الأدوار التي مرت بالمسألة السودانية
1 - تدخل إنجلترا في المسألة السودانية افتياتا منها وبلا دعوة من الحكومة المصرية
2 - ثورة المهدي
3 - تصريح إرل جرانفيل
4 - استعادة السودان
5 - اتفاقية 19 يناير سنة 1899
الخاتمة
الأدوار التي مرت بالمسألة السودانية
1 - تدخل إنجلترا في المسألة السودانية افتياتا منها وبلا دعوة من الحكومة المصرية
2 - ثورة المهدي
3 - تصريح إرل جرانفيل
4 - استعادة السودان
5 - اتفاقية 19 يناير سنة 1899
الخاتمة
المسألة السودانية
المسألة السودانية
تأليف
عمر طوسون
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فقد بسطنا المسألة السودانية بين مصر وإنجلترا أكثر من مرة فيما كتبناه ونشرناه باللغتين العربية والإنجليزية، في الصحف المصرية والبريطانية، أو في مذكرات خاصة وزعناها على رجال الحكومة الإنجليزية وأعضاء البرلمان البريطاني. وكان كل هذا منا لغاية واحدة هي حل مسألة السودان بين مصر وإنجلترا، حلا عادلا منطبقا على مبادئ الإنصاف والحق.
ولما كان هذا الوقت من أنسب الأوقات لإظهار مسألة السودان في صورتها الحقيقية بذكر الأدوار التي مرت بها، حيث تجري المفاوضات الآن أو المحادثات الرسمية بين الوفدين المصري والبريطاني في القاهرة، تمهيدا للمفاوضة النهائية بين مصر وإنجلترا في المسائل المحتفظ بها، ومن أهمها المسألة السودانية؛ رأينا أن نعيد الكرة ونرسل إلى أعضاء البرلمان الإنجليزي مذكرة أخرى في هذا الموضوع؛ ليكونوا على علم بالأدوار التي مرت بالمسألة السودانية منذ الاحتلال الإنجليزي إلى الآن.
وقد طبعنا هذه المذكرة الأخيرة باللغة الإنجليزية، ووزعناها على أعضاء البرلمان الإنجليزي وعلى الصحف البريطانية؛ إيقافا للرأي العام هناك على حقيقة هذه المسألة، وتنويرا لجمهور الشعب الإنجليزي الذي يقدس مبادئ الحرية للشعوب المظلومة حسب المشهور عنه.
وبعد أن فرغنا من هذا لم نر بدا من ترجمة هذه المذكرة إلى اللغة العربية؛ ليقف عليها الرأي العام المصري أيضا، وليطلع عليها أعضاء الوفد المصري الرسمي وهم يتحادثون في المسائل المصرية والمسألة السودانية.
والله المسئول أن يجعل هذه المحادثات مفضية إلى الغاية المنشودة؛ حتى يستقر الأمر بين مصر وإنجلترا، ويحل بينهما الوئام والسلام.
عمر طوسون
مايو سنة 1936
الأدوار التي مرت بالمسألة السودانية
الدور الأول
تدخل إنجلترا في المسألة السودانية افتياتا منها وبلا دعوة من الحكومة
المصرية
لقد كانت إنجلترا تزعم قبل كارثة هكس باشا
Hicks Pasha
أنها لا تريد أن تتدخل في شئون السودان، وأنها لا تهتم بأمر هذا الإقليم أقل اهتمام. ولكن الأعمال التي جرت منها كانت مناقضة لأقوالها كما تثبت ذلك الوثائق الرسمية المنشورة بعد.
وأول تعرض منها لمسألته جاء في شكل مذكرة قدمها الكولونيل سير تشارلس ولسن
Colonel Sir Charles Wilson
إلى سير إدوارد مالت
Sir
Edward Malet
قنصل بريطانيا العام في مصر في يوم 29 سبتمبر سنة 1882م؛ أي بعد الاحتلال البريطاني لمصر بخمسة عشر يوما فقط. وهذه المذكرة التي كتبها الكولونيل المذكور عن الحالة في السودان قدمها بدافع من نفسه وبدون أي رغبة سابقة من الحكومة المصرية. ولم يتوان سير إدوارد مالت في إرسالها إلى إرل جرانفيل
Earl Granville
وزير خارجية بريطانيا في 2 أكتوبر من السنة المذكورة.
وإليك ملخص الخطاب الذي أرسله سير إدوارد مالت إلى وزير خارجية بريطانيا مع هذه المذكرة نقلا عن الكتاب الأزرق الإنجليزي عن مصر، الصادر عام 1883، المكاتبات الإضافية، ج1، ص21:
رقم 37: من سير إ. مالت إلى إرل جرانفيل
ورد في 16 أكتوبر
القاهرة في 2 أكتوبر سنة 1882
أتشرف أن أرسل مع هذا مذكرة كتبها الكولونيل سير تشارلس ولسن عن الحالة الحاضرة في السودان، يشير فيها بأن نبعث ضابطين إنجليزيين إلى هذا الإقليم ليكتبا تقريرا عن حالته، وما يجب اتخاذه من الوسائل لإخماد فتنته واستتباب الأمن في ربوعه.
وأرى أننا لا نستطيع أن نكون رأيا صحيحا عن حال هذا الإقليم بدون أن نحصل على معلومات عنه من نفس رجالنا؛ ولذلك أرفع إلى مقامكم اقتراح سير تشارلس ولسن هذا للنظر فيه رجاء الموافقة عليه. وإني لمنتظر ورود تعليماتكم لي في هذا الصدد.
ملحق لرقم 37، مذكرة الكولونيل سير تشارلس ولسن
إن السودان في حال أسوأ ما يكون من الفوضى. وقبل انقطاع المواصلات مع القاهرة، كان معلوما أن المهدي يتقدم تقدما محسوسا، وأن أناسا عديدين انضموا إلى صفوفه، وأنه انتصر أكثر من مرة على الجيوش المصرية.
ونذكر فيما يلي ملخص برقية وردت من الخرطوم في هذا الصدد بتاريخ 17 سبتمبر: «شبت الثورة في السودان على إثر برقيات أرسلها عرابي باشا إلى الأهالي، يأمرهم فيها بنبذ سلطة الخديو. وقد انضم إلى زعيم المهدية خلق عديدون، وأغار المهدي على بلدة دون «الدويم» الواقعة على النيل الأبيض ولكنه انهزم. وتطلب حكومة السودان إرسال 10000 بندقية من طراز رمنجنن لتسليح قوة يتولى قيادتها سعيد باشا
1
ليسحق بها قوة المهدي. وقتلت الجيوش المصرية 1000 ثائر في بلدة «زيارة»، و300 في «شفتان». والمهدي الآن على مسيرة ساعتين من كردفان «الأبيض»، وهو على رأس قوة كبيرة.»
ويجب اعتبار هذا البيان مطمئنا إلى حد ما عن الحالة الحاضرة في السودان.
وأرى أنه من الضروري إرسال ضابطين من الضباط الإنجليز إلى السودان، وتكليفهما بكتابة تقرير عن حالته الراهنة وما يلزم من الوسائل لتوطيد دعائم الأمن في ربوعه.
ولدى المهدي طريقان للوصول إلى مصر السفلى (وجه بحري): الأول طريق صحراء النوبة ووادي النيل، والثاني طريق قوافل الرقيق الشارع من دارفور. وكلاهما يصعب اجتيازه بجيش عرمرم، وفي استطاعة قوة صغيرة منظمة أن تسده. ومع ذلك لو حاول المهدي في الحالة الراهنة أن يقوم بحركة تقدم، فلا توجد قوة مصرية تصده.
الإمضاء
ت. و. ولسن
29 سبتمبر سنة 1882
وقد وافق إرل جرانفيل على إرسال الضابطين البريطانيين إلى السودان لكتابة تقرير عن حالته، وأرسل بذلك الرد الآتي إلى سير إدوارد مالت، وقد نشر في الكتاب الأزرق الآنف الذكر، ص35، وها هو:
رقم 61: من إرل جرانفيل إلى سير إ. مالت
وزارة الخارجية في 28 أكتوبر سنة 1882
سيدي
أجيب على رسالتكم المؤرخة في الثاني من الشهر الجاري، فأقول إنه لا بأس أن ترسلوا الكابتن «لفتنانت كولونيل» استوارت إلى السودان؛ لكتابة تقرير عن حالة هذا الإقليم.
وعليكم أن تشاوروا سير أ. أليسون
Sir A. Alison
فيما إذا كان من الصواب استصحاب الكابتن استوارت لضابط آخر.
وإني لكم ... إلخ ...
الإمضاء
جرانفيل
وبعد تسوية هذه المسألة فيما بينهم سافر اللفتنانت كولونيل استوارت
Captain (Lieutenant-Colonel) Stewart
من القاهرة في نوفمبر سنة 1882، ووصل إلى الخرطوم في 16 ديسمبر من السنة عينها. وفي خلال إقامته بهذه المدينة كتب تقريرا وافيا شافيا عن الأحوال في السودان، بين فيه المسائل المتعلقة بتاريخ هذه الولاية في الأيام السالفة، وبعث به من الخرطوم في 9 فبراير سنة 1883 إلى سير إدوارد مالت بالقاهرة، فأرسله بدوره إلى إرل جرانفيل في 6 مارس سنة 1883.
ولما تسلم إرل جرانفيل هذا التقرير، أرسل إلى مستر كرتريت
Mr. Cartwright
القائم بأعمال سير إدوارد مالت في ذلك الحين الرسالة الآتية، وهي منشورة في الكتاب الأزرق الصادر عام 1883، ج11، وها هي:
رقم 2: من إرل جرانفيل إلى مستر كرتريت
وزارة الخارجية في 20 أبريل سنة 1883
سيدي
أرى من الواجب علي أن أكلفكم بتبليغ شكري إلى الكولونيل استوارت على تقريره عن السودان، ذلك التقرير الحافل النفيس الذي ورد ضمن رسالة سير إ. مالت في السادس من الشهر الماضي.
وقد رجوت إرل دوفرن
Earl Dufferin
أن يطلع الحكومة المصرية على ما اقترحه الكولونيل استوارت من الإصلاحات في إدارة المديريات بالسودان.
وإني لكم ... إلخ ...
الإمضاء
جرانفيل
فأجاب سير إدوارد مالت على خطاب إرل جرانفيل السابق بالرسالة الآتية، وقد نشرت في الكتاب الأزرق الصادر عام 1883، ج22، وها هي:
رقم 15: من سير إ. مالت إلى إرل جرانفيل
ورد في 30 مايو
القاهرة في21 مايو سنة 1883
سيدي
أتشرق بالإجابة عن رسالتكم المؤرخة في العشرين من الشهر الماضي، بأنني أبلغت شريف باشا حسب تعليماتكم مقترحات اللفتنانت كولونيل استوارت، التي وردت ضمن تقريره عن السودان، ذلك التقرير الذي بعثت به إليكم في 16 مارس، والذي أشار فيه هذا الكولونيل إلى سوء استعمال السلطة في هذا الإقليم، وأوعز بالإصلاحات التي يرى ضرورة إدخالها فيه. وقد أعربت لكم في الوقت ذاته عما يخالجني من الآمال في أن أرى الحكومة المصرية تنظر في هذه الإصلاحات المطلوبة بعين الاهتمام.
وإني أرسل لكم مع هذا صورة من مذكرتي التي بعثت بها إلى شريف باشا مع رد عطوفته بتسلمه ملخص التقرير المذكور، وإبداء شكر الحكومة المصرية على المقترحات المودعة فيه.
ولي الشرف أن أكون ... إلخ ...
الإمضاء
إدوارد ب. مالت
وإليك الكتاب الذي أرسله سير إدوارد مالت إلى صاحب العطوفة شريف باشا؛ بناء على التعليمات التي تلقاها من إرل جرانفيل وزير خارجية بريطانيا، وقد نشر في الكتاب الأزرق الصادر عام 1883، ج22:
ملحق لرقم 15: من سير إ. مالت إلى شريف باشا
القاهرة في 16 مايو سنة 1883
حضرة صاحب العطوفة رئيس النظار
تعلمون عطوفتكم أن اللفتنانت كولونيل استوارت قضى منذ عهد قريب بضعة أشهر في السودان بقصد كتابة تقرير عن حالة هذا القطر لرفعه إلى حكومة جلالة الملكة، وقد أرسلت تقريره إلى لورد جرانفيل الذي كلفت الآن من قبله أن أعرض على حكومة سمو الخديو الإصلاحات الإدارية التي أفضى بحث الكولونيل استوارت لحالة السودان إلى عد تنفيذها من الحكمة والسداد.
ولذا أتشرف أن أرسل إلى عطوفتكم مع هذا صورة ما ورد في التقرير السابق متضمنا المقترحات المقدمة من الكولونيل استوارت.
وإني أعرب لعطوفتكم في الوقت نفسه عما يملؤني من الأمل في نظر الحكومة المصرية لهذه المقترحات بعين الاهتمام والعناية.
ولي الشرف أن أكون ... إلخ ...
الإمضاء
إدوارد ب. مالت
وهذا معرب الترجمة الإنجليزية لرد صاحب العطوفة شريف باشا على خطاب سير إدوارد مالت السالف الذكر، وقد نشرت في الكتاب الأزرق الصادر عام 1883، ج22:
ملحق لرقم 15: من شريف باشا إلى سير إ. مالت
القاهرة في 20 مايو سنة 1883
سيدي الوزير المفوض
لقد شرفتموني بخطابكم المؤرخ في السادس عشر من الشهر الجاري، والمرسل معه صورة التقرير المقدم من الكولونيل استوارت إلى اللورد جرانفيل المشتمل على نتيجة ملاحظات هذا الضابط أثناء إقامته مؤخرا في السودان، وعلى بيان التدابير التي يرى من المفيد اتخاذها لتنظيم الإدارة في هذا القطر من جديد.
وإني بعد إبلاغكم بوصول خطابكم الآنف الذكر والتقرير السابق الذي قرأته بتدبر زائد، أرجو يا حضرة الوزير أن تقبلوا عظيم تشكراتي، وتتكرموا بإهداء خالص شكري إلى الكولونيل استوارت.
الإمضاء
شريف
ثم قام اللفتنانت كولونيل استوارت من الخرطوم في 10 مارس سنة 1883 عائدا إلى القاهرة بطريق سنار وكسلا ومصوع؛ إتماما لبحثه هذه النواحي من السودان. وأرسل من مصوع إلى سير إدوارد مالت في 18 أبريل من السنة المذكورة تقريرا عن السودان الشرقي وحدود الحبشة، أودعه جميع ملاحظاته التي شاهدها ، ومن بينها الملاحظة الآتية: «إجمالا لما شاهدته في مصوع، وللحالة التي هناك، أقول إنه إذا عجل بإبدال المحافظ وتعيين رجل أذكى منه وأحزم، كانت الأمور أدعى إلى الإصلاح.»
وقد وصل هذا التقرير إلى القاهرة في 23 مايو سنة 1883 (راجع الكتاب الأزرق الصادر عام 1883، ج22)، وأرسله سير إدوارد مالت في 24 مايو المذكور إلى إرل جرانفيل مع رسالة منشورة في الكتاب السابق تحت رقم 25، وأبلغ سير إدوارد مالت الملاحظة المذكورة آنفا عن مصوع إلى شريف باشا رئيس النظار، وأخطر بذلك إرل جرانفيل في رسالة أرسلها إليه من القاهرة في 24 مايو سنة 1883م، ونشرت في الكتاب الأزرق تحت رقم 6.
ولم يكتف إرل جرانفيل بإبلاغ سير إدوارد مالت لشريف باشا الملاحظة الخاصة بمصوع دون غيرها، فطلب منه في الخطاب الآتي أن يبلغ رئيس النظار في مصر بعض مسائل أخرى. وها هو الخطاب المذكور نقلا عن الكتاب الأزرق الصادر عام 1883، ج22:
رقم 54: من إرل جرانفيل إلى سير إ. مالت
وزارة الخارجية في 13 يوليو سنة 1883
سيدي
علمت من رسالتكم المؤرخة في 24 من الشهر الماضي أنكم أبلغتم الحكومة المصرية ما ورد في تقرير الكولونيل استوارت المؤرخ في 18 أبريل متعلقا بالحالة في مصوع فقط. ولكن من المرغوب فيه أيضا أنها تكون على علم بحوادث الرشوة وسوء الإدارة وفساد الأحكام التي لفتت نظر هذا الضابط، وكذلك بالمسلك الذي ينهجه الجنود في السودان.
