وسياق الفهم، لكن ما قدر، لا تصل إليه الفكرة الكلية والمعرفة القليلة من أسرار الحقائق وأحوال العواقب. والكيس الماهر هو المستسلم في قبضة العالم الخبير القاهر، الممتثل لأوامره الشريفة، المنقاد إلى طاعته المنيفة، كيف لا وانما يأمر بمصلحة تعود على المأمور مع اطلاعه على دقائق عواقب الأمور وهو الجواد المطلق والرحيم المحقق. والحمد لله على انعامه وإحسانه وامتنانه، والحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ولا يهمل من غفل عنه ولا يؤاخذ من صدف عن طاعته بل يقوده إلى مصلحته ويوصله إلى بغيته.
وكان الخروج إلى السفر المذكور- بعد بوادر الأوامر به والنواهي عن تركه والتخلف عنه وتأخيره إلى وقت آخر- ثاني عشر شهر ذي الحجة الحرام سنة (951)، وأقمت بمدينة «دمشق» بقية الشهر، ثم ارتحلت إلى «حلب» ووصلت إليها يوم الأحد سادس عشر شهر المحرم سنة (952)، وأقمت بها إلى السابع من شهر صفر من السنة المذكورة.
ومن غريب ما اتفق لنا بحلب، أنا أزمعنا عند الدخول إليها على تخفيف الإقامة بها بكل ما أمكن ولم ننو الإقامة، فخرجت قافلة إلى الروم على الطريق المعهود المار بمدينة «أذنة» فاستخرنا الله على مرافقتها فلم يخر لنا، فكان قد تهيأ بعض طلبة العلم من أهل الروم إلى السفر على طريق «ملوقات» وهو طريق غير مسلوك غالبا لقاصد قسطنطنية، وذكروا أنه قد تهيأ قافلة للسفر على الطريق المذكور، فاستخرنا الله تعالى على السفر معهم، فأخار به فتأخر سفرهم وساءنا ذلك، فتفألت بكتاب الله تعالى على الصبر وانتظارهم، فظهر قوله تعالى:
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم (1) فاطمأنت النفس لذلك، وخرجت قافلة أخرى من طريق «أذنة» وأشار الأصحاب برفقتهم لما يظهر من مناسبتهم، فاستخرت الله تعالى
Shafi 17