وظل أمراء ألمانيا ورؤساء الدين فيها ينتخبون الملوك واحدا بعد واحد حتى قام رودولف هابسبرج المشهور في سنة 1373، وهو الذي أسس الدولة الحاكمة إلى الآن في النمسا - وقد مر ذكره - فعظم نفوذه، وحصر الملك في عائلته فصار قياصرة ألمانيا كلهم من آل هابسبرج إلى أيام نابوليون، وزاد نفوذ آل هابسبرج زيادة كبرى في القرن الخامس عشر بسبب اقتران الأمير مكسميليان ابن الملك فريدريك الثالث بالأميرة ماري من آل بورغونيا، وتلا ذلك أن مكسميليان هذا صار إمبراطورا واقترن ابنه فيليب بالأميرة حنة ابنة ملك إسبانيا، فرزق الاثنان ولدا هو كارل الخامس ملك إسبانيا وإمبراطور النمسا المشهور الذي حدث الانقلاب الديني وقامت طائفة البروتستانت في أيامه، وهو الذي قيل إن الشمس لم تغرب عن أملاكه؛ لأنه فوق ما ملك في أوروبا كان معظم القارة الأميركية له، وقام بحروب عديدة مع فرانسوا الأول ملك فرنسا - ترى ذكرها في تاريخ الدولة الفرنسية - وتنازل كارل الخامس هذا عن الملك لابنه فيليب سنة 1556، فعاد أمراء ألمانيا إلى انتخاب الإمبراطور، واختاروا فردناند الأول من آل هابسبرج ثم تعاقب من بعده الملوك، ولا أهمية لأكثرهم.
وبينا هذه الحوادث تجري قامت قوة جديدة في ألمانيا هي أصل المملكة الألمانية الحالية، ذلك أن بروسيا كانت إلى ذلك الحين بلادا غير مشهورة تابعة لمملكة النمسا أو لمملكة بولونيا، ففي سنة 1415 اشتهر أمير من أمرائها اسمه فريدريك صاحب مقاطعة هوهنزولرن، وضم إلى أملاكه القليلة ولاية براندنبرج بإذن من ملك بوهيميا؛ فأسس بذلك دولة هوهنزولرن براندنبرج، وهي الحاكمة إلى الآن في بروسيا وألمانيا. وفي سنة 1535 صار صاحب براندنبرج أميرا لبروسيا تحت سيادة ملك بولونيا، وفي سنة 1608 صار صاحب بروسيا هذه أميرا من أمراء المملكة الألمانية الذين لهم حق انتخاب الإمبراطور، وهم يومئذ سبعة دوكات يلقبون بلقب «المنتخب»؛ تمييزا لهم عن الأمراء الآخرين الذين لم يحق لهم ذلك، فعظم من بعد هذا شأن بروسيا حتى إن فريدريك وليم - أحد أمرائها ويعرف باسم المنتخب الكبير - استقل بالأحكام في بلاده استقلالا تاما في سنة 1657، وحفيده انتحل لقب ملك سنة 1701، واشتهر باسم فريدريك الأول ملك بروسيا، ولما قام فريدريك الكبير في سنة 1740 وتولى مهام الملك كان لبروسيا شأن عظيم بين دول أوروبا، وعند ملكها خزانة عامرة بالمال والتحف، وجيش قوي منظم عدده ستون ألفا، فزادت قوة بروسيا وأملاكها في أيامه زيادة تذكر، وحدثت حروب مشهورة بسبب انقطاع الذكور من آل هابسبرج ووصول الملك إلى يد ماريا تريزا ملكة النمسا المشهورة، وكان فريدريك الكبير ملك بروسيا طامعا بزيادة الملك، فلما رأت ماريا تريزا ذلك منه أرضته بقسم كبير من بلاد سيليسيا في جنوب بروسيا، فامتنع عن محاربتها ورضي ببقاء الملك الألماني في يد آل هابسبرج وعقد معها ومع غيرها معاهدة أيكس لاشايل المشهورة في سنة 1748، فاشتهر من بعد هذه المعاهدة أن بروسيا من أقوى دول أوروبا، وصارت حليفة للنمسا بدل أن تكون تابعة لها في الاتحاد الألماني.