وتجدون مع هذا صورة من التقرير الآنف الذكر مؤشرا فيها على الفقرات التي نوهت بها آنفا، فأرجوكم أن تجملوها في مذكرة وترسلوها للحكومة المصرية.
وإني لكم ... إلخ ...
الإمضاء
جرانفيل
وعملا بهذه الأوامر أرسل سير إدوارد مالت إلى الحكومة المصرية مذكرة تتضمن الفقرات التي أشار إليها إرل جرانفيل في خطابه السابق، وبعث خطابا بذلك إلى إرل جرانفيل، نشرت محتوياته في الكتاب الأزرق لعام 1883، ج22، وها هو ذلك الخطاب:
رقم 64: من سير إ. مالت إلى إرل جرانفيل
ورد في 8 أغسطس
القاهرة في 23 يوليو سنة 1883
سيدي
أتشرف أن أرسل إليكم مع هذا صورة المذكرة والكتاب اللذين أرسلتهما إلى شريف باشا حسب أمركم الوارد في رسالتكم المؤرخة في 13 الجاري. وهما يتناولان الحالة في السودان كما وصفها الكولونيل استوارت في تقريره.
وإني لكم ... إلخ ...
الإمضاء
إدوارد ب. مالت
وهاك الكتاب الذي أرسله سير إدوارد مالت إلى شريف باشا مع مذكرته السابقة:
ملحق رقم 64: من سير إ. مالت إلى شريف باشا
القاهرة في 21 يوليو سنة 1883
سيدي رئيس النظار
رغب إلي إرل جرانفيل بشأن ما جاء في كتابي إلى عطوفتكم المؤرخ في 14 مايو، أن أبلغ عطوفتكم بعض فقرات أخرى من تقرير كولونيل استوارت عن رحلته من الخرطوم إلى مصوع.
والمذكرة المرسلة مع هذا فيها بيان عن الحالة في سنار والقضارف وكسلا والبلاد الأخرى حتى سنهيت. وأتشرف أن ألفت أنظار عطوفتكم إلى حوادث الرشوة، وسوء الإدارة، وفساد الأحكام المنوه بها في تقرير الكولونيل استوارت، وكذلك إلى سوء مسلك الجنود غير النظامية.
ولي الشرف ... إلخ ...
الإمضاء
إدوارد ب. مالت
وحدث غير ذلك من تعرض الإنجليز للسودان حادث آخر هو أن الكابتن منكريف
Captain Moncrieff
قنصل بريطانيا في جدة كلف بالذهاب إلى سواكن لكتابة تقرير عن حالة النواحي المجاورة لهذه المدينة التي لم يعرج عليها كولونيل استوارت أثناء طوافه بتلك البقاع.
وفي رأينا أن الباعث على تكليف الكابتن منكريف بهذه المهمة يرجع إلى رغبة الحكومة البريطانية في إحاطتها إحاطة تامة بجميع شئون أنحاء السودان، تلك المسألة التي صرحت في كثير من مكاتباتها الرسمية بأنها لا تهتم بها ولا ترغب في التعرض لها.
وقد سافر الكابتن منكريف إلى سواكن في منتصف عام 1883، وبعث بتقريره عن هذه الناحية وما جاورها إلى سير إدوارد مالت، الذي أرسله من القاهرة إلى إرل جرانفيل في 10 أغسطس من هذه السنة مع رسالة نشرت في الكتاب الأزرق لعام 1883، ج13، تحت رقم 83.
وحدث بعد ذلك أن رافق الكابتن منكريف في نوفمبر من السنة المذكورة قوة بقيادة اللواء محمود طاهر باشا - قائد الجيوش المصرية في السودان الشرقي - لإنقاذ مدينة سنكات التي كان يحاصرها الدراويش. وقد انهزمت هذه القوة وقتل الكابتن منكريف في هذه الواقعة؛ فكان من هذا الحادث أن أرسل سير إ. بارنج
Sir E. Baring
إلى إرل جرانفيل الرسالة الآتية، وقد نشرت في الكتاب الأزرق الصادر عام 1883، ج1، باب المراسلات الإضافية عن الأحوال في مصر، وها هي:
رقم 163: من سير إ. بارنج إلى إرل جرانفيل
ورد في 20 ديسمبر
القاهرة في 10 ديسمبر سنة 1883
أتشرف أن أرسل مع هذا صورة من كتاب خاص جاءني من سواكن في 14 ديسمبر. أما الكتاب الذي يقول المراسل أنه أرسله إلي في اليوم الأول من ديسمبر فلم يصل إلى الآن.
وليس بالإمكان تبرئة الحكومة المصرية من اللوم في هذا الحادث؛ إذ من الواضح أن محمود طاهر باشا قائد لا كفاية له البتة. وقد تكلمت مع شريف باشا بلهجة شديدة بصدد سلوك هذا الضابط بعد الموقعة التي أودت بحياة الكابتن منكريف. وقد سافرت لجنة إلى سواكن كما أخبرتكم للتحقيق في سلوكه. ورغما عن هذا فلا يزال متربعا في وظيفة القيادة، وأظن أنه قائم بأعبائها حتى هذه الآونة.
وقد تقرر أخيرا استدعاء محمود طاهر باشا ومحاكمته أمام مجلس عسكري في القاهرة.
وإني أتشرف أن أكون ... إلخ ...
الإمضاء
إ. بارنج
الخلاصة
وخلاصة ما ذكرناه في هذا الباب أنه لم يكد يمضي أسبوعان على الاحتلال البريطاني لمصر، حتى قدم الكولونيل سير تشارلس ولسن بمحض رغبته واختياره - وبدون أن تطلب الحكومة المصرية منه ذلك - مذكرة في 29 سبتمبر سنة 1882 إلى سير إ. مالت قنصل بريطانيا العام في مصر، يلفت فيها نظره إلى خطورة الحال في السودان، ويقترح ضرورة إرسال ضابطين إنجليزيين إليه «لكتابة تقرير عنه وعن الوسائل اللازمة لاستتباب الأمن فيه».
وهذه المذكرة أرسلها سير إ. مالت بدوره إلى إرل جرانفيل وزير خارجية بريطانيا، وأصحبها برسالة يعزز فيها رأي سير تشارلس ولسن، فوافق إرل جرانفيل على ذلك، وبعث اللفتنانت كولونيل استوارت إلى السودان للقيام بهذه المهمة، فأتمها وأرسل تقريرا مطولا عنه، أرسله سير إ. مالت إلى إرل جرانفيل، فكتب هذا إلى مستر كرتريت القائم بأعمال سير إ. مالت وقتئذ، يخبره بأنه كلف إرل دوفرن أن «يطلع الحكومة المصرية على الإصلاحات التي أشار كولونيل استوارت بإدخالها في مديريات هذا القطر»، وقد قام بهذا الأمر سير إ. مالت، فأرسل إلى شريف باشا رئيس مجلس النظار في مصر كتابه الذي أعرب فيه عن رجائه في أن تنال هذه المقترحات عناية الحكومة المصرية (وقد اعتبر إرل جرانفيل هذا العمل بمثابة أمر كما سيتضح ذلك فيما بعد)، فرد عليه شريف باشا يخبره بوصول كتابه ويشكره هو وكولونيل استوارت.
ثم رجع هذا الكولونيل بطريق مصوع كي يتمم تقريره عن السودان الشرقي، فأتمه وأرسله إلى سير إ. مالت الذي لفت نظر شريف باشا إلى ما ورد في هذا التقرير عن مصوع فقط. ثم بعث به سير إ. مالت إلى إرل جرانفيل وأخبره بما فعل، فلم يكتف بذلك إرل جرانفيل وطلب من سير إ. مالت أن يبلغ شريف باشا فقرات أخرى وردت بالتقرير المذكور وأشار إليها بنفسه.
فصدع سير إ. مالت بالأمر، وكان ما كان من إرسال الكابتن منكريف قنصل بريطانيا في جدة إلى سواكن، التي لم يمر بها الكولونيل استوارت، لكتابة تقرير عن الجهات المجاورة لها، وذلك على ما نرى لاستكمال بحث أحوال السودان، ثم ورود هذا التقرير إلى سير إ. مالت وإرساله منه إلى إرل جرانفيل، ثم قتل الكابتن منكريف في معركة مع الدراويش، فكان مقتله سببا في توجيه سير إ. بارنج لشريف باشا عبارات شديدة اللهجة ضد اللواء محمود طاهر باشا قائد القوة المصرية في هذه المعركة. وانتهى الأمر باستدعاء هذا القائد ومحاكمته أمام مجلس عسكري بالقاهرة.
وبعد كل هذا وذاك ما زالت الحكومة البريطانية مصرة على زعمها من أنها لم تتدخل في مسالة السودان في ذلك الوقت، وأنها لم تهتم بأمره أقل اهتمام.
الدور الثاني
ثورة المهدي
لقد كان السودان قبل هذه الثورة جزءا متمما لمصر، ولم يكن قائما بذاته ولا منفصلا عنها. ولما شبت الثورة المذكورة، وكان ذلك قبل الاحتلال البريطاني لمصر، صادفت في أول أمرها بعض النجاح، ولكن لم تلبث هذه الحال بعد تعيين عبد القادر باشا حكمدارا عاما للسودان أن تغيرت، وقبض هذا الضابط القدير على ناصية الحال بالقوة المحلية التي كانت تحت إمرته، بدون أن يلتجئ إلى طلب إمدادات من مصر، التي كانت في ذلك الحين في شغل شاغل عنه لاضطراب البلاد بالثورة العرابية.
وقد تمكن عبد القادر باشا من قمع تلك الفتنة، وإخماد نار الثورة في الجزيرة كلها تقريبا. ولا ريب أنه كان في إمكانه إعادة الأمن إلى ربوع السودان، إذا كان قد أمد بالخمسة عشر ألف جندي التي فوض أمر قيادتها إلى هكس باشا.
فقد كانت الخطة التي وضعها خطة حكيمة؛ وهي تنحصر في أن يستمر مرابطا هو وجيوشه ومدفعيته وأسطول البواخر على طول مجرى النيل الأبيض. وفي هذا الوقت لم يكن بيد المهدي سوى كردفان، وهي عبارة عن بيداء قاحلة، لا تستطيع بحال من الأحوال أن تمير الجموع الملتفة حوله؛ فكان بذلك مضطرا للتخلص من هذا الموقف إلى سلوك أحد هذين الطريقين: فإما أن يخاطر بنفسه - وهذا أمر بعيد الاحتمال - ويهاجم جيوش عبد القادر باشا وهي متحصنة على النهر بمدافعها وبواخرها، فتضربه الضربة القاضية.
وإما أن يبقى كما هو محصورا في كردفان - وهذا أكثر احتمالا - فيكون القضاء عليه محققا بمرور الزمن؛ أعني أن الجوع لا يلبث أن يهاجم جموع أولئك الغوغاء، فيفت في عضدهم ويبدد شملهم، فتخبو نار الثورة من تلقاء نفسها. هذا فضلا عن أن أنصار المهدي يكونون قد أدركوا أن حكومة هذا الرجل أقل رفقا بهم من حكومة مصر، فينصرفون عنه ويهجرونه حالما تخمد جذوة الحماس الذي تأجج بين ضلوعهم في بادئ الأمر.
هذه كانت هي خطة القائد المصري البارع عبد القادر باشا حلمي، وهي بلا شك خطة حكيمة سديدة. وإننا نرى من الإنصاف لذكرى الكولونيل استوارت أن نقول إنه كان يرى رأي عبد القادر باشا عينه، ولكن مما يؤسف له أشد الأسف أن هذا الرأي لم يعمل به، ولو نفذ لما كان السودان سقط في أيدي الثوار أبدا.
قال سلاطين باشا
Slatin Pasha
في كتابه «السيف والنار»، ص232، بهذا الصدد:
لو صادفت نصائح عبد القادر باشا آذانا مصغية لجرت الأمور في السودان في غير المجرى الذي جرت فيه، ولكانت النتائج غير هذه النتائج السيئة.
فقد كان يرى عدم تسيير حملة كبيرة لإعادة فتح كردفان، وأن تترك والثوار الذين فيها، وأن يبقى الجيش المصري والمدد الذي يتلقاه مرابطا في حصون قوية على طول مجرى النيل الأبيض، وكانت القوات العسكرية التي تحت إمرته كافية لقمع ثورة الجزيرة الواقعة بين النيلين الأزرق والأبيض، والإيقاع بجيوش المهدي الآتية من الغرب والحيلولة دون تقدمها.
ولو اختيرت هذه الخطة لكان من المحتمل كثيرا أن يدب الفساد في صفوفهم، وتسودهم الفوضى بسبب اختلال الإدارة عندهم وعدم وجود نظام ما يستندون إليه؛ وبذلك تستطيع الحكومة أن تسترجع الأراضي التي ضاعت منها ولو بالتدريج على ممر الأيام. ولا ريب في أني لم أكن بمستطيع في ذلك الحين أن أحتفظ بسيطرة الحكومة في دارفور. على أننا لو قدرنا في هذه الحالة ضياع هذه المديرية نهائيا، فإننا نكون قد اخترنا أخف الضررين بلا مراء. ولكن لم يكن ذلك رأي القابضين على أزمة الحكم في القاهرة.
فقد ظهر أمر عال جاء فيه أنه لا بد من توطيد سطوة الحكومة بجيش يرسل تحت إمرة الجنرال الإنجليزي هكس، بمساعدة ضباط أوروبيين آخرين. أما عبد القادر باشا فقد استدعي وعين علاء الدين باشا - الذي كان فيما سبق حكمدارا عاما لشرقي السودان - بدلا منه.
فلم تكد تبلغ مسامع المهدي هذه الأخبار حتى وعاها وعمل لها حسابها وأعد لها عدتها. ا.ه.
وقد استمر عبد القادر باشا حلمي على خطته الآنفة الذكر، وفي أثناء ذلك حدث الاحتلال البريطاني، وأرغمت مصر بعده مباشرة على استدعاء قائدها المنتصر وأحد أبنائها الظافرين، الذي كان في مقدوره أن ينتشل بلاده من أزمة من أكبر الأزمات التي انتابتها في تاريخها كله، دون الحاجة إلى الاستعانة بأي عنصر أجنبي. وفعلا استدعي عبد القادر باشا حلمي من السودان، واستبدل به ضابط مصري آخر هو سليمان نيازي باشا، وعين معه هكس باشا رئيسا لأركان حربه. وكان الغرض من ذلك كما تكشف عنه الوثائق المنشورة بعد هو أن يكون القائد المصري قائدا بالاسم فقط، ويكون الرئيس البريطاني لهيئة أركان الحرب هو القائد الفعلي . فقد رئي أن رجلا قوي الشكيمة كعبد القادر باشا لا يمكن أن يقبل بتاتا مركزا هذه صفته، لا سيما بعد ما أيده الله به من النصر والتوفيق. وهذا فيما نظن كان علة استدعائه.
على أن الأمور لم تجر كما كان مقدرا لها؛ فإن سليمان نيازي باشا نفسه - الذي كان الإنجليز يرون فيه رجلا ضعيفا يخضع لأوامر هكس باشا - قد خيب ظنهم ولم يفعل ما كانوا يرجونه منه، فاقتضى الأمر استدعاءه هو أيضا، وسلمت قيادة جيش السودان نهائيا إلى هكس باشا ومعه عدد من الضباط البريطانيين لمساعدته.
