والحق يقال إن السياحة بين ستوكهولم وفنلاندا من أشهى السياحات، يرى السائح في خلالها نحو 1300 جزيرة في بحيرة مالار والخليج والبحر، وفي ثمانين منها 1500 نفس لصيد السمك.
وتكثر الأسماك الكبيرة والصغيرة في شواطئ فنلاندا بسبب موقعها الطبيعي وكثرة جزرها، فتجارة السمك من أعظم مصادر الثروة في هذه البلاد، والزائر يرى لأول وهلة أكواخا كثيرة فوق صخور هائلة في وسط تلك الجزر، يقيم فيها الصيادون أشهرا ويأتون بالزاد إليها حينا وراء حين، وقد بنيت فوق تلك الصخور أعشاب، ويسمع عند الأكواخ خرير الماء المنحدر من المصايد، وفي هذا كله شيء لا يراه السائح في غير بلاد فنلاندا، ويمكن للمسافر أن يراه في طريقه؛ فإن الباخرة التي سرت فيها قضت 15 ساعة تشق عباب البحر في وسط تلك المناظر، وهي تتعرج وتتقلب في ميلها بين تلك الجزر الكثيرة، فأثر فينا ذلك المنظر الغريب الخاص ببلاد سحيقة قلما يسمع عنها الشرقيون شيئا. وكان في الباخرة خادمات للمائدة من أهل فنلاندا جميلات نظيفات الملابس حاسرات عن زنودهن، والمآكل تقدم مرارا للمسافرين، ومناظر الخلجان والبحيرات والجزر تزيد غرابة في كل حين حتى انتهينا إلى مينا هانكو، وهي أول بلد في فنلاندا قائمة على لسان داخل في البحر، وفيها حمامات يقصدها الناس من داخلية البلاد في فصل الصيف، ولم نقف في هانكو إلا قليلا ثم عادت الباخرة إلى المسير وظلت سائرة ثماني ساعات أخرى حتى استقر بها النوى في هلزنفورس وهي عاصمة البلاد.
هلزنفورس
هي مدينة بناها جوستافوس فاسا محرر أسوج - الذي مر ذكره - سنة 1550، وقد تقلبت عليها الأحكام كثيرا إلى أن صارت من أملاك الروس في سنة 1812، وعدت قاعدة الولاية من سنة 1819، ونقلت إليها المدرسة الجامعة من آبو سنة 1827، يبلغ عدد سكانها ستين ألفا، وفيها عدة أبنية فاخرة مثل دار الولاية والمدرسة والثكنة العسكرية وبناء مجلس الشورى والمرسح والكنيسة الكبرى، وغير هذا مما لا أتعرض لشرحه ووصفه؛ لأنه لا يختلف كثيرا عما تقدم ذكره في المدائن الأخرى؛ ولأن البلاد هذه ليست بذات أهمية عند معظم القراء الشرقيين، وفيها أيضا قصر إمبراطوري أمامه تمثال للقيصرة ألكساندرا فيودوروفنا نصب تذكارا لزيارتها تلك العاصمة عام 1833 وإلى جانبه نسران روسيان. وفيها كنيسة مار نيقولاوس بنيت من حجر الصوان على مرتفع من الأرض وقد جعلوا في أعلاها خمس قبات ملونة باللون الأزرق السماوي، وهو غاية في الجمال صعدت أعلاها على سلم ذات خمسين درجة من الحجر، فأطللت على المدينة بكل أنحائها. وسرت بعد ذلك إلى مجلس الأمة، وفي بنائه الفخيم أكثر مصالح الحكومة الإدارية والمالية، وقد رأيت في إحدى غرفه صور القياصرة الروسيين المتأخرين في براويز جميلة وهي كثيرة الجمال والإتقان.
واشتهرت هذه العاصمة بحصون منيعة بنتها دولة الروس، وهي تمتد في البحر مسافة ثمانية آلاف متر، وفيها تسعمائة مدفع، وستة آلاف جندي يزاد عددهم وقت الحرب، ومما يذكر عن هذه الحصون أن دولتي إنكلترا وفرنسا أرسلتا الأساطيل لتدميرها سنة 1855 - أي مدة حرب القرم - فلم تقو تلك الأساطيل على تخريب هذه الحصون العظيمة؛ ولذلك أطلق عليها بعضهم اسم «جبل طارق الشمالي»؛ إشارة إلى جبل طارق الذي حصنه الإنكليز عند مدخل البحر المتوسط في طرف إسبانيا الجنوبي، وجعلوه أشهر المواقع الحربية منعة وتحصينا. والحصون كلها مبنية من الحجر مثل بقية ما في هذه المدينة من الأبنية، فإن كل منازلها ومخازنها من الحجر لا يعلوه دهان، ولكنهم يتفننون في ترتيب الحجر على ألوانه ترتيبا يروق للناظرين، ويجعلون بين كل صف من البناء والصف الآخر خطا من الكلس الأبيض، فهي في ذلك تقرب من بيوت بيروت في بعض الشيء، وقد استخدموا الحجر أيضا لرص الشوارع، فترى أرض مدينتهم مبنية بالحجر وهم يغسلونها كل يوم بالماء فتظل أبدا نظيفة تشرح بمناظرها الصدور، وفي ذلك ما يقرب من شوارع أبردين ونظافتها، وهي مدينة اسكوتلاندية سيأتي الكلام عنها في فصل بلاد الإنكليز.