وفي سنة 1756 أحس ملك بروسيا بمؤامرة وتواطؤ ما بين ملوك روسيا والنمسا وساكسونيا على محاربته واغتصاب شيء من أملاكه؛ فجند الجيوش وبدأ يحارب الأعداء في كل جهة، واستعان بمحالفيه فاشتبكت أوروبا كلها بحرب طويلة دامت 30 سنة، وهي تعرف في التاريخ باسم «حرب الثلاثين سنة» عقد من بعدها صلح، أهم شروطه أن تبقى الأمور على مثل ما كانت قبل الحرب. ومات فريدريك الكبير هذا في سنة 1786 فورثه ابن أخيه فريدريك ولهلم الثاني، وكانت مملكة بروسيا في أيامه عظيمة الشأن تقدمت في العلم والصناعة وقام منها الفطاحل، مثل: لينتز وولف وكانت وجوبث وشلر، وهم من الفلاسفة الذين شادوا لبلادهم في ساحة العلم والقلم صروح الفخر العظيم، وحدثت في تلك الأثناء الثورة الفرنسوية فاهتزت لها عروش أوروبا، ومن ثم تحالفت النمسا وبروسيا وإنكلترا على محاربة فرنسا، فبدأت تلك المعارك الهائلة التي انتهت بموقعة واترلو سنة 1815 بين نابوليون من جهة وجنود أوروبا من جهة، وترى بيانها في تاريخ فرنسا. وقد كانت بروسيا خاسرة في أكثر المعارك التي حضرها نابوليون بنفسه واضطرت إلى قبول ما أراد من الشروط، وهو - على ما يظهر للأكثرين - كان يحسب حسابا كبيرا لاتحاد الأقوام الألمانية على بلاده، فلما انتصر على إمبراطور النمسا في معركة أوسترلتز وبدد جنود بروسيا في المعارك السابقة، ألغى الإمبراطورية الألمانية التي كان مركزها إلى ذلك الحين في فيينا، وصار إمبراطور ألمانيا يعرف باسم ملك النمسا فقط، واستقلت بروسيا من تلك السيادة الوهمية استقلالا تاما، وأنشئت ممالك أخرى ألمانية رأس بعضها إخوة نابوليون بونابارت وبعضها صنائعه، فتم بذلك المراد للفاتح الفرنسوي العظيم من تجزئة السلطنة الألمانية، وظل الحال على مثل هذا إلى يوم خذلانه على يد الإنكليز والبروسيين في معركة واترلو سنة 1815.
ولما رأت الأقوام الألمانية عند سقوط نابوليون أن مصلحتها تقوم بالانضمام عادت إليه في الحال فعقد في فيينا مؤتمر عظيم الشهرة في شهر نوفمبر من سنة 1815 حضره النواب من 37 مملكة وإمارة ألمانية، وقرروا فيه أن تتحد هذه الممالك والإمارات اتحادها الأول، وأن تكون النمسا مركز هذا الاتحاد الألماني في الجنوب وبروسيا مركزه في الشمال، وتظل كل مملكة أو إمارة حرة في شئونها الداخلية، وزادوا على هذا في سنة 1837 أنهم قرروا إبطال الرسوم الجمركية أو تخفيفها فيما بين هذه الممالك الألمانية؛ فتم بذلك الاتحاد الذي كانت فرنسا تخشى شره، ولكنه لم ينتج عنه شر لأوروبا، ولا سيما بعد أن تحاربت النمسا وفرنسا في سنة 1859، ولم تنتصر الممالك الألمانية للنمسا واضطرت هذه المملكة أن تسلم بعض أملاكها لإيطاليا عملا بشروط الطليان والفرنسيس الذين نصروهم في حروب الاستقلال