فهل يسلم عاقل بعد هذا بأن كل ما حصل كان بدون تدخل الحكومة البريطانية، وإذا كانت ثمة حاجة ماسة لمصر إلى تعيين قائد بريطاني، وهيئة أركان حرب بريطانيين على رأس جيش السودان، فلم لم يبد ذلك منها قبل احتلال الإنجليز لها؟
ويؤيد ما قلناه آنفا من أن الغرض من تعيين قائد مصري آخر بدلا من عبد القادر باشا حلمي هو أن يكون ذلك القائد قائدا بالاسم لا بالفعل، ما قاله ه. أ. كلفي
H. A. Kolvy
في كتابه «تاريخ الحملة السودانية»، ص12، وهو حامل لوسام الحمام السامي الشان، ومن فرقة حرس الجريناديرز المشهورة، وقد استقى معلوماته وجمعها من قسم المخابرات بوزارة الحربية بلندن عام 1889.
وكتابه وثيقة رسمية وفي المرتبة الأولى من الأهمية، وإليك ما جاء فيه بهذا الصدد:
عبد القادر باشا يخلفه هكس باشا، وكان عزم عبد القادر باشا في ذلك الوقت أن يتعقب الفريق المرتد إلى كاروج، ولكن قبل تمكنه من ذلك حل محله في سلطته المدنية علاء الدين باشا الذي وصل إلى الخرطوم، وحل في سلطة عبد القادر العسكرية سليمان نيازي باشا «اسما»، وهكس باشا «فعلا»، وقد كان هذا في فيلق ضباط أركان حرب بومباي، ثم التحق بالجيش المصري برتبة ميجر جنرال. وقد جاء نيازي باشا إلى الخرطوم في 20 فبراير سنة 1883 بوظيفة قائد عام، بينما جاءها هكس باشا في 7 مارس في هذه السنة بصفة رئيس أركان حربه، إلا أن سليمان نيازي باشا كان قد أفهم أن عليه أن يرجع في جميع الأمور إلى رأي مرءوسه الذي «ألقي على عاتقه تبعة تدبير الاستعدادات وإدارة الحركات الحربية». ا.ه.
فهل هناك برهان أوضح من هذا على صدق ما قلناه آنفا؟
نعم، إن هكس باشا وضباط أركان حربه الإنجليز كانوا ضباطا ممتازين، ولهم دراية حسنة بمهنتهم العسكرية، لكنهم كانوا يجهلون تمام الجهل حالة البلاد وطبيعة أرضها. وبدلا من أن يتبع أولئك الضباط خطة عبد القادر باشا حلمي التي هي غاية في الحكمة، ويضعوها نصب أعينهم، ساقوا الجيش إلى صحاري كردفان. وهناك هلك منه من هلك ظمأ، ومن بقي قاتل في أرض موافقة تمام الموافقة للأعداء، وغير صالحة لقتال جيش منظم، فعانى أشد الآلام ثم أبيد عن آخره؛ أعني أن ما كان منتظرا أن يحل بالمهدي ورجاله حل بجيشنا بسوء الخطة التي وضعت له.
فمن المسئول بعد كل هذا عن ضياع السودان، أمصر أم إنجلترا؟
وإليك ما قاله الجنرال السير رجنالد ونجت باشا
Sir Reginald Wingate Pasha - وهو أعرف القواد الإنجليز بالمسائل السودانية - بالصفحة 115 من تقرير اللورد كرومر
Lord Cromer
عن مصر والسودان سنة 1906، بعد أن عاين ميدان القتال:
زرت ميدان الواقعة التي قتل فيها الدراويش المرحوم الجنرال هكس باشا، وأفنوا كل جيشه سنة 1883. ومن الغريب أن العساكر كانوا في حالة شديدة من العطش مع وجود بركة كبيرة من المياه على بعد ميل واحد عنهم، ولكنهم لم يعلموا بها، والمحل واقع على بعد 30 ميلا جنوبي الأبيض في وسط غابة كثيفة. ولا شك في أنه لو كانت النجدة المرسلة لرفع الحصار عن الأبيض أكثر عددا وأقوى عددا لكانت لاقت ما لاقته حملة هكس. وإرسال تلك الحملة في أحوال كهذه يعد ضربا من الجنون، وهو أكبر دليل على أن الحكومة في ذلك الحين لم تكن عالمة بحقيقة الحال، ولم تحسب حسابا للصعوبات التي لا بد لجيش عظيم من ملاقاتها في أثناء مروره ببلاد كهذه. ا.ه.
وقد وصل اللورد كرومر من إنجلترا إلى مصر بعد سفر الحملة بعدة أيام، فكتب عنها في تقريره السابق الذكر، ص116، ما يأتي:
لم أعثر على كتابة من الجنرال هكس يستدل منها على عدم استصوابه لهذه الحملة، ولكن لا ريب عندي في أنه كان عالما حق العلم أن الجيش الذي تحت قيادته لم يكن صالحا للقتال، ولم يشأ أن ينصح للحكومة بالعدول عن هذه الحملة حتى لا يقال إنه تردد في تأدية مهمة محفوفة بالأخطار. ا.ه.
وإننا نقول تعليقا على هذا القول - دون أن يكون لنا أدنى قصد إلى انتقاص الجنرال هكس، أو تسويء ذكرى هذا الجندي الذي فاض روحه في حومة الوغى، وصار في عداد الغابرين - إن هذا التأويل من اللورد كرومر لا يتفق مع الواقع.
وبيانا لذلك نذكر لك الكيفية التي ألفت بها هذه الحملة والحوادث التي توالت عليها:
لما تألفت الحملة بمصر وأرسلت إلى السودان، نيطت قيادتها العامة بضابط مصري هو سليمان نيازي باشا، وتعين هكس باشا أركان حرب وقائدا ثانيا لها، ودامت هذه الحالة إلى أن انتصر الجيش في واقعة المرابيع في 29 أبريل عام 1883.
وكتب عنها السير فرنسيس ونجت باشا في كتابه «المهدية في مصر والسودان»، ص75، ما ترجمته:
طهر النصر البلاد من الثوار بين الخرطوم وسنار، وعادت قبائل كثيرة وقدمت الطاعة إلى الحكومة. وصار هكس في حالة تمكنه من توجيه النظر إلى كردفان منبع الثورة، غير أنه كان عليه قبل هذا أن يزيل من طريقه العراقيل التي كان يلقيها له كبار الموظفين في الخرطوم بعدما مرت ساعة الخطر الوقتي، فشمر عن ساعده، وحارب هذه الدسائس محاربة طويلة استغرقت شهر مايو ويونيو ويوليو، ولم تستبعد الحكومة أكبر عائق يقوم في وجهه - ألا وهو سليمان نيازي باشا - إلا بعد أن قدم هكس استقالته. وعلى إثر ذلك حل محله، فأصبح هكس باشا القائد العام للحملة التي سترسل إلى كردفان. ا.ه.
فماذا يستطاع أن يستنتج من هذا غير أن هكس باشا كان يريد أن تكون يده هي العليا في كل أمر، ورأيه فوق كل رأي؛ فقدم استقالته لكي يزال من أمامه أكبر مخالف له، ألا وهو سليمان نيازي باشا، الضابط الوحيد الذي يعلوه، فيقال من منصبه ليخلو له الجو.
ولا مساغ للشك في أن تغييرا له مثل هذه الأهمية لا يمكن حدوثه إلا بتدخل قوي من قنصل بريطانيا العام بالقاهرة، وهذا مما يبرر إلقاء المسئولية الكبرى على حكومة إنجلترا.
فمن البديهي إذن ألا يجد اللورد كرومر شيئا مما توقعه من هكس باشا؛ لأنه هو الذي اختط خطة هذه الحملة، وهو أيضا الذي دبرها. ولو كان الأمر على خلاف ذلك لكان من واجبه أن يلفت أنظار الحكومة التي يعمل لها للأخطار التي تقف في سبيله، ثم يقوم بواجبه بعد بيانها كجندي.
ويظهر فوق ذلك أن الضباط الإنجليز أنفسهم عندما أمعنوا في تلك الصحاري لاح لهم شبح خطئهم، غير أنه لسوء الطالع كان قد قضي الأمر وسبق السيف العذل.
والدليل على صحة ما تقدم ما دونه سلاطين باشا في كتابه «السيف والنار»، ص241، قال:
بعد وقت قليل وصلت إلي مذكرات أمير الألاي فركهار
Colonel Farquhar
رئيس أركان حرب، ومستر أدونوفان
Mr. O’Donovan
مكاتب جريدة ديلي نيوز. فلما قرأتها جميعها من أولها إلى آخرها بعناية تامة ألفيتها مفزعة محزنة، فقد أطنب كلاهما في وصف الشقاق الذي كانت حلقاته مستحكمة بين الجنرال هكس وعلاء الدين باشا، وحمل فركهار على رئيسه بشيء من العنف لزلاته العسكرية، واستشعر الاثنان بالكارثة التي حلت. ولام فركهار رئيسه، وعنفه تعنيفا مرا لتقدمه بقوة ساءت حالتها وروحها المعنوي حتى بلغت مبلغا يؤدي بها من غير نزاع إلى نزول كارثة. ا.ه.
ومن الأمور الطبيعية التي لا تحتاج إلى جدال أن الجيش الذي يكون مسوقا إلى هلاك محقق بالعطش، وبما سينزله به عدوه، تحت إمرة رؤساء أضاعوا كل ثقته بهم لقيادتهم له إلى موارد الحتوف والهلكة، لا يمكن أن يكون روحه في مستوى عال.
وقد وجهت أسئلة في مجلس النواب البريطاني بصدد البرقيات التي تبادلها السير إ. مالت والجنرال هكس، فطلب الإرل جرانفيل من السير إ. بارنج أن يوافيه بها. وفعلا أرسلها مع رسالة مؤرخة في 20 فبراير سنة 1884، وصلت إلى لندرة في 20 مارس من هذه السنة، وهي منشورة مع البرقيات المذكورة في الجزء 12 من الكتاب الأزرق الإنجليزي عن مصر عام 1884، تحت رقم 197.
ومن هذه البرقيات يتبين بوضوح تام ما حدث بصدد استدعاء سليمان نيازي باشا، وتعيين الجنرال هكس قائدا عاما لجيش السودان، وتفويضه سلطة التصرف حسبما يهوى ويشاء. وهي أيضا تثبت بكيفية قاطعة تدخل قنصل بريطانيا العام في هذه المسألة، وتبين كيف استغل هذا القنصل ما لمركزه من نفوذ وجاه في بلوغ مآربه.
وإليك بعضا من هذه البرقيات، وهي التي لها علاقة بتلك المسألة:
ملحق رقم 197: من الجنرال هكس إلى سير إ. مالت (1)
الخرطوم في 13 مارس سنة 1883
إن الحاجة ماسة كثيرا للحصول على قرار من مصر يبين فيه بدقة مركز الحكمدار الذي تعين حديثا ومركز عبد القادر باشا. فالآن يسود الإدارة ارتباك شديد وفقدان للثقة إلى أقصى حد مع رواج في سوق الدسائس حتى ليرتج علي إذا ألقي علي هذا السؤال: هل الانتصاران اللذان أحرزناهما على الثوار يجزيان عن الفوضى الضاربة بجرانها بين ظهرانينا بسبب سفر عبد القادر باشا قبل مجيء خلفه؟ فأرجوكم عمل ما يلزم لإرسال أمر حاسم في هذا الموضوع؛ إذ أراني والحالة هذه مكتوف اليدين، لا أستطيع أن أجد معاونة فعلية، ولا أظفر بمعلومات وافية.
وتنوي الحكومة أن تعين هنا حاكما جديدا؛ ليقبض على السلطتين المدنية والعسكرية، ويكون خلفا لعبد القادر باشا وسليمان نيازي باشا. وهذه المشروعات فشلت فشلا تاما بسبب سفر عبد القادر باشا. وما زالت مصالح السلطتين المذكورتين تتداولها نفس الأيدي التي كانت قابضة عليها. ووقع الحاكم الجديد في الارتباك بسبب مركزه الشاذ المزعزع. فالسيادة القديمة لا تزال قائمة ولكن لا وجود لسلطتها في الخرطوم. وقد أطلعني علاء الدين باشا أمس فقط على برقية يطلب منا فيها إبداء الرأي في أيهما أفضل: إيقاف سير الحركات الحربية التي قام بها عبد القادر باشا، أم الانتظار حتى تنتهي. وقد فوض علاء الدين باشا لي الأمر، وقال إنه ينفذ ما أرتئيه صوابا، ولكن أرى أني لا أملك الفصل في هذه القضية، وأن للحكومة وحدها حق النظر في الموقف الحالي وإصدار أوامرها.
ولكن الحالة لم تبق معلقة مدة طويلة. فقد تولى هكس باشا - كما سيظهر - حل هذه المشكل بنفسه، ولم يصبر حتى تأتيه الأوامر التي ألح في طلبها فأقام نفسه حاكما بأمره، واحتفظ بهذا المركز طول الوقت الذي قضاه في السودان، فإنه بعدما حل بالخرطوم في 2 مارس وأرسل البرقية السالفة في 13 منه، لم يلبث أكثر من ستة أيام - أي التاسع عشر من هذا الشهر نفسه - حتى أرسل البرقية الآتية إلى إرل دوفرن (الكتاب الأزرق الإنجليزي عن مصر سنة 1883، ج13، قطعة رقم 2، ملحق رقم 33)، وها هي:
الخرطوم في 19 مارس سنة 1883
حملت علاء الدين باشا على أن يعلن نفسه حاكما طبقا للأمر الذي صدر قبل مجيئي إلى هنا، وسأجري الآن الحركة التي تدعو الضرورة إليها من تغيير في الضباط وتبديل بينهم.
ونذكر للقارئ فيما يلي بقية البرقيات الملحقة بالرسالة السالفة رقم 197:
ملحق رقم 197: من سير إ. مالت إلى الجنرال هكس (2)
القاهرة في 23 مايو سنة 1883
تسلمت برقيتكم المؤرخة في 13 من الشهر الجاري، ويقول شريف باشا إنه أصدر الأوامر بألا تجري أية حركة حربية إلا بعد مشورتكم ورضاكم، وأن العمل بهذه الأوامر يحصر القيادة في شخصكم بالفعل. فإذا اتصل به من جنابكم أن أوامره لم تنفذ فهو لا يتأخر عن تكرارها، ولكنه لا يوافق على تعيينكم قائدا عاما؛ لأن الثورة دينية، وينشأ عن تقليد هذا المنصب لمسيحي هياج الخواطر وإثارة روح التعصب.
ملحق رقم 197: من الجنرال هكس إلى سير إ. مالت (4)
الخرطوم في 31 مايو سنة 1883
وردت برقيتكم، وإني لأدرك تمام الإدراك السبب الذي من أجله لم يسمح بتعييني قائدا عاما، وغاية ما أريده هو أن يخطر سليمان باشا بأن أوامري يجب أن تنفذ، فلقد وقف في وجهي سدا منيعا، وقاسيت المشاق والمحن في سبيل تنفيذ ما وضعته من ترتيبات وتدابير، وأكثرها أغفل ولم ينفذ. ولا أظن أن الأوامر التي أرسلت إليه من نظارة الجهادية كانت صريحة بالقدر الكافي؛ ولذا لاقيت مصاعب ضقت بها ذرعا، وسأعد تقريرا بما يلزم وأرسله إليكم.
ملحق رقم 197: من سير إ. مالت إلى الجنرال هكس (9)
القاهرة في 22 يوليو سنة 1883
أبلغت شريف باشا ما جاء في البرقيتين الواردتين منكم، المؤرختين في 28 من الشهر الماضي، وما جاء في البرقية المرسلة منكم إلى الجنرال بيكر المؤرخة في 16 الجاري. وأتوقع أن أتوصل إلى استدعاء سليمان باشا أو إكراهه على الخضوع والطاعة.
