر على كل المدائن الروسية أن تشيد منزلا بالحجر حتى يتم بناء بطرسبرج، وما زال على مثل هذا الجهد حتى عمر المدينة وغادرها حين وفاته وفيها 75000 نفس، ولم يكن هذا بالشيء القليل وقتئذ، ولكن المدينة ظلت على النماء والتقدم حتى إنها الآن من أشهر عواصم الأرض وأكثرها جمالا وفخامة وأعظمها مشاهد وأبدعها نظاما، وهي مقر البيت القيصري والفيلق الأول من الحرس الإمبراطوري ومركز تجارة روسيا من ناحية البلطيق وليس في الأرض مدينة تفوقها في القصور العديدة.
وصلت هذه العاصمة العظيمة عن طريق كرونستاد وتوجهت إلى فندق أوروبا ، وهو من الفنادق الكبيرة يمتاز عما سواه بتوسط مركزه ووقوعه في أشهر الشوارع - أريد به شارع نفسكي الذي سيجيء الكلام عنه - وفيه من أنواع المشاهد ما يعز نظيره، وقد أصبح موضع هذا الفندق محطة لقطر الترامواي وموقفا للعربات الكثيرة؛ نظرا لأهميته يجتمع فيه خلق كثير من السائحين ومن أهل المدينة وضباطها وهم كثار العدد، وقد كان قربه من المتاحف والمشاهد - التي سيرد ذكرها - داعيا كبيرا لتسهيل الرحلة علي ودرس ما في بطرسبرج من آيات العظمة والإتقان، وكان وصولي في مدة الصيف على ما تقدم، والصيف هنالك قصير مدته. ولبطرسبرج هواء وأحوال جوية غريبة؛ فإن هذه المدينة نظرا لتطرفها في الشمال يطول زمان الشتاء فيها ويكثر البرد فتجمد مياهها ويصبح النهر والبحيرة ألواحا من الجليد تسير عليها العربات والجموع، ومعظم القوم يلبسون الفرو الروسي المشهور مدة البرد ويتلثمون بأنواع من القبعات كثيرة، فلا يظهر منهم غير العينين اتقاء للبرد ومضاره، وأما الصيف فإنه قصير الأجل لا يزيد عن 61 يوما في السنة، أعني من 7 يونيو (حزيران) إلى 12 أوغسطس (آب)، ولا يرى الناس في تلك المدة ظلام الليل إلا قليلا؛ لأن النهار يطول والشفق يستمر معظم ساعات الليل، فترى المدينة منيرة والشمس في كبد السماء عند الساعة الثالثة بعد نصف الليل، والناس كلهم نيام لا حركة في المدينة ولا صوت للساكنين كأنما أنت في مدينة خلت من أهلها، ويذهلك ذلك بقدر ما يذهلك ظلام المدينة مدة النهار في أشهر الشتاء، فإن نور الصباح لا يظهر هنالك في فصل البرد إلا قبل الظهر بساعة، ويغيب عند الساعة الثالثة بعد الظهر، فترى المدينة في حركة كبرى وجد كثير، والنواحي كلها منارة بالمصابيح في وسط النهار، وهنا موضع للاستغراب ومزية لمدينة بطرسبرج على بقية العواصم المشهورة.
بطرس الأكبر.
Shafi da ba'a sani ba