الطلياني. وفي سنة 1860 اتحدت النمسا وبروسيا على محاربة الدنمارك فانتصرتا عليها وأخذتا منها ولايات شليسوج وهولشتين ولاونبرج، وكانت النمسا تحكم أولاهما وبروسيا تحكم الثانية والثالثة من بعد ذلك النصر حتى اختلفتا على بعض المسائل، وشهرت تلك الحرب المشهورة بينهما في سنة 1866، وكان البرنس بسمارك المعروف يدير سياسة بروسيا وقتئذ، والكونت مولتكي يقود جنودها فأحرز البروسيون نصرا عظيما على النمساويين، وملكوا منهم الأراضي، أخصها التي اغتصبوها من الدنمارك، وعلى إثر ذلك عقدت معاهدة في فرانكفورت بألمانيا، من مقتضاها إخراج النمسا من التحالف الألماني الشمالي، والاتفاق على أن تكون بروسيا رئيسة ذلك التحالف بدلها، ثم استولت بروسيا على مملكة هانوفر وغيرها فصارت مملكتها قوية واسعة، واشتهرت بقوة جيشها ومهارة قوادها، حتى إذا كانت سنة 1870 وانتصرت في حربها المشهورة على فرنسا لم يبق في أوروبا أعظم منها، فأعيدت الإمبراطورية الألمانية القديمة برئاسة بروسيا، وتوج ولهلم الأول جد الإمبراطور الحالي إمبراطورا لألمانيا في فرسايل في قصر ملوك فرنسا سنة 1871، بعد أن تم النصر لبروسيا، وعقدت شروط الصلح مع فرنسا، وبذلك بلغت بروسيا أوج العز وصارت مملكة ألمانيا التي ترأسها من أعظم ممالك الأرض وأقواها فنمت وتقدمت في الصناعة والتجارة تقدما يذكره الناس في كل حين مع الدهش والاستغراب.
وكان ولهلم الأول مؤسس هذه الإمبراطورية من الملوك العظام، تعلق الألمانيون على حبه وإكرامه حتى إذا مات سنة 1888 احتفلوا بدفنه احتفالا عظيما، وهم إلى الآن يذكرون أيامه وتقدم السلطنة على عهده، وخلفه ابنه فريدريك الثاني وكان يوم وفاة والده في سان ريمو من مدن إيطاليا مريضا بداء السرطان فجاء برلين وتولى مهام الملك بمساعدة البرنس بسمارك ونجله الإمبراطور الحالي، فما طالت أيامه؛ لأنه توفاه الله في شهر يونيو من تلك السنة، وحزنت ألمانيا لوفاته كثيرا؛ لأنه اشتهر بالفضائل وندبه الإنكليز أيضا؛ لأن قرينته كانت أكبر بنات الملكة فكتوريا، وقد ولد له ابنان هما، ولهلم الإمبراطور الحالي، وأخوه البرنس هنري أحد قواد الأسطول الألماني وعدة بنات.
غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا.
واشتهر جلالة الإمبراطور الحالي بالحزم وسرعة الخاطر وحب التوسع في الملك، وهو من أمهر ملوك أوروبا الحاليين وأقدرهم، تقدمت ألمانيا في أيامه تقدما عظيما وملكت في الصين وأفريقيا الأراضي الواسعة وامتدت متاجرها وكبر نفوذها إلى حد لم تعرفه من قبل هذا الحين، وعدد سكان هذه السلطنة الآن 62 مليونا، وهي أشهر الدول في قوة جيشها البري، وثانية دول أوروبا في القوات البحرية وتجارتها نامية نماء لا نظير له في التاريخ الحديث.