ملحق رقم 197: من الجنرال هكس إلى سير إ. مالت (10)
الخرطوم في 23 يوليو سنة 1883
أرسلت اليوم إلى ديوان الجهادية استقالتي من منصبي بجيش السودان. ولقد فعلت ذلك وأنا متأسف، ولكني لا أستطيع القيام بأعباء حملة أخرى تحت هذه الظروف الشبيهة بالظروف التي أحاطت بالحملة الأخيرة. ويقول لي سليمان باشا أنه لا يفهم من برقية رئيس مجلس النظار المؤرخة في 14 يوليو أنه ملزم بتنفيذ آرائي فيما يختص بنظام أو كيفية زحف أو هجوم الجيش الذي يستعد الآن للتقدم نحو كردفان ما لم يوافق هو عليها. وهو بذلك يقول في الواقع إنه يفعل عكس تعليماتي إذا نفذ آرائي وكانت غير متفقة مع آرائه. وحيث إن آرائي في الحملة الأخيرة كانت تناقض آراءه مناقضة شديدة، فستكون آراؤنا أشد تناقضا في حملة كردفان. فلست بمستطيع تجاه ذلك إلا أن أستقيل، وقد حدث في الأيام القلائل الأخيرة انه في مناسبتين هامتين أهملت وجهات نظري.
وإني لأرجو أن يعرض الجنرال بيكر على سمو الخديو أمر استقالتي، وأن يؤكد له أسفي لهذه الضرورة، وأبرقوا إلي بالرد.
ملحق رقم 197: من سير إ. مالت إلى الجنرال هكس (11)
القاهرة في 23 يوليو سنة 1883
لقد تقرر استدعاء سليمان باشا حالما يقع الاختيار على حاكم جديد، فأرجو ألا تبوحوا بهذا القرار حتى يعلن رسميا. وإني آمل أنكم ستجدون بعد إتمام هذا الأمر سهولة في عملكم كما تجدون طريقكم خلوا من العراقيل والعقبات. وسيكون علاء الدين قائدا اسميا.
ملحق رقم 197: من الجنرال هكس إلى سير إ. مالت (12)
القاهرة في 27 يوليو سنة 1883
وصلت إلي اليوم برقيتكم المؤرخة في 23 الجاري. ولكني أحسب أنكم لا تشددون في طلب قبول استقالتكم بعدما تقرر استدعاء سليمان باشا كما ذكرت لكم في برقيتي المؤرخة في 23 الجاري، التي أبرقت بها إليكم خصيصا لتكونوا على علم بذلك.
ملحق رقم 197: من الجنرال هكس إلى سير إ. مالت (14)
الخرطوم في 31 يوليو سنة 1883
وصلت إلي برقيتكم المؤرخة في 27 يوليو. ولست أصر في هذه الحال على استقالتي. ولكن أرجو العفو عن تساؤلي؛ هل أنا مصيب إذا استنتجت مما تقرر أنني سأكون في مأمن من العراقيل؟ وأن أعمالي المقبلة لن تقف دونها الحوائل؟ ورجائي إليكم أن تلحوا في إرسال هذا القرار إلى هنا بالبرق. والأمور في الخرطوم في حالة جمود تام. وإن ما أتمناه أن تتحسن الأحوال بعد عودة علاء الدين باشا. وقد ارتفع النيل كثيرا وسبب ذلك بطئا كبيرا في نقل المؤن والأسلحة؛ ولذا أصبحت أتوقع تأخيرا عظيما في موعد سفر الحملة إلى كردفان.
ملحق رقم 197: من سير إ. مالت إلى الجنرال هكس (15)
القاهرة في 2 أغسطس سنة 1883
أبلغني شريف باشا أنه تلقى من ديوان الجهادية كتاب استقالتكم، ولكنه يظن أنكم قدمتموه قبل أن يصل إليكم نبأ القرار باستدعاء سليمان باشا؛ ولذا لا يرى مسوغا للرد عليكم.
فهل لي أن أخبر سعادته بأنه مصيب في ظنه؟ وقد أرسلت إلى الخرطوم بالبرق الأوامر بالتغييرات الجديدة.
ملحق رقم 197: من الجنرال هكس إلى سير إ. مالت (16)
الخرطوم في 3 أغسطس سنة 1883
اطلعت على البرقية الواردة من الديوان الخديوي إلى حكمدار السودان العام، وقد جاء فيها بعد النطق بتعيينه أيضا قائدا للجيش:
نود أن يسود الاتحاد والوئام علاقاتكم مع الجنرال هكس باشا، بحيث يكون بعونه تعالى وببركة هذا التعاون ... إلخ ...
ومعنى هذا أن أبقى في موقفي الذي كنت فيه قبلا. وإني لا أظن أن علاء الدين باشا ينوي إقامة العراقيل في طريقي. ولكن تجاربي وخبرتي في الحملة الأخيرة أرتني رأي العين أن أتحاشى التورط في القيام بحملة أخرى تحت نفس الظروف التي سلفت. أما العامل الديني في الثوار فقد اختفى في هذه الأيام ولا يزال متواريا إلى الآن، حتى صرت أحسب أن ليس هناك أي خطر في تنصيبي قائدا عاما. وسأجعل نصب عيني أن أنتفع باستمرار بما يسديه إلي علاء الدين باشا من المعونة وبمعارفه للبلاد وأهلها. وأمنيتي أن يرافق الحملة على أن أتولى فيها قيادة الأمور الحربية. وإذا تم ذلك لزم أن أحصل على رتبة أرقى من رتبتي الحالية.
ملحق رقم 197: من الجنرال هكس إلى سير إ. مالت (18)
الخرطوم في 15 أغسطس سنة 1883
أرجو إبلاغ شريف باشا أنني أرسلت كتاب استقالتي قبل أن أعلم بقرار استدعاء سليمان باشا، أما علاء الدين باشا فرجل من طراز آخر بالكلية.
ملحق رقم 197: من الجنرال هكس إلى سير إ. مالت (19)
الخرطوم في 19 أغسطس سنة 1883
تلقى الحاكم العام برقية فحواها أن سمو الخديو عينني قائدا عاما للقوات هنا. وهذا أفضل فيما أظن. أما من حيث الشعور الديني فلا إخال أن هناك أي خوف من إثارة روح التعصب. فالمديريتان اللتان يسودهما أحسن الأمن والنظام - وهما دارفور وبحر الغزال - حاكم الأولى رجل نمسوي، وحاكم الأخرى إنجليزي.
وأما علاقتي مع علاء الدين باشا فعلى أحسن ما يرام.
الخلاصة
ومجمل هذا الباب أن السودان كان قبل الثورة المهدية جزءا متمما لمصر غير منفصل عنها. ولما قامت هذه الثورة وكان ذلك قبل الاحتلال البريطاني لمصر أصابت في بداية الأمر بعض النجاح، ولكن لم تلبث هذه الحال بعد تعيين عبد القادر حلمي باشا حكمدارا عاما للسودان أن انقلبت، وكبح هذا الجندي القدير جماح الثائرين تماما بالقوات المحلية وحدها. ولو كان أمد بال 15000جندي التي أمد بها هكس باشا لقضي على الثورة قضاء محققا.
وكانت خطة عبد القادر باشا تنحصر في أن يرابط هو وجيوشه على النيل الأبيض بعد تخليص المنطقة التي في شرقيه من الثوار، وتوطيد الأمن في ربوعها، ويدع المهدي وجموعه في مديرية كردفان الصحراوية، ومرور الزمن على انحصارهم فيها خير كفيل للقضاء على المهدي وأتباعه. وهذا ما رآه سلاطين باشا والكولونيل استوارت الذي درس أحوال السودان جيدا. غير أنه لسوء الحظ أهملت هذه الخطة ولم يعمل بها.
ثم جاء الاحتلال الإنجليزي واستدعي عبد القادر باشا من السودان. وهذا تدبير غير حكيم ولم تقدم عليه مصر من نفسها؛ لأن هذا الضابط أحد أبنائها العاملين، وانتصر على الثوار، وكان ساعيا في انتشالها من شدة من أعظم الشدائد التي لاقتها في أدوار حياتها. فليس من المعقول أو الجائز أبدا أن تكون مصر أقدمت على استدعائه دون إكراهها على ذلك إكراها. وسبب ذلك ليس بخاف ولا يحتاج إلى بحث وعناء. فقد وقع الاحتلال الإنجليزي وحصر جميع المناصب الخطيرة في قبضة الإنجليز. فكان عليه أن يسلم قيادة جيش السودان إلى ضابط إنجليزي يعاونه في عمله ضباط آخرون إنجليز. ولما كان الحماس الديني هو الذي أثار الثورة؛ فقد رؤي من الحكمة أن لا يعين رسميا قائد نصراني على رأس جيش السودان، وأن يعين لهذا المنصب اسميا ضابط مسلم ضعيف الإرادة، حتى يكون الأول القائد الفعلي، وتكون كلمته النافذة وأمره المتبع المطاع.
ولما كان منصب كهذا لا يقبله بالطبع رجل قوي الشكيمة كعبد القادر باشا، فقد استدعي وعين مكانه سليمان نيازي باشا، وهو رجل طاعن في السن، واهن الإرادة والعزم. على أن الأمور لم تجر على ما كان يرام ويشتهى حتى بقيادة هذا الشيخ الاسمية. واقتضت الضرورة أن تدخل المسألة في دور الاضطرار لا الاختيار، وكان لا مفر من تعيين ضابط بريطاني على رأس جيش السودان، فأسند هذا المنصب إلى هكس باشا.
فإذا كانت مصلحة مصر كما يقول الإنجليز في حاجة إلى سيطرة ضباط بريطانيين على هذا الجيش، فلم لم تبد هذه الحاجة قبل احتلالهم لها؟
هذا، ومن يتصفح الوثائق الرسمية التي ذكرناها آنفا نقلا عن كتاب الحكومة البريطانية الأزرق، يتجلى له الدور الذي لعبه قنصل بريطانيا العام في مصر بصفة غير رسمية، محاولا بقوة نفوذه وتدخله جعل يد هكس باشا فيما قل وجل فوق كل يد في السودان.
أما أن هكس باشا كان صاحب الحكم المطلق، فهذا تدل عليه تصرفاته التي بلغت حتى تنصيبه الحكمداريين، الذين كانوا رؤساءه في وظائفهم بدون أن ينتظر أوامر الحكومة المركزية. وأما وقوع المسئولية عليه في حملته المشئومة فذلك ثابت من البرقية التي أرسلها سير إ. مالت إلى إرل جرانفيل (الكتاب الأزرق الإنجليزي عن مصر عام 1884، ج12) حيث يقول فيها سير إ. مالت:
وكان مرادي أن يعلم أنه - أي هكس باشا - مطلق اليد حر التصرف، لا مسيطر عليه في الطريق التي يختار أن يسلكها، وأنه تقع على عاتقه وحده تبعة أعماله من أولها إلى آخرها. ولو أنه أشار على الحكومة المصرية بعد تنصيبه قائدا عاما بضرورة العدول عن حملة الأبيض، فيقيني أنها كانت تنصت لرأيه وتعمل به.
ومن الثابت أيضا أن هكس باشا كان معترفا بأن القوة التي كانت تحت إمرته فيها حد الكفاية، كما يتضح ذلك من البرقية التي أرسلها إلى الجنرال بيكر من الخرطوم في 18 يونيو سنة 1883 (راجع الكتاب الأزرق الإنجليزي عن مصر عام 1883، ج22، الملحق رقم 1، للبرقية رقم 50) فقد اعترف فيها بأنه مستعد بالقيام بالحملة بالقوة التي لديه، وبأنه لا يرى احتمالا لوقوع أية نكبة. ولو كان من جهة أخرى معارضا في إرسال تلك الحملة، لكان بلا ريب قدم استقالته لا سيما أنه فعل ذلك عندما أراد الحصول على القيادة العليا.
نعم إن هكس باشا وضباطه البريطانيين كانت لهم دراية بمهنتهم العسكرية، لكنهم كانوا يجهلون أحوال البلاد وطبيعة أرضها جهلا تاما. وقد ساق الجنرال هكس باشا جيشه في فيافي كردفان، مخالفا بذلك الآراء السديدة التي أبداها الرجال العارفون بأحوال تلك الجهات، مثل عبد القادر باشا والكولونيل استوارت، فأهلك جيشه وهلك هو معه.
وقد وصف سير ريجنالد ونجت - وهو الجنرال الأكثر دراية بشئون السودان - حملة كردفان بأنها «ضرب من الجنون».
سبحان الله! ومن المسئول عن عواقب هذا الضرب من الجنون، أمصر التي أكرهت على اتباع مشورة أمليت عليها، أم الإنجليز الذين أملوا عليها هذه المشورة؟
فيتضح جليا مما تقدم أن قنصل بريطانيا العام كان يضغط على الحكومة المصرية، وهذا يفيد مصادقة الحكومة البريطانية على هذه الحملة المشئومة، وإلا كانت أشارت بقبول استقالة هكس باشا. ومن هذا المسلك يبدو تورط الحكومة البريطانية في سياسة متناقضة، فقد كانت من البداية إلى النهاية تتنصل من تبعة الأعمال الحربية في السودان، مع أنها كانت في الوقت ذاته موافقة بطريق غير مباشر على حملة كردفان.
الدور الثالث
تصريح إرل جرانفيل
من الواضح البين أن تصريح إرل جرانفيل الذائع الشهرة قد جاء بعد نكبة هكس باشا. وهاك نصه الذي عربناه من الكتاب الأزرق الإنجليزي عن مصر عام 1884، ج1، ص176:
رقم 210: من إرل جرانفيل إلى سير إ. بارنج
وزارة الخارجية في 4 يناير سنة 1884
سيدي
لقد ذكرتم في برقيتكم المؤرخة في 22 من الشهر الماضي أنه في حالة تشبث حكومة صاحبة الجلالة الملكة بطلب إخلاء السودان، لا تقبل حكومة الخديو - حسب رأيكم - تنفيذ هذه السياسة.
وأكاد لا أرى حاجة إلى الإفضاء إليكم بأنه من الضروري في المسائل الخطيرة التي تستهدف إدارة مصر وسلامتها للخطر، أن تتأكد حكومة صاحبة الجلالة الملكة طول مدة احتلال الجنود الإنجليزية للبلاد احتلالا وقتيا، مع وجوب اتباع نصائحها التي ترى من واجبها بعد مراعاة آراء الحكومة المصرية مراعاة تامة أن تتقدم بإسدائها إلى الخديو.
ويتعين أن يكون الوزراء المصريون والمديرون على بينة من أن التبعة الملقاة الآن على عاتق إنجلترا تضطر حكومة صاحبة الجلالة الملكة أن تصر على اتباع السياسة التي تراها. ومن الضروري أن يتخلى عن منصبه كل من لا يسير وفقا لهذه السياسة من أولئك الوزراء والمديرين.
وإن حكومة جلالة الملكة لواثقة من أنه إذا اقتضت الضرورة استبدال أحد الوزراء، فهناك من المصريين سواء الذين شغلوا منهم منصب الوزير، والذين شغلوا مناصب أقل درجة من هم على استعداد لتنفيذ الأوامر التي قد يصدرها إليهم الخديو بناء على نصائح حكومة جلالة الملكة.
ويمكنكم في كل ما تريدون توجيهه من التبليغات لتنفيذ ما سبق من الآراء أن تعتمدوا على مؤازرة حكومة جلالة الملكة لكم المؤازرة كلها.
وإني لكم ... إلخ ...
الإمضاء
جرانفيل
وهذا التصريح مع كونه قد صدر بعد نكبة هكس باشا، يبرهن بكل جلاء من نص عباراته على أن المبادئ المبينة فيه - وهي أن الحكومة البريطانية قد أخذت على عاتقها مسئولية كل ما يجري في مصر، وأن كل أمر يصدر عنها في شكل نصيحة يكون واجب الاتباع - قد أفضت بطريقة واضحة جلية إلى وضع مصر تحت الوصاية البريطانية. وذلك ليس من تاريخ هذا التصريح فقط، بل من الوقت الذي حدث فيه الاحتلال البريطاني. ومن ثم فمسئوليتها منذ هذا التاريخ عن كل ما حدث في البلاد من خير أو شر، كمسئولية الوصي نحو القاصر الموضوع تحت وصايته حالا بحال. فسواء أكان هذا التصريح صدر قبل نكبة هكس المشئومة أم بعدها، فتلك نقطة لا أهمية لها مطلقا ما دامت هذه المبادئ كانت معمولا بها في الخفاء. والحكومة البريطانية تبقي مسئوليتها كما كانت عن تعيين هكس باشا وعن ضياع السودان.