وأقمت في بلاد فنلاندا هذه أياما قليلة، ثم برحتها قاصدا سلطنة الروس، وهي في جوارها فقمنا في باخرة جميلة جعلت تجتاز تلك الجزر الغريبة حتى إذا دخلت بحر البلطيق وانفسح لها المجال، طفقت تتمايل وتضطرب من تعالي الموج وهياج البحر، فقلت لربان السفينة إذا كان هذا حال البحر هنا مدة الصيف فكيف به في الشتاء؟ قال: إن البواخر تنقطع عن المسير في الشتاء هنا؛ لأن البحر كله يجمد ماؤه ويصبح سهلا واسعا من الجليد، وقد صنعوا بواخر لها مقدم محدد كالسيوف يقطع الجليد من أمام الباخرة ويفتح لها بابا للمرور، ومسير هذه الباخرات صعب لا يخلو من الخطر، فهم يعولون في السفر مدة الشتاء على سكك الحديد الممدودة بين البلادين.
على أن البحر هدأ اضطرابه بعد أن سارت الباخرة قليلا، فلما أصبح الصباح التالي ظهرت لنا أرض روسيا، ورست الباخرة في مينا كرونستاد، وهي التي يجيء الكلام عنها مع ضواحي بطرسبرج.
روسيا
خلاصة تاريخية
كانت روسيا بلادا غير معروفة، يسكنها أقوام محاربون اشتهر ذكر بسالتهم في تاريخ إيران واليونان والرومان، ولكنهم عرفوا بالغلظة، ولم يكن بينهم رابطة ولا ائتلاف حتى قام أمير اسمه رورك في سنة 862 من قبيلة تعرف باسم روسن واشتهر بالحكمة فاستدعته قبائل أخرى للحكم عليها وعظم أمره، فكان هو أول من بدأ بتشييد الدولة الروسية الحالية، وأطلق على رعاياه اسم روسيين نسبة إلى قبيلة روسن من ذلك العهد. وتوارث الملك عن رورك أمراء من نسله وسعوا نطاق الدولة حتى قام فلاديمير الأول وأدخل الديانة المسيحية إلى البلاد في سنة 988، ومن ذلك الحين ظهرت دولة الروس وصار لها علاقات مع الدول الأخرى، ولكن سوء الحظ فاجأها؛ لأن مملكة بولونيا أغارت عليها وكسرت جنودها وامتلكت أكثر أجزائها، وظلت البلاد تابعة لبولونيا إلى القرن الثامن عشر، وكان الجزء الذي تعد موسكو قاعدته قد وقع تحت حكم التتر من بعد أيام فلاديمير، فظل خاضعا لهم. والأمراء الروسيون يعدون من الولاة التابعين لسلاطين التتر حتى أوائل القرن الخامس عشر حين استقلوا في أيام إيفان الثالث سنة 1505، وكانوا مدة سيادة التتر قد انفصلوا عن الأجزاء الأخرى انفصالا تاما، فإن الروسيين الذين خضعوا لبولونيا اعترفوا بسيادة البابا الدينية، والذين خضعوا للتتر ظلوا تابعين للكنيسة الشرقية ثم أعلنوا استقلالهم وانفصالهم عنها مع بقائهم على عقائد الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، وكانت بلادهم تعرف باسم روسيا الكبرى أو بلاد المسكوب، وهي التي تغلبت بعدئذ على بقية الولايات الروسية وصيرتها دولة واحدة، وبدأت بذلك من أيام إيفان الثالث الذي ذكرناه، فإنها اتسع نطاقها وعظم شأنها من بعد القرن الخامس عشر وضمت إليها بعض أجزاء سيبيريا والولايات الروسية التي أخضعها التتر مثل كازان وأستراخان وغيرها.
Shafi da ba'a sani ba