برلين
هي عاصمة بروسيا وألمانيا معا، تعد ثالثة مدن أوروبا في العظمة والأهمية، ولكنها حديثة العهد لم يبدأ تاريخ عظمتها إلا من بعد منتصف القرن الماضي ويزيد سكانها عن مليوني نسمة، وكان في مكانها نهر على ضفتيه غياض وسهول خصيبة فلم تعمر إلا في القرن الثاني عشر حين سكنها بعض فلاحي الألمان وجعلوها مدينتين: واحدة إلى الضفة اليمنى من النهر، وهي برلين، والأخرى تجاهها وهي كولن، فاتحدت المدينتان سنة 1307 ودخلت في حوزة آل هوهنزلورن في القرن الخامس عشر، وصارت قاعدة إمارتهم في أواخره، وكان ذلك بدء تقدمها حتى إذا حدثت حرب الثلاثين سنة التي ذكرناها في فصل التاريخ وانتهت على ما يريد ملك بروسيا، زادت برلين أهمية وكثرت فيها الأبنية، وظلت على هذا التقدم وملوكها يزيدون محاسنها واحدا بعد واحد، حتى دخل هذا القرن وانتصرت بروسيا انتصاراتها الباهرة على الدنمارك والنمسا وفرنسا؛ فزادت أهمية عاصمتها زيادة كبرى، وأكثر ما فيها الآن من منظر فخيم وأثر عظيم يعد حديث العهد، ويدل دلالة قاطعة على نمو المدينة في السنوات الأخيرة من تاريخها، ولا سيما في الضواحي خارج بوابة براندنبرج؛ حيث بنيت أحياء جديدة برمتها فبلغت مساحة الشوارع 2500000 متر مربع، موزعة على خطوط لا يقل طولها عن 487 كيلومترا، وعدد العاملين بكنسها ورشها يزيد عن 1500 رجل و500 غلام.
والمدينة في منبسط من الأرض يشطرها نهر صغير اسمه سبري شطرين، ولها عدة مداخل أو (بوابات) قديمة العهد، أشهرها مدخل براندنبرج في القسم الغربي من المدينة، وهو يفصل ما بين برلين القديمة، والقسم الحديث منها علوه 21 مترا وعرضه 62، وفيه ثلاثة أبواب أو منافذ تفصل بينها عمد من الرخام، تمر في الباب الأوسط منها عربات البلاط الإمبراطوري والعائلة المالكة فقط، وللناس الجانبان الآخران، أحدهما للداخلين وثانيهما للخارجين. وفي أعلى بوابة براندنبرج هذه تمثال الظفر أقيم سنة 1871 تذكارا للنصر العظيم على فرنسا، وهو عبارة عن ثلاث أفراس من النحاس الأصفر صنعت كأنها تعدو مسرعة علامة التقدم السريع، ومنظرها بديع يستوقف الأنظار، وإلى كل من الجانبين بناء صغير، أحدهما مخفر للجنود والثاني مكتب للتلغراف، ولو وقف الإنسان عند بوابة براندنبرج هذه وألقى بنظره إلى الجهات المحيطة بها لرأى أفخم مشاهد برلين وأعظمها، فإن أكثر ما سيرد وصفه هنا يحيط بهذه البقعة أو يقرب منها؛ ولذلك اخترنا أن نجعلها بدء وصفنا لعاصمة الألمان العظيمة، وقد زاد هذه البوابة أهمية أنها واقعة في رأس شارع عظيم اسمه شارع أونتر لندن، ومعناه شارع الزيزفون طوله 1500 متر، وعرضه 60 مترا، وهو أقسام عدة، بعضها للمسير على الأقدام وبعضها للخيل والبعض للعربات على مثل ما تقدم من وصف الشوارع التي تضارع شرع الزيزفون هذا، وفيه أربعة صفوف من الشجر تزينه وتزيده رونقا وجمالا، وقد أطلق عليه اسمه المشهور بسبب هذه الأشجار. وفي هذا الشارع كثير من الأبنية الفخيمة ومنازل الكبراء والسفراء، وهو يبتدئ عند بوابة براندنبرج التي ذكرناها وينتهي في ميدان قام به تمثال فريدريك الأول.
Shafi da ba'a sani ba