وهاك تصريحا آخر صرح به عضو آخر من أعضاء الوزارة البريطانية في ذلك الوقت، وهو اللورد هارنجتن
Lord Hartington
وزير الحربية. وهذا التصريح يؤيد تصريح اللورد جرانفيل في نفس الموضوع تأييدا تاما، وقد أذاعته شركة روتر في برقية منها بعد ظهور التصريح الأول بوقت قصير:
لندن في 11 مارس سنة 1884
أفاض لورد هارنجتن بصفة خاصة في غضون تصريحه الأخير عن موضوع السودان في بيان أهمية الاحتفاظ بموانئ البحر الأحمر؛ منعا لاحتلالها بأية دولة أخرى. ثم قال الوزير عقب ذلك إن حكومة صاحبة الجلالة الملكة تظل في مصر إلى أن تقوم في البلاد حكومة على أسس راسخة وأركان ثابتة، وأنها تقبل المسئولية في المسائل الرئيسية في السياسة المصرية مدة الاحتلال. ا.ه.
وهذا التصريح لا يؤيد فقط تصريح إرل جرانفيل، بل يعزز المبدأ المقرر فيه، ويثبت بصورة جلية أن الحكومة البريطانية أخذت على عاتقها مسئولية المسائل الأساسية في السياسة المصرية طول مدة الاحتلال؛ أي من أوله وليس بعد نكبة هكس باشا فقط.
وبما أن تقرير قبول هذه المسئولية قد حدث بمناسبة أسئلة توجهت بصدد السودان، فيترتب على ذلك أن يكون السودان داخلا ضمن المسائل الأساسية في السياسة المصرية التي تكلفت إنجلترا أن تتحمل مسئوليتها، والتي تشمل حتما ضياع السودان.
وطول المدة التي أبدت فيها الحكومة المصرية تساهلا وامتثالا للأخذ بمشورات إنجلترا، أو بعبارة صحيحة بأوامرها غير الرسمية، لم تكن هناك حاجة لإبداء هذا التصريح بهذه الطريقة المكشوفة. وعمل كهذا لا يتحتم صدوره إلا عند اشتداد المعارضة، كما حدث في الحالة التي أفضت إلى استقالة شريف باشا بسبب رفضه التخلي عن السودان.
ونظن أن الحكومة الإنجليزية كانت تفضل بكل تأكيد أن لا تحملها الظروف إلى إبداء هذا التصريح، بل كانت تؤثر أن تقف عند حد الطريقة الهينة اللينة التي اتبعتها، وهي بقاء مصر مصغية بسهولة إلى مشوراتها. فهذا كان يسخر لها الوسيلة للإفلات من المسئولية واجتنابها، كما حدث في الحالة التي تشغل الآن بالنا؛ وذلك بادعائها أن ليس لها يد في المسألة، وأنها كانت تعطي نصائح فقط، ولكنها اضطرت تجاه المعارضة الشديدة أن تكشر عن نابها لتقصي الوزراء الذين أظهروا عنادا.
وهذه الحالة ما زالت قائمة إلى الآن رغم استقلال مصر المزيف الذي منح لها بموجب تصريح 28 فبراير سنة 1922. وهذا شيء ثابت من نصوص التصريح ذاته. وإليك هذا التصريح نقلا عن جريدة الوقائع المصرية، العدد 20 بتاريخ يوم الثلاثاء 28 فبراير سنة 1922، المجلد الأول، وقد نشر نصه الإنجليزي في الكتاب الأزرق عن مصر عام 1922، ج1:
تصريح لمصر
بما أن حكومة جلالة الملك - عملا بنواياها التي جاهرت بها - ترغب في الحال في الاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، وبما أن للعلاقات بين حكومة جلالة الملك وبين مصر أهمية جوهرية للإمبراطورية البريطانية.
فبموجب هذا تعلن المبادئ الآتية: (1)
انتهت الحماية البريطانية على مصر، وتكون مصر دولة مستقلة ذات سيادة. (2)
حالما تصدر حكومة عظمة السلطان قانون تضمينات - إقرار الإجراءات التي اتخذت باسم السلطة العسكرية - نافذ الفعل على جميع ساكني مصر، تلغى الأحكام العرفية التي أعلنت في 2 نوفمبر سنة 1914. (3)
إلى أن يحين الوقت الذي يتسنى فيه إبرام اتفاقات بين حكومة جلالة الملك وبين الحكومة المصرية فيما يتعلق بالأمور الآتي بيانها، وذلك بمفاوضات ودية غير مقيدة بين الفريقين، تحتفظ حكومة جلالة الملك بصورة مطلقة بتولي هذه الأمور، وهي: (أ)
تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر. (ب)
الدفاع عن مصر من كل اعتداء أو تدخل أجنبي بالذات أو بالواسطة. (ج )
حماية المصالح الأجنبية في مصر، وحماية الأقليات. (د)
السودان.
وحتى تبرم هذه الاتفاقات تبقى الحالة فيما يتعلق بهذه الأمور على ما هي عليه الآن. ا.ه.
ويؤيد أيضا الاحتفاظ بهذه الحالة المنشور العمومي الذي أرسلته حكومة صاحب الجلالة البريطانية إلى جميع سفرائها، وها هو معرب نصه الإنجليزي المنشور في الكتاب الأزرق عام 1922، ج2:
وزارة الخارجية في 15 مارس سنة 1922
سيدي
لقد قررت حكومة صاحب الجلالة البريطانية بموافقة مجلس العموم انتهاء الحماية التي فرضت على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914، والاعتراف بها كدولة مستقلة ذات سيادة. وعند إعلان هذا القرار للحكومة التي أنتم معتمدون لديها يجب أن تبلغوها ما يأتي:
لما أضحى سلم مصر ورفاهيتها مهددا بسبب تدخل تركيا حليفة دول الوسط في الحرب الكبرى في شهر ديسمبر سنة 1914، وضعت حكومة جلالة الملك البريطانية حدا لسيادة تركيا على مصر، وأخذت هذا البلد تحت حمايتها، وصرحت بأنه أمسى في كنفها.
ولقد تغيرت الأحوال الآن وخرجت مصر من الحرب رافهة سليمة، فقررت حكومة صاحب الجلالة - بعد إمعان كبير، وطبقا لسياستها التقليدية - أن تضع حدا لحمايتها بتصريح اعترفت فيه بمصر كدولة مستقلة ذات سيادة. وذلك مع الاحتفاظ ببعض المسائل المرتبطة بمصالح الإمبراطورية البريطانية والتزاماتها ارتباطا وثيقا. أما هذه المسائل فستسوى باتفاقيات قادمة بين مصر والإمبراطورية. ومن الآن إلى أن يتم عقد هذه الاتفاقيات تظل هذه المسائل باقية على حالتها الراهنة بدون تغيير.
وللحكومة المصرية الحق في أن تؤسس وزارة للخارجية، وتمهد بهذه الكيفية السبيل لتمثيل مصر السياسي والقنصلي في الخارج.
ولا تتولى بريطانيا العظمى في المستقبل حماية المصريين في الخارج، اللهم إلا إذا رغبت الحكومة المصرية في منح هذه الحماية، وإلى أن يتم تمثيل مصر في البلد الذي ترى لها فيها مصلحة.
وانتهاء الحماية البريطانية على مصر لا يستوجب مع ذلك أي تغيير في الحالة الراهنة فيما يختص بالمركز الذي تشغله الدول الأخرى في مصر.
إن خير مصر وسلامتها ضروريان لسلام الإمبراطورية البريطانية وأمانها، وهي من أجل ذلك تعتبر من مصلحتها الجوهرية أن تحافظ على العلاقات الخاصة التي بينها وبين مصر، المعترف بها من الدول الأخرى منذ زمن طويل. وهذه العلاقات الخاصة التي ترى بريطانيا أنها مصلحة حيوية لها محددة في التصريح المعترف فيه بمصر كدولة مستقلة ذات سيادة.
ولقد أقرت حكومة صاحب الجلالة هذه العلائق كمسألة مرتبطة بها حقوق الإمبراطورية البريطانية ومصالحها ارتباطا حيويا وثيقا، وهي لا تسمح لأية دولة أن تفتح بابها أو المناقشة فيها. وترى بناء على هذا المبدأ أن كل محاولة من جانب أي دولة يقصد بها التدخل في شئون مصر تعد عملا عدائيا.
وستعتبر كل تعد على أرض مصر عملا يجب مقابلته وصده بكل الوسائل التي لديها.
وإني لكم ... إلخ ...
الإمضاء
كرزن أف كدلستون
الخلاصة
ومما تقدم ذكره من الوثائق في هذا الباب يتبين بوضوح وجلاء أن الحكومة البريطانية وضعت مصر تحت وصايتها منذ اليوم الأول لاحتلالها بالجنود البريطانية، وصارت مصر أمامها بمنزلة القاصر أمام الوصي، واستمرت هذه الحال في هذا المجرى إلى اليوم.
وإذا سأل سائل: هل مصر تستحق ذلك أو لا؟ فالجواب على ذلك أن هذه مسألة أخرى ليست لها علاقة ما بالحالة التي نعالجها، والشيء الوحيد الذي يجب أن نثبته من هذه الحالة، هو أنه لما كانت مصر قد وضعتها إنجلترا حيالها في مركز القاصر المحجور عليه، فكل اتفاقية تعقد بينهما تكون لاغية ولا قيمة لها مطلقا، كما هو الحال في أي اتفاقية من هذا النوع بين وصي وقاصر موضوع تحت وصايته سواء بسواء، وللأسباب عينها التي تبطل مثل هذه الاتفاقية لأنها تمنح الأول فوائد وتلحق أضرارا بالأخير.
وبناء على ذلك تكون اتفاقية السودان التي عقدت بين مصر وإنجلترا في 19 يناير سنة 1899 باطلة، ولا قيمة لها للأسباب التي ذكرناها.
الدور الرابع
استعادة السودان
أطلق الإنجليز على استعادة السودان اسم الفتح لحاجة في ذات أنفسهم، وذلك كما يقول الفرنسيون «لاستكمال مستندات الدعوى». وغرضهم من ذلك أن يتخذوا من هذه التسمية متكأ يستندون عليه لاغتصاب ما ليس حقا لهم. ولكن بما أن السودان ما برح جزءا لا يتجزأ من مصر التي انجلت عنه بسبب ضغطهم عليها لكي تخليه؛ فإن إطلاق اسم الفتح على استعادته هو كما يقول أيضا الفرنسيون: «إذا كانت العلة غير موجودة فكيف يكون المعلول موجودا.» أي: ليس في الحقيقة ما يبرر هذه التسمية؛ ولهذا يكون قولنا: «استعادة السودان» هو الصواب، ويكون لفظ «فتح السودان» في غير محله؛ لأن اللفظ الأول ينطبق على معنى ما حصل.
ولقد تكفلت الدوائر الرسمية بإعداد حملة لاستعادة السودان بقصد إنقاذ كسلا، ونجدة الإيطاليين المحتلين لها من التضييق الذي شدده عليهم الدراويش. أما السبب الحقيقي فقد كان ذلك الخبر الذي وصل في ذلك الحين إلى علم الحكومة البريطانية، وهو أن حملة مارشان
Marchand Expedition
قد تحركت ووجهتها النيل كي تحتل إحدى النقط الواقعة عليه. ولولا هذا السبب ما قام أولو الأمر بهذه الحملة. ويغلب على ظننا أن الحكومة البريطانية التي استولت على أوغندة والقسم الجنوبي من مديرية خط الاستواء المصرية كانت تروم الانتظار، ثم تفتح السودان من الجنوب بالتدريج، وبذلك تضع مصر أمام أمر واقع، وتحتفظ بهذه البلاد على أنها كانت قطرا مهجورا حازته بحق الفتح.
وهذا القول هو عين ما كانت تحتج به الحكومة الفرنسية على الحكومة البريطانية بعد احتلال فاشودة.
وعلاوة على ذلك، فإن الحكومة البريطانية قد نظمت حملة في أوغندة بقيادة الميجر مكدونالد
Major Macdonald ؛ كي تتقدم من الجنوب وتعجل في السير حتى تسبق حملة مارشان وتصل قبلها إلى فاشودة. ولكن منعها عن إنجاز مهمتها هذه تمرد الجنود السودانيين الذين كانوا يكونون جزءا من هذه الحملة، ولو كانت عسكرت في فاشودة قبل احتلال الفرنسيين لها لكانت الحكومة البريطانية وضعت يدها يقينا على جميع الأراضي الواقعة من الجنوب والتي تنتهي شمالا بفاشودة، واعتبرتها كقطر ظفرت به وأحرزته بحق الفتح، ولكان السودان الإنجليزي المصري وقف عند نقطة فاشودة.
ولقد أرغمت الظروف الحكومة البريطانية على القيام بالحملتين المذكورتين من الشمال ومن الجنوب، فكانت في كلتيهما مدفوعة إلى العمل لا عن رضاء ولا عن اختيار.
ويؤيدنا في هذا الرأي ما جاء في المادة الأولى من متن الاتفاقية الإنجليزية المصرية المعقودة بتاريخ 19 يناير سنة 1899، وهذا نص المادة الأولى منها:
المادة الأولى
تطلق لفظة السودان على جميع الأراضي الواقعة إلى جنوبي الدرجة الثانية والعشرين من خطوط العرض وهي:
أولا:
الأراضي التي لم تخلها قط الجنود المصرية منذ سنة 1882، أو ...
ثانيا:
الأراضي التي كانت تحت إدارة الحكومة المصرية قبل ثورة السودان الأخيرة، وفقدت منها وقتيا ثم افتتحتها الآن حكومة جلالة الملكة والحكومة المصرية بالاتحاد، أو ...
ثالثا:
الأراضي التي قد تفتتحها بالاتحاد الحكومتان المذكورتان من الآن فصاعدا.
وبناء على نص هذه المادة تكون الأراضي السودانية الداخلة تحت شروط الاتفاقية الإنجليزية المصرية محصورة في الحالات الثلاث المتقدمة، إلا أن هناك حالة رابعة - وهي الأهم - لم تدخل في نطاق هذه الاتفاقية، تلك هي الأراضي المحتلة بالجنود البريطانية وحدها، والتي كانت تابعة لنا مثل القسم الجنوبي من مديرية خط الاستواء القديمة، ومنطقة البحيرات العظمى، التي في النية بناء خزانات ضخمة عليها لخزن المياه.
وقد أهملت الحكومة الإنجليزية ذكر هذه الحالة عن قصد، حتى تستطيع فيما بعد أن تقول كما تجاهر الآن: إن هذه الأراضي أراض بريطانية، فتستبقيها في قبضة يدها. وقد قبل وزراؤنا في ذلك الوقت هذه الحال بوداعة وبدون أي اعتراض منهم. وفي اعتقادنا أنهم ما فعلوا ذلك إلا عن بساطة أو عن رغبة شديدة في البقاء في مناصبهم.
ولقد اعترف جميع الساسة البريطانيين في كل الأوقات السالفة بحقوق مصر الكاملة في السودان إلى يوم 19 يناير سنة 1899، وهو تاريخ عقد الاشتراك بحق الفتح بين مصر وإنجلترا. وهاك بعض شذرات من أهم أقوالهم في هذا الصدد: جاء في الجزء الثاني من الكتاب الأزرق عن مصر لعام 1898م، في المراسلات المتبادلة مع الحكومة الفرنسية حول وادي النيل الأعلى، رسالة مرقومة بالرقم 10، أرسلها سير إ. مونسن
Sir
E. Monson
من باريس في 22 سبتمبر سنة 1898 إلى مركز سلسبري
Marquis of Salisbury ، ونحن نقتطف لك منها ما يأتي:
إن حكومة صاحبة الجلالة الملكة لا تسلم بتاتا في بقائه؛ أي في بقاء مارشان هناك - أي في فاشودة - ولا توافق على التخلي عن حق مصر باستعادة جميع البلاد التي كانت خاضعة مؤخرا لحكم الخليفة، والتي كانت قبل ذلك جزءا من أراضيها. ا.ه.
