لقد حدثت في القرن الثامن عشر أزمة شديدة مهمة للمسألة الشرقية هي الحرب بين الدولة العلية والروسيا التي طالت من أواخر عام 1768 إلى أوائل عام 1775، وهذه الأزمة كانت شديدة غزيرة النتائج، وأصلا لتداخل أوروبا في أمور الدولة العثمانية باسم الدين.
وقد كانت الروسيا حليفة للبروسيا في ذلك العهد محالفة أمضى عليها فريدريك الكبير ملك بروسيا وكاترينا إمبراطورة الروسيا يوم 11 أبريل سنة 1764، وكان أجلها ثماني سنوات، وسبب تداخل البروسيا في المسائل الشرقية هو تحالفها مع الروسيا نحو قرن، وداعية هذا التحالف هي العداوة الشديدة التي كانت بين النمسا والبروسيا في ألمانيا، وبين النمسا والروسيا في مسائل الشرق، وقد كان يعقد أحيانا اتفاق بين تلك الدول الثلاث، ولكن العداوة بقيت طويلا - بالرغم عن هذه - شديدة بينها وبين بعضها.
ومن أسباب تحالف الروسيا والبروسيا غير ما ذكرناه: اشتراكهما في المصلحة ضد بولونيا التي كانت جمهورية وقتئذ، وفي حالة من الفوضى عظيمة، وقد كان يروق للروسيا والبروسيا بقاء نفوذهما قويا في بولونيا، والعمل على زيادة الفوضى فيها؛ لتتمكنا من تقسيمها، والاستيلاء عليها.
وكان قد عقد بين فرنسا والنمسا عام 1756 تحالف يضمن للنمسا مساعدة فرنسا الحربية والسياسية في كل أوروبا، ويضمن لفرنسا عدم تداخل النمسا ضدها في حالة قيام الحرب بينها وبين إنكلترا، وقد حصل وقتئذ أن «أوجست الثالث» ملك جمهورية بولونيا توفي، وأرادت الروسيا بالاتفاق مع البروسيا أن تعين بدلا عنه «ستانيسلاس أوجست بونياتووسكي» الذي كان محبوبا عند كاترينا إمبراطورة الروسيا وعاشقا من أكبر عشاقها، وكانت ترمي الروسيا بهذا التعيين إلى إلقاء بذور الشقاق والشحناء بين البولونيين، وإحداث الاضطرابات في بلادهم بواسطة هذا الملك الجديد.
فعمل عندئذ الوطنيون البولونيون لدى