وجاء في الصفحة رقم 9 من المراسلات السابقة، رسالة مرقومة بالرقم 13، أرسلها مستر رد
Mr. Rodd
من القاهرة في 25 سبتمبر سنة 1898 إلى مركز سلسبري، ونحن نقتطف لك منها فيما يلي فقرة من برقية أرسلها السردار سير هربرت كتشنر
Sirdar Sir Herbert Kitchener
إلى مستر رد المذكور:
لقد احتججت بكل ما أوتيت من قوة على احتلال مارشان وفرقته لفاشودة، وعلى رفعه العلم الفرنسي على أملاك سمو الخديو. فقال مارشان ردا على احتجاجي إنه تلقى أوامر مشددة باحتلال هذا البلد، ورفع العلم الفرنسي فوق مباني الحكومة المصرية في فاشودة. ثم أضاف إلى ذلك أنه لا يمكن أن يرتد عن هذه الناحية، إلا بعد أن تأتيه أوامر حكومته التي يتوقع عدم تأخرها.
فسألته عندئذ إذا كان مستعدا أن يقاوم رفع العلم المصري فوق فاشودة ما دام من المسلم به أن القوة التي ترافقني أكبر من قوته، فتردد برهة ثم أجاب بأنه لا يستطيع المقاومة. ووقتئذ رفع العلم المصري على مسافة 500 ياردة تقريبا جنوب العلم الفرنسي فوق برج خرب ضمن الاستحكامات المصرية القديمة، يشرف على الطريق الوحيد الموصل إلى داخلية البلاد من مركز الفرنسيين. ا.ه.
وجاء أيضا في المراسلات الآنفة بالصفحة رقم 11، ضمن رسالة مرقومة بالرقم 19، أرسلها سير إ. مونسن من باريس في 27 سبتمبر سنة 1898 إلى مركيز سلسبري:
لقد أوضحت له - أي لوزير خارجية فرنسا - أن برقية سيادتكم المؤرخة في 19 الجاري - والتي أبلغتها إليه في حينها - يستفاد منها أن حكومة جلالة الملكة تعتبر حقوق مصر في فاشودة لا تحتمل أية مناقشة. ا.ه.
وجاء في هذه المراسلات بالصفحة رقم 18 ضمن الرسالة رقم 3، العبارة الآتية، وهي مقتبسة من خطبة ألقاها سير إ. غراي
Sir E. Grey
في مجلس النواب البريطاني بتاريخ 28 مارس 1895:
وهناك غير ذلك مسألة مطالب مصر. فموقف إنجلترا أمام مصر موقف خاص يشبه موقف أمين اؤتمن على وديعة. وهذا فيما يختص بحفظ مصالحها. وهذه المطالب لم نؤيدها نحن فقط بل أيدتها أخيرا حكومة فرنسا كذلك. ا.ه.
وجاء أيضا في هذه المراسلات بالصفحة رقم 18 ضمن الرسالة رقم 4 التي أرسلها إرل كمبرلي
Earl of Kimberly
في أول أبريل سنة 1895 إلى مركيز دوفرين
Marquis of Dufferin
بوزارة الخارجية البريطانية:
وإني أنبهه أيضا - أي بارون كورسيل
Baron de Courcel
السفير الفرنسي - إلى أننا صرحنا بكيفية جلية بعدم جهلنا مطالب مصر، وأكدنا للحكومة الفرنسية أنه إذا استطاعت مصر أن تستعيد أراضي السودان التي كانت قبلا تحت سيطرتها، فنحن نعترف بحق ملكيتها لهذه الأراضي. ا.ه.
ونضيف فوق ما ذكر من أقوال الساسة البريطانيين واعترافاتهم بحقوق مصر في السودان الفقرة الآتية، وقد وردت في المكاتبة رقم 1 التي أرسلها مركيز سلسبري في 6 أكتوبر سنة 1898 إلى سير إ. مونسن بوزارة الخارجية البريطانية، ونشرت في الكتاب الأزرق لعام 1898، ج3:
جوابا على ملاحظات سعادته - أي السفير الفرنسي - قد أعدت على مسامعه الأدلة التي استشهد بها الجانب البريطاني في هذه المسألة، تلك الأدلة التي كانت معروفة قبل الآن. فأبنت له أن حقوق مصر على ضفاف النيل قد صيرها فوز المهدي في القتال في حكم المنسوخة بلا شك، ولكن مهما كانت قيمة هذه الحقوق التي سلبت من مصر فإنها قد أعيدت إلى يد الفاتح. والآن ما هو القسم الذي تبقى منها لمصر؟ والقسم الذي انتقل إلى المهدي والخليفة؟ لعمري تلك مسألة لا يمكن حلها إلا في ميدان القتال بلا ريب، ولكن هذا النزاع لا يسوغ لجانب ثالث أن يتدخل ويدعي تملك الأرض موضوع النزاع بحجة أنه قد صار التخلي عنها. ا.ه.
ونعلق على ما قاله مركيز سلسبري في هذه العبارة، فنقول: إن الجانب الثالث الذي يلوح سعادته به هو بالطبع حكومة فرنسا، ولكن ألم يكن الأجدر به أن يطبق على نفسه هذا المبدأ الذي أراد تطبيقه على فرنسا؟ إنه لو فعل ذلك لكان قدم مثلا غاية في الاستقامة والنزاهة اللتين ضرب بهما عرض الحائط حين فرض على مصر قبول اتفاقية 19 يناير سنة 1899 الإنجليزية المصرية المتعلقة بالسودان.
ويقول أيضا سعادته في العبارة السالفة: إن حقوق مصر التي سلبت منها قد أعيدت إلى يد الفاتح، فالمقصود بالفاتح هنا هو بالطبع مصر وحدها؛ إذ لو كان المقصود منه مصر وإنجلترا معا، لكان استعمل ما يدل على التثنية لا الإفراد، وسيؤيد هذا المعنى الوثائق المنشورة بعد.
وهناك اعتراض آخر على أقوال سعادته الآنفة، ذلك أنه يقول إن النزاع القائم بين مصر والمهدي في السودان لا يسوغ لجانب ثالث أن يتدخل ويدعي تملك الأرض موضوع النزاع، بحجة أنه قد صار التخلي عنها. فإذا كان سعادة مركيز سلسبري لا يرى ما يسوغ هذا الأمر لهذا الجانب الثالث، فكيف استساغته إنجلترا لنفسها وأجازت أن تدخل في اتفاقية 19 يناير سنة 1899م، كأنها صاحبة حق في السودان كفاتح له؟ وألا يكون في هذا ما يهدم جميع تصريحاتها؟
وفضلا عن ذلك، ففي التقرير الذي رفعه السير ه. كتشنر
Sir H. Kitchner
إلى لورد كرومر بتاريخ 21 سبتمبر سنة 1898م ما يأتي (الكتاب الأزرق، رسالة رقم 2، ملحق الرسائل رقم 1، ص4، من مستر رد إلى مركيز سلسبري):
لقد وافقت نهائيا على اختيار برج خرب واقع جنوب حصون فاشودة القديمة على بعد نحو 500 ياردة من المكان المرفوع فوقه العلم الفرنسي، ويشرف على الطريق الوحيد الموصل من فاشودة إلى داخلية البلاد؛ إذ يكتنف المديرية القديمة من جهتيها الشمالية والغربية مستنقعات عميقة يتعذر اجتيازها. وقد رفعنا العلم المصري فوق هذا البرج في الساعة الواحدة بعد الظهر بحضور الجنود البريطانية والمصرية، وحيينا العلم بإطلاق 21 مدفعا. ا.ه.
وسبب تكرارنا لهذه الفقرة مع أنه سبق ذكرها في الرسالة السالفة، هو أن نبين أن العلم المصري الذي نصب أمام مواقع الفرنسيين في فاشودة حيته الجنود البريطانية التي اشتركت في الحملة.
وهذه الحقيقة لم تذكر في الرسالة السالفة، وهي دليل قاطع لا مرية فيه يثبت بلا خفاء أن استعادة السودان - أو فتحه كما تقول العبارة الإنجليزية - بدئ وتم باسم مصر وحدها ومن أجلها.
وفي الوثائق الآتية ما يؤيد ذلك تأييدا تاما (الكتاب الأزرق عام 1898، ج3، رسالة رقم 4، الملحق 1 و2 و3، من ص9 إلى ص12):
من لورد كرومر إلى مركيز سلسبري
ورد في 17 أكتوبر
القاهرة في 10 أكتوبر سنة 1898
مولاي
أتشرف أن أرسل إلى سيادتكم مع هذا نسخة من كتاب تلقيته من ناظر الخارجية المصرية بطرس غالي باشا، ومعه نسخة من تقرير السردار إلى قائمقام خديو مصطفى فهمي باشا عما قام به من الأعمال في الجهات الواقعة في جنوب أم درمان، ونسخة أخرى من كتاب قائمقام خديو إلى السردار، يوافقه فيه بحمية على هذه الإجراءات. وقد طلب بطرس باشا غالي معاضدة حكومة صاحب الجلالة الملكة في المفاوضات الدائرة الآن مع الحكومة الفرنسية، حتى يكون حق مصر مضمونا في ملكية هذه الأراضي التي تخلت عنها أثناء ثورة المهدي تحت ضغط القوة القاهرة، ويسجل سعادته بالقول الصريح أن مصر لم تتخل قط عن حقوق ملكيتها لهذه الأراضي.
وإني ... إلخ ...
الإمضاء
كرومر
ملحق 1 لرقم 4: من الميجر جنرال سير هربرت كتشنر
إلى مصطفى فهمي باشا
القاهرة في 6 أكتوبر سنة 1898
حضرة صاحب العطوفة
أتشرف بإخبار عطوفتكم أنه بعد هزيمة الدراويش في أم درمان أبحرت في أسطول صغير من المدفعيات صاعدا في النيل الأبيض؛ كي أوطد سلطة صاحب السمو الخديو في مديريات السودان القديمة ومحافظاته. ولدى وصولي إلى فاشودة وجدت حملة صغيرة بقيادة القومندان مارشان، والعلم الفرنسي مرفوعا فوق دار المديرية القديمة، فطلبت منه أن ينزل علمه فورا، وعرضت عليه أن أضع تحت تصرفه مدفعية لتوصل حملته إلى القاهرة، فلما رفض احتججت شفويا على تعديه على الأراضي المصرية، ثم وجهت إليه فيما بعد احتجاجا كتابيا.
وحيث إن مسيو مارشان رفض أن ينسحب إلا بأمر من حكومته، فقد رفعت العلم المصري فوق الحصون القديمة بالاحتفال المألوف في مثل هذه الحالة، وتركت هناك حامية كافية لمقابلة أي طارئ.
وقد وليت جاكسون بك
Jackson Bey
مديرا لمديرية فاشودة القديمة.
وتفضلوا ... إلخ ...
الإمضاء
هربرت كتشنر
ملحق 2 لرقم 4: من مصطفى فهمي باشا
إلى الميجر جنرال سير ه. كتشنر
القاهرة في 9 أكتوبر سنة 1898
عزيزي السر دار
علمت بمزيد الارتياح من تبليغكم المؤرخ في 6 أكتوبر أنه بعد الانتصار الباهر الذي أحرزتموه في أم درمان، قد توجهتم إلى فاشودة ورفعتم العلم المصري هناك. فمع موافقة الحكومة على هذه الأعمال موافقة تامة شاملة، وعلى تعيينكم جاكسون بك مديرا لفاشودة، نوجه لكم جزيل الشكر لأنكم - وقد عرفتم بثاقب فكركم مصالح مصر، وما بذلته في الماضي من التضحيات في سبيل سيادتها على وادي النيل - لم تدعوا أي وقت يمضي بعد اندحار الدراويش دون أن تنتهزوه لتعيدوا إلى مصر المديريات التي تحفظ لها كيانها، والتي لم ترتد عنها إلا وقتيا بسبب المركز المشئوم التي كانت فيه. وبهذا قد اكتسبتم فخرا جديدا تعترف لكم به مصر.
ومع تكرار شكرنا أرجو أن تتقبلوا ... إلخ ...
الإمضاء
مصطفى فهمي
ملحق3 لرقم4: من بطرس باشا غالي إلى لورد كرومر
القاهرة في 9 أكتوبر سنة 1898
عزيزي اللورد
إن سعادة السردار قد أنبأ عطوفة مصطفى فهمي باشا بأنه لما صعد إلى فاشودة لكي يعيد سلطة سمو الخديو إلى محافظات ومديريات السودان القديمة، وجد هناك حملة فرنسية، فطلب منها أن تغادر المكان، فلما لم يقبل طلبه احتج على استباحة حمى الأراضي المصرية شفويا في أول الأمر، ثم كتابة بعد ذلك، وقد رفع العلم المصري وعين مديرا.
إن حكومة الجناب العالي - كما هو معروف لسيادتكم - لم تغفل قط عن استعادة مديريات السودان التي هي المصدر الفعلي لحياة مصر، ولم تنسحب منها إلا لظروف قاهرة. ففتح الخرطوم لا يكون له مزية إلا إذا كان وادي النيل الذي ضحت مصر في سبيله تضحيات جمة، يرجع برمته إلى حوزتها.
ولما كنا عالمين بأن فاشودة الآن هي موضوع محادثات بين بريطانيا العظمى وفرنسا، فقد كلفتني الحكومة المصرية أن أرجو سيادتكم السعي بما لكم من النفوذ لدى لورد سلسبري؛ ليعاون مصر على الاعتراف بحقوقها التي لا نزاع فيها، حتى يتم لها استرداد جميع المديريات التي كانت مستولية عليها قبل قيام المهدي بثورته.
وإني إذ أرسل إلى سيادتكم مع هذا نسخة من رسالة سعادة السردار، وأخرى من إجابة عطوفة مصطفى فهمي باشا، أنتهز ... إلخ ...
الإمضاء
بطرس غالي
الخلاصة
بالتأمل في الوثائق السالفة يتبين أن الساسة البريطانيين كانوا معترفين ومسلمين بكامل حقوق مصر في السودان قبل وبعد استعادته. وإن رفع العلم المصري فوق فاشودة على مرأى من مارشان وفرقته، وتحية الجنود البريطانية المرافقة للسردار هربرت كتشنر لهذا العلم، هذا وحده حجة دامغة بيد مصر على الاعتراف والتسليم بحقوقها في هذا الإقليم. وإن أمر استعادته أو فتحه - على ما يسميه الإنجليز - إنما شرع فيه أيضا وتم من أجل مصر فقط، لا سيما أن هذا حدث كله بعد واقعة كرري النهائية التي كانت الفصل الأخير في رواية سقوط حكم الدراويش، وعودة السودان إلى مصر.
ثم إن المراسلات التي تبادلها الوزيران المصريان مع معتمد بريطانيا العام في مصر لها أهمية خاصة، من حيث حفظ حقوق مصر؛ إذ لم يكن في استطاعة وزير مصري أن يقدم على مثل هذه الكتابة لو لم يوعز إليه من المعتمد البريطاني بها. وهنا أيضا أمر آخر جدير بالاعتبار، وهو أن المعتمد البريطاني تسلم الكتابين ولم يبد منه أي امتعاض أو احتجاج، ثم بلغ فحواهما إلى حكومته.
فهذا المسلك فيه ما فيه من اعتراف صريح بحقوق مصر ومطالبها. وهي تنحصر في أن السودان جزء متمم لمصر غير قابل للانفصال عنها.
الدور الخامس
اتفاقية 19 يناير سنة 1899
بين مصر وإنجلترا
ندون فيما يلي نص اتفاقية السودان التي عقدت بين مصر وإنجلترا في 19 يناير سنة 1899م، وها هو نقلا عن جريدة الوقائع المصرية، العدد الخاص الصادر في يوم الخميس 7 رمضان سنة 1316ه/19 يناير سنة 1899م، القسم الرسمي:
وفاق
بين حكومة جلالة ملكة الإنجليز وحكومة الجناب العالي خديو مصر بشأن إدارة السودان في المستقبل
حيث إن بعض أقاليم السودان التي خرجت عن طاعة الحضرة الفخيمة الخديوية قد صار افتتاحها بالوسائل الحربية والمالية، التي بذلتها بالاتحاد حكومتا جلالة ملكة الإنجليز والجناب العالي الخديوي.
وحيث قد أصبح من الضروري وضع نظام مخصوص لأجل إدارة الأقاليم المفتتحة المذكورة وسن القوانين اللازمة لها بمراعاة ما هو عليه الجانب العظيم من تلك الأقاليم من المتأخر وعدم الاستقرار على حال إلى الآن، وما تستلزمه حالة كل جهة من الاحتياجات المتنوعة.
وحيث إنه من المقتضى التصريح بمطالب حكومة جلالة الملكة المترتبة على ما لها من حق الفتح، وذلك بأن تشترك في وضع النظام الإداري والقانوني الآنف ذكره، وفي إجراء تنفيذ مفعوله وتوسيع نطاقه في المستقبل.
وحيث إنه تراءى من جملة وجوه أصوبية إلحاق وادي حلفا وسواكن إداريا بالأقاليم المفتتحة المجاورة لهما.
لذلك قد صار الاتفاق والإقرار فيما بين الموقعين على هذا بما لهما من التفويض اللازم بهذا الشأن على ما يأتي، وهو:
المادة الأولى:
تطلق لفظة السودان في هذا الوفاق على جميع الأراضي الكائنة إلى جنوبي الدرجة الثانية والعشرين من خطوط العرض وهي:
أولا:
الأراضي التي لم تخلها قط الجنود المصرية منذ سنة 1882 أو ...
ثانيا:
الأراضي التي كانت تحت إدارة الحكومة قبل ثورة السودان الأخيرة، وفقدت منها وقتيا، ثم افتتحتها الآن حكومة جلالة الملكة والحكومة المصرية بالاتحاد، أو ...
ثالثا:
الأراضي التي قد تفتتحها بالاتحاد الحكومتان المذكورتان من الآن فصاعدا.
المادة الثانية:
يستعمل العلم البريطاني والعلم المصري معا في البر والبحر بجميع أنحاء السودان، ما عدا مدينة سواكن فلا يستعمل فيها إلا العلم المصري فقط.
المادة الثالثة:
تفوض الرئاسة العليا العسكرية والمدنية في السودان إلى موظف واحد يلقب «حاكم عموم السودان»، ويكون تعيينه بأمر عال خديوي بناء على طلب حكومة جلالة الملكة، ولا يفصل عن وظيفته إلا بأمر عال خديوي يصدر برضاء الحكومة البريطانية.
المادة الرابعة:
القوانين وكافة الأوامر واللوائح التي يكون لها قوة القانون المعمول به، والتي من شأنها تحسين إدارة حكومة السودان، أو تقرير حقوق الملكية فيه بجميع أنواعها وكيفية أيلولتها والتصرف فيها، يجوز سنها أو تحويرها أو نسخها من وقت إلى آخر بمنشور من الحاكم العام، وهذه القوانين والأوامر واللوائح يجوز أن يسري مفعولها على جميع أنحاء السودان، أو على جزء معلوم منه، ويجوز أن يترتب عليها صراحة أو ضمنا تحوير أو نسخ أي قانون، أو أي لائحة من القوانين أو اللوائح الموجودة.
وعلى الحاكم العام أن يبلغ على الفور جميع المنشورات التي يصدرها من هذا القبيل إلى وكيل وقنصل جنرال الحكومة البريطانية بالقاهرة، وإلى رئيس مجلس نظار الجناب العالي الخديوي.
المادة الخامسة:
لا يسري على السودان أو على جزء منه شيء ما من القوانين أو الأوامر العالية، أو القرارات الوزارية المصرية التي تصدر من الآن فصاعدا، إلا ما يصدر بإجرائه منها منشور من الحاكم العام بالكيفية السالف بيانها.
المادة السادسة:
المنشور الذي يصدر من حاكم عموم السودان ببيان الشروط التي بموجبها يصرح للأوروبيين من أية جنسية كانت بحرية المتاجرة أو السكنى بالسودان، أو تملك ملك كائن ضمن حدوده، لا يشمل امتيازات خصوصية لرعايا أية دولة أو دول.
المادة السابعة:
لا تدفع رسوم الواردات على البضائع الآتية من الأراضي المصرية حين دخولها إلى السودان، ولكنه يجوز مع ذلك تحصيل الرسوم المذكورة على البضائع القادمة من غير الأراضي المصرية، إلا أنه في حالة ما إذا كانت تلك البضائع آتية إلى السودان عن طريق سواكن أو أية مينا أخرى من مواني ساحل البحر الأحمر، لا يجوز أن تزيد الرسوم التي تحصل عليها عن القيمة الجاري تحصيلها حينئذ على مثلها من البضائع الواردة إلى البلاد المصرية من الخارج. ويجوز أن نقرر عوائد على البضائع التي تخرج من السودان بحسب ما يقدره الحاكم العام من وقت إلى آخر بالمنشورات التي يصدرها بهذا الشأن.
المادة الثامنة:
فيما عدا مدينة سواكن لا تمتد سلطة المحاكم المختلطة على أية جهة من جهات السودان، ولا يعترف بها فيه بوجه من الوجوه.
المادة التاسعة:
يعتبر السودان بأجمعه - ما عدا مدينة سواكن - تحت الأحكام العرفية، ويبقى كذلك إلى أن يتقرر خلاف ذلك بمنشور من الحاكم العام.
المادة العاشرة:
لا يجوز تعيين قناصل أو وكلاء قناصل أو مأموري قنصلاتات بالسودان، ولا يصرح لهم بالإقامة به قبل المصادقة على ذلك من الحكومة البريطانية.
المادة الحادية عشرة:
ممنوع منعا مطلقا إدخال الرقيق إلى السودان أو تصديره منه، وسيصدر منشور بالإجراءات اللازم اتخاذها للتنفيذ بهذا الشأن.
المادة الثانية عشرة:
قد حصل الاتفاق بين الحكومتين على وجوب المحافظة منهما على تنفيذ معاهدة بروكسل المبرمة بتاريخ 2 يوليو سنة 1890، فيما يتعلق بإدخال الأسلحة النارية والذخائر الحربية والأشربة المقطرة أو الروحية وبيعها أو تشغيلها.
تحريرا بالقاهرة في 19 يناير سنة 1899
الإمضاءات
كرومر
بطرس غالي
ومن تلاوة هذه الاتفاقية يتبين أن نصوصها مبهمة جدا، وأنه من الممكن تأويلها بوجوه كثيرة، لا سيما إذا كان أحد المتعاقدين قويا لدرجة أنه يستطيع بقوته أن يضع الآخر تحت وصايته رغم إرادته.
وكان لحسن حظنا أن اللورد كرومر - وهو الواضع الأصلي لهذه الاتفاقية - يكشف لنا في تقريره عن مصر والسودان عام 1900م الغطاء عن الغموض الذي بالاتفاقية المذكورة؛ فقد جاء بالكتاب الأزرق عن مصر عام 1901، ج1، ص4، في هذا التقرير الذي رفعه إلى حكومته بصفته المعتمد السياسي لها، وقنصلها العام في مصر عن المالية والإدارة والحالة العمومية فيها وفي السودان ما يأتي:
لاحظت فيما أبداه مجلس شورى القوانين من الملاحظات أثناء النظر في ميزانية السنة الحالية، أن المجلس المذكور يوافق على المصروفات المقدرة لحكومة السودان؛ لأن الأعضاء يعتبرون تلك البلاد «جزءا من كيان مصر لا يتجزأ»، وهذا الرأي وإن كان صحيحا في الجوهر إلا أن نظام الحكم في السودان مقيد بنصوص الاتفاقية المبرمة بين مصر وبريطانيا العظمى في 19 يناير سنة 1899.
وحيث إنه من الجائز أن يكون بعض أعضاء هذا المجلس غير محيط بمرمى هذه الوثيقة إحاطة تامة، فأنتهز هذه الفرصة لأبين أنها لم تبرم لرغبة في النفس، أو لغرض انتقاص حقوق مصر الشرعية. فأغراض واضعيها الأصلية كانت أولا توطيد أركان حكومة صالحة لشعب السودان. ثانيا؛ وقاية هذه البلاد من الارتباكات الخاصة التي خلقها في مصر نظام دولي - أي الامتيازات - ولا يجهل أعضاء المجلس - على ما أظن - ما تؤدي إليه هذه الارتباكات من شتى العراقيل.
وقد لاحظت أيضا أن المجلس المذكور يطلب تبليغه تفاصيل إيرادات حكومة السودان ومصروفاتها. ومن البين أنه لا يمكن أن نعارض في إجابة مثل هذا الطلب الحق؛ ولذلك عنيت بتلبيته، وأرسلت إلى المجلس المشار إليه ميزانية حكومة السودان عن السنة الحالية. ا.ه.
وجاء أيضا في تقريره الذي رفعه إلى حكومته عن المالية والإدارة، والحالة العمومية في مصر والسودان سنة 1902 (الكتاب الأزرق عام 1903، ج1، ص15) ما يأتي:
ولقد سئلت مرارا لماذا لا تتحمل الخزينة الإنجليزية قسما من النفقات اللازمة لإدارة البلاد ما دامت الراية الإنجليزية تخفق عليها بجانب الراية المصرية، وهو سؤال في محله ولكن الجواب عليه بسيط جدا عند جميع الذين يعرفون تاريخ الاتفاقية المعقودة في 19 يناير سنة 1899. وبموجب موادها منح السودان مركزا سياسيا خاصا. وهو أن تلك الاتفاقية وضعت خاصة لتلخيص السودان ومصر أيضا في إدارة شئون السودان من القيود الدولية المشوشة التي آلت إلى كثير من الاختلاط والارتباك في الإدارة المصرية. ولولا هذا الاعتبار ما كان هناك داع من الوجهة الإنجليزية يدعو إلى رفع الراية الإنجليزية على الخرطوم أكثر مما يدعو إلى رفعها على أسوان أو طنطا. ا.ه.
ويتضح بجلاء تام من الشروح التي ذكرها لورد كرومر فيما تقدم أن حقوق مصر في السودان ظلت معتبرة ومصونة رسميا حتى بعد توقيع الاتفاقية. وهذه التصريحات لها قيمتها الخاصة لأنها صادرة من الواضع الأصلي لهذه الاتفاقية، وهو أدرى وأجدر بتفسيرها بلا نزاع، وبتبديد ما في نصوصها وعباراتها من اللبس والإبهام. ومن غير الجائز أيضا أن نظن لحظة واحدة أن اللورد كرومر أقدم من تلقاء نفسه على هذه التفسيرات بدون موافقة حكومته. وبناء على ذلك تعتبر تفسيراته السابقة لتلك الاتفاقية اعترافا رسميا من جانب الحكومة البريطانية بحقوق مصر في السودان.
فهل كانت إنجلترا يا ترى مخلصة في تصريحاتها أم كانت تبديها لتغري الوزراء المصريين على توقيع الاتفاقية، ولتدع الرأي العام في مصر يتخيل أن حقوقه ظلت باقية في الحفظ والصون.
ولكن يؤخذ من جميع ما حدث بعد ذلك أن الفكرة الأخيرة هي الأقرب إلى الصواب، فشتان بين ما يقوله لورد كرومر وما هو واقع في الحقيقة ونفس الأمر. وليس أدل على ذلك من إخراجنا من السودان قسرا حتى أصبحنا: (1)
غير مسموح لحكومتنا المصرية أن تخاطب حاكم السودان العام رأسا، والحال أنه معين بمرسوم من جلالة ملك مصر. (2)
ولا يجوز لمصري منا أن يدخل السودان إلا بعد قيامه بإجراءات رسمية معينة وحصوله على جواز بذلك، كما لو كان مسافرا إلى الروسيا أو الصين تماما، والله وحده يعلم كم من عقبات تعترض طريقه قبل حصوله على هذا الجواز. (3)
وليس لأبنائنا المصريين المقيمين في السودان الحق في دخولهم مدارس حكومة السودان، حتى لو كان آباؤهم من موظفي هذه الحكومة.
ويظهر أن الصفة التي لمصر في هذه الشركة تنحصر في أن تدفع الأموال لتحسين هذا الإقليم، وتريق دماء أبنائها في سبيل استعادته. وكل ذلك لتنتفع إنجلترا وتنافسنا فيما نزرعه من قطن، وتضع يدها على موارد المياه التي تروي حقولنا حتى تكون أرواحنا في قبضة يدها!
فلتعلم إنجلترا أن هذه جميع الأمور لا ترضينا؛ لأنها ليست من مصلحتنا في شيء، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تجد بين المصريين من يقبلها.
الخلاصة
إن شروط الاتفاقية الإنجليزية المصرية يكتنفها الكثير من الغموض؛ ولذا يمكن تأويلها بوجوه كثيرة لا سيما إذا كان أحد المتعاقدين من القوة بحيث يرغم الآخر على البقاء تحت وصايته.
ويعود فضل معرفتنا الغرض من عقدها إلى لورد كرومر الواضع الأصلي لها، فقد قال في شروحه عليها إن هذه الاتفاقية إنما عقدت للتخلص من التدخل الدولي، وإن ما رآه مجلس شورى القوانين من أن السودان جزء من مصر لا يتجزأ، هو رأي صحيح.
ولكن من سوء الحظ أن هذه النظريات مهملة وغير معمول بها الآن، والسودان بالحالة الراهنة أصبح مستعمرة بريطانية محرما دخوله على المصريين. على أن مصر لا تستطيع بعد ما بذلته من دم ومال في سبيل استعادة السودان أن تقبل بحال من الأحوال الانفصال عنه؛ إذ هو جزء مكمل لأراضيها ولا حياة لها بدونه.
الخاتمة
اضطرمت ثورة المهدي قبل وقوع الاحتلال البريطاني لمصر، وصادفت نجاحا في بدء الأمر لما كان عليه حاكم السودان العام في ذلك العهد - وهو رءوف باشا - من ضعف وقصور، ولكن الحالة تغيرت على أثر تعيين عبد القادر باشا في هذا المنصب؛ بسبب ما أبداه هذا القائد البارع من المقدرة في التصرف بقوات البلاد المحلية التي كانت لديه. ولو ساعدته المقادير وأرسل إليه الجيش الذي أرسل إلى هكس باشا فيما بعد وعدده 15000 جندي، لتمكن بلا ريب من إخماد الثورة في وقت قصير، ونشر الأمن في أرجاء السودان.
ولكن حدث إذ كان النصر حليف عبد القادر باشا أن احتلت بريطانيا القطر المصري، وبالرغم من أن الحكومة البريطانية أعلنت زهدها في السودان، وأكدت أن لا مطمع لها فيه، ولا شأن لها فيما يجري في أنحائه، وأنها لا تريد أن تتدخل في أموره. نعم، حدث أنها مع ذلك تدخلت بكيفية فعالة، آل الأمر بعدها إلى استدعاء عبد القادر باشا وإحلال هكس باشا محله يعاونه طائفة من الضباط البريطانيين كهيئة أركان حرب. ولقد قيل حينئذ إن الحكومة المصرية كانت مستقلة فيما صنعت تمام الاستقلال، وأنها فعلت ذلك بمجرد مشيئتها، وبغير أي إيعاز أو تدخل من الحكومة البريطانية، ولكن هذ ا الزعم لا ينطبق على الواقع، ولا يمكن أن يقبله من عنده مسكة من عقل؛ فإنه لم يحدث قط أن أمة استدعت قائدها المظفر، ولنا فيما ضربته الحكومة البريطانية من مثل دليل بين على ما نقول، فإنها لا تعزل قوادها وإن أخفقوا كما كان الأمر في حرب البوير، فكيف جاز لمصر إذن أن تسحب قائدها المنتصر - وهو من أبنائها - لكي تولي مكانه قائدا أجنبيا؟
ولقد كان من نتيجة هذا التبديل تلك الحملة الطائشة التي جردت على كردفان، وكان من جرائها هلاك الجيش وحمل إنجلترا لنا عن التخلي عن السودان، وهو الأمر الذي كانت تطمع فيه منذ مدة طويلة؛ كي يتسنى لها أن تغتصب هذه البلاد من أيدينا كما وقع الآن. فلقد كانت إنجلترا تنظر على الدوام بعين السخط إلى توسع مصر في إفريقية ولا سيما في المناطق الاستوائية، وها هي شهادة رجل لا يمكن أن تكون أقواله موضع أية ريبة ، ألا وهو القس فلكن
Rev. Felkin
الذي يقرر في صفحة 324، ج1 من كتابه «أوغندة والسودان المصري
Uganda
and the Egyptian Sudan » ما يأتي:
مما يستوجب الأسف أن سلطة هذا الطاغية - أي كباريجا ملك أنيورو - لم يقض عليها كما كان سيحصل منذ مدة لو لم تقم تلك المعارضة الشديدة التي أثارها في إنجلترا أناس يتطلعون بعين الغيرة إلى توسع مصر في أملاكها، ولكن في استطاعتي أن أؤكد يقينا أن أهالي الجهات المحكومة من تلك البلاد بالسلطة المصرية - حيث يدير دفة الحكومة فيها الآن مدير مديرية خط الاستواء - هم أحسن حالا بكثير من أمثالهم المحكومين بملوك منهم من الهمج المستبدين غلاظ القلوب فظاظ الطباع. ا.ه.
هذه أقوال باحث نشرت في سنة 1878 قبل ثورة المهدي وقبل الاحتلال البريطاني لمصر، وهي دليل ناطق على أن حكمنا في السودان لم يكن مشوبا بالسيئات التي ينسبها إليه المغرضون.
ولقد رأيت إنجلترا بعد نكبة هكس باشا أن ترغمنا على ترك السودان، فلما الوزارة المصرية أن توافق على ذلك جابهتها الحكومة البريطانية بتصريح إرل جرانفيل الذي وضع فيه مبدأه المشهور، وهو أنه ما دام الاحتلال البريطاني بمصر فإن كل نصيحة - وهي بالفعل أمر - يجب الإصغاء إليها، وإلا فعلى من يخالفها من الموظفين أن لا يستمر في منصبه، وهكذا صارت مصر في الواقع بهذا التصريح تحت وصاية إنجلترا، أو أصبحت إنجلترا مسئولة عن كل ما حدث وما يحدث، ما دام الاحتلال البريطاني باقيا. وبناء عليه يقع على عاتقها تبعة تعيين هكس باشا وضياع السودان.
ولما كانت مديرية خط الاستواء ما زالت تقاوم بقيادة أمين باشا، وكانت بقعة مطموعا فيها أشد الطمع، أصبح من الأمور الهامة التعجيل بسحب أمين باشا من هناك؛ حتى تعد بعد رحيله عنها من الأراضي المهجورة التي ليس لها مالك. وبذلك تستطيع الحكومة البريطانية أن تستولي عليها، وتعتبرها من الممتلكات البريطانية وفاقا للشرط الذي وضعته بخصوص حالة كهذه في الاتفاقية الإنجليزية المصرية الموقعة في 19 يناير سنة 1899م.
ومن أجل ذلك جهزت حملة قرصانية بقيادة أفاق اسمه استانلي، وغرضها الظاهر خدمة الإنسانية بإنقاذ أمين باشا ورجاله، أما الغرض الخفي أو الحقيقي فكان إقصاء أمين باشا عن تلك الجهات؛ لأنه كان يمثل السلطة المصرية فيها، وإبقاء رجاله في تلك البقاع حتى تستخدمهم بريطانيا بعد ذلك في الاستيلاء لها على ذلك الإقليم. وقد حصل ذلك بالفعل فيما بعد. أما وزراؤنا في ذلك الوقت فقد تبرعوا بمبلغ كبير من نفقات هذه الحملة، وعاونوها بكل ما في استطاعتهم من قوة. وقد فعلوا كل هذا إما عن حماقة وإما عن شهوة قوية للبقاء في مناصبهم. وأخيرا نالت هذه الحملة مأربها وعادت ومعها أمين باشا دون رجاله. أما بريطانيا فقد جندت هؤلاء الرجال لخدمة مطامعها، وقد كان أن استولوا لها على تلك النواحي.
على أنه في مناسبات متعددة صرح السياسيون البريطانيون دائما بأن السودان جزء من مصر لا يتجزأ. وها هو سير إ. غراي يقول في الخطبة التي ألقاها في مجلس العموم بتاريخ 28 مارس سنة 1895 ما يأتي:
وهناك غير ذلك مسألة حقوق مصر، «فموقف إنجلترا أمام مصر موقف خاص، يشبه موقف أمين اؤتمن على وديعة، وهذا فيما يختص بحفظ مصالحها»، وهذه الحقوق لم نؤيدها نحن فقط، بل أيدتاها أخيرا حكومة فرنسا كذلك.
ونحن نقول: إن هذا يؤيد كل التأييد ما ورد في تصريح إرل جرانفيل الذي وضعت مصر بعده تحت وصاية إنجلترا.
ومما يستدعي الالتفات أيضا أن هذا القول يؤكد من جهة الحكومة البريطانية أكثر مما تؤكده الحكومة الفرنسية ما لمصر من حقوق وامتيازات معترف بها؛ فإن سير إ. غراي يعترف بأن «إنجلترا تقف إزاء مصر موقفا خاصا، هو موقف المؤتمن على وديعة»، ومعنى هذا بعبارة أخرى: أن مصر أمانة مقدسة أودعت في يد إنجلترا لحفظها وصونها، ويقضي شرف إنجلترا عليها أن تردها كاملة للمالك وهو مصر. ولا يصح أن إنجلترا تطالب فرنسا باسم مصر احترام هذه الحقوق لكي تغتصبها هي لنفسها، كما يفعل بالضبط الوصي الخائن الذي يسلب لنفسه مال القاصر الموضوع تحت وصايته. ولسنا نعتقد أن مسلكا كهذا يتفق مع كرامة دولة كبيرة وشرفها كدولة بريطانيا العظمى ؛ إذ تتصرف هذا التصرف. وإننا على يقين أنه متى عرف الرأي العام البريطاني جميع هذه التفاصيل، فإنه يكون أول من يبرأ إلى الله من أفعال رجاله من أهل السياسة.
ولما استقر الرأي على استعادة السودان صدر الأمر بذلك، حتى يكون للإنجليز السبق على الحملة الفرنسية في الاستيلاء عليه، وهاك ما قد تم على أيدينا: (1)
فنحن الذين قدمنا ثلثي القوة المحاربة. (2)
ونحن الذين أنشأنا السكة الحديدية بأيدي جنودنا، ولم يكن ليتم أي فتح بدون هذه السكة التي لم يضع جندي بريطاني واحد يده على الإطلاق في تشييدها. (3)
ونحن الذين قمنا بأكثر من ثلثي النفقات، وهذا غير ما دفعناه من جميع مقادير العجز؛ كي تتوازن الميزانيات السودانية. (4)
ونحن الذين شيدنا بمالنا ورجالنا جميع المباني الفاخرة التي ترى اليوم في الخرطوم. (5)
ونحن الذين قدمنا كذلك في أوائل عهد استعادة السودان جميع الموظفين لتنظيم الإدارة في البلاد. (6)
وقد كانت جنودنا تمشي على الأقدام الطريق بأكمله إلى الخرطوم، بينما كانت الجنود البريطانية تنتقل كل مرة بلا استثناء من ميدان إلى ميدان إما بالسكة الحديدية أو بالبواخر النيلية. وحاشا أن نذكر ذلك بقصد التنديد بمقدرة الجندي البريطاني أو الاستخفاف بصفاته الحربية؛ إذ إن الجندي البريطاني - فيما نرى - من أحسن الجنود في العالم من حيث القوة على الثبات والبسالة في ساحة الحرب. وكل ما نقصد هو أن نبين أن جنودنا قاست من المكاره أكثر مما تحملته الجنود البريطانية، وأن بلادنا من أجل ذلك كانت تستحق نصيبا أوفر في البلاد التي اكتسبت بحق الفتح المشهور. (7)
ولم تكن غلطاتنا هي التي أوقعتنا في جميع هذه المحن، وإنما هي إنجلترا التي كانت سببا فيها؛ لأنها اضطرتنا أن نقبل ضباطها وأن نسير على الخطط التي رسموها، ثم بعد ذلك كله أخرجتنا بقضنا وقضيضنا من البلاد كأنه ليس لنا أي حق فيها مطلقا أو أي امتياز بالكلية. وحين تم لها ما أرادت حولت السودان إلى مستعمرة بريطانية. وإذن فلماذا كنا نبذل هذا المال كله وهذه المجهودات جميعها وتلك الأرواح لاستعادة البلاد إذا كانت هذه هي النتيجة التي كنا ننتظرها من وراء ذلك كله. أكان هذا منا لكي نوفر على إنجلترا جميع هذه الأمور؛ ولكي تنتفع بها على حسابنا؟
على أنها لو كانت استعادت السودان لحسابها هي وحدها، وبوسائل من عندها لما كانت الحالة لدينا غير ما هي عليه اليوم، ولما كانت شرا من هذه الحالة؛ إذ إنها ما دامت محتلة لمصر فلا يمكن أن تحاول على الإطلاق قطع موارد مياهنا عنا. والتفسير الوحيد لهذه الحالة والترضية المزعومة التي تقدمها لنا هي أن كل هذا تم في سبيل تأمين حدودنا الجنوبية وموارد مياهنا!
ولكن المصريين لا يمكنهم أن يقبلوا أي ضمان لسلامة حدودهم الجنوبية من أية دولة أجنبية أيا كانت هذه الدولة. وفي الحق أن هذه السلامة كانت أضمن في أيدي الدراويش؛ لأنهم لم يكن في استطاعتهم تشييد الأعمال التي تؤذينا في موارد مياهنا. وإذا كان المقصود هو إقصاء أية دولة أخرى فسيان عندنا أكانت هذه الدولة إنجلترا أم فرنسا أم غيرهما من الدول؛ لأن الدولة التي تكون لها السيادة في السودان تتحكم في حياة مصر؛ ولهذا فإن في تشبث إنجلترا بالسودان ورغبتها في امتلاكه دليلا على أنها تريد أن تسيطر على حياة مصر، وأن تبقي مصر في قبضة يدها وتحت سلطانها، وهو مسلك لا يمكن أن يعتبره أهل هذه البلاد إلا أنه عمل عدائي.
وكذلك تمسك إنجلترا بقناة السويس بحجة وقوعها في سلسلة مواصلاتها، مع أن لها طريقا آخر حول رأس الرجاء الصالح، وإذن فليست القناة أمرا حيويا صرفا بالنسبة لإنجلترا. أما نحن فأنى لنا الخيار، وليس لنا في هذا العالم كله سوى السودان والنيل، ومن ثم كانت حاجتنا إليهما من أعز الأمور الحيوية لنا أكثر من حاجة إنجلترا إلى قناة السويس. وهذا إذا تغاضينا عن الأمر الواقع وهو أن السودان كان جزءا متمما لبلادنا ومحتجا به كذلك من إنجلترا على الدول الأخرى، وأن واجب إنجلترا كان يقضي عليها بتطبيق المبدأ الذي ينطوي عليه هذا الاحتجاج على نفسها أيضا.
صحيح أن القيادة في الحملة التي استعادت السودان كانت لضباط من البريطانيين، وأن جنودا بريطانية كذلك بمقدار ثلث المجموع كانت في عديد القوة المقاتلة، ولكن لم يكن هذا كله إلا لأسباب سياسية، وقد فرض علينا قبوله حتى تستفيد الحكومة البريطانية بحقوق الفتح، كما لجأت إلى ذلك فيما بعد. ومع هذا فإن كنا نعجز عن تدريب وتنظيم حملة كهذه، فلقد كان من الميسور لنا أن نستخدم ضباطا من الإفرنج من أية دولة أخرى، وهم كانوا يقومون بهذا العمل لمصلحتنا بالثمن الذي دفعناه إلى الضباط البريطانيين، على أنه ما كان يكون هناك مسألة فتح لو تركنا وشأننا من أول الأمر؛ لأن السودان ما كان ليضيع لو ظلت الأمور بأيدينا.
وننشر فيما يلي الفقرة الآتية عن ص120 و121 من كتاب «السودان الإنجليزي المصري» لمؤلفه سير هرلد مك ميكل المطبوع بلندن عام 1934
The Anglo-Egyptian Sudan, P. 120-121, London, 1934, by Sir Harold Mac Michael
وهي شاهد في المنزلة الأولى من صدق البينة على ما قام به الجيش المصري من الأعمال في السودان إبان الحرب العظمى:
لقد يكون من الجائز أن نقتطف ما يأتي من كتاب «الإمبراطورية في حالة حرب» تأليف سير تشارلس لوكاس
Sir Charles Lucas :
لما نشبت الحرب سلم أمر تأمين الدفاع عن كيان مصر إلى أيدي جيش الاحتلال البريطاني، وفي الوقت نفسه تحمل الجيش المصري بمؤازرة الحامية البريطانية الصغيرة المعسكرة في الخرطوم جميع مسئولية الدفاع عن سلامة السودان والأمن فيه. ولقد بات معلوما مقدار ما أصابه الجيش المصري من النجاح الباهر في ضبط الحكم في السودان، والمحافظة عليه من أي اعتداء، ولكن أعماله لم تنحصر في داخل حدوده، بل تجاوزتها إلى مناطق بالقرب منها؛ ففي زمن الحرب عاونت جنود السودان معاونة فعلية في شرق إفريقية وأوغندة وإفريقية الاستوائية الفرنسية. ولقد ساهم الجيش المصري كذلك في الدفاع عن قناة السويس، وفي الحملة التي حاربت السنوسيين، وفي المحافظة على النقط العسكرية في شبه جزيرة سيناء، وأرسلت أورطة منه إلى الدردنيل في سنة 1915 لحفر الخنادق وتشييد الأسوار، وغيرها من أعمال التحصين، وفي فلسطين في سنتي 1917 و1918 لعبت وحدات من هذا الجيش دورها، كما أدى عمال الفيلق المصري للنقل الأعمال التي نيطت بهم في تلك البقاع، ووضعت مخازن الجيش المصري للمؤن والذخائر والمهمات، وكذلك قسم المستشفيات تحت تصرف السلطات الحربية البريطانية. ثم إن إدارة السكة الحديدية السودانية بعثت بالقاطرات والعربات إلى فلسطين، كما أن حكومة السودان أعارت الأميريالية البريطانية مركبها الحربي للقيام بأعمال الحراسة في البحر الأحمر.
وفوق ما ذكرنا فقد استعاد الجيش المصري دارفور في سنة 1916، وكانت هذه آخر مديرية سودانية لم تسترد بعد، وكان استرجاعها الحادث الختامي للأعمال الحربية، ولما لم يكن هناك أية حاجة إلى جيشنا - لأنه قام بما كان مطلوبا منه - أخرج من البلاد عندما لاح عذر يمكن التعلل به لإخراجه منها. ا.ه.
فعلى الحكومة البريطانية أن تعلم أنه لا يمكن أن يكون هناك أية صداقة بين الأمتين ما دامت حقوق مصر في السودان لا ترد إليها، وإن كان من سوء الحظ أنها تستطيع أن تجد دائما في المصريين طائفة مولعة بشغل المناصب الوزارية والبقاء فيها، وفي سبيل ذلك يقبلون أن يوقعوا كل ما يعرض عليهم من إنجلترا. ولكن كل اتفاق موقع عليه منهم يستحيل أن يوافق عليه برلمان مصري منتخب انتخابا حرا.
Shafi da ba'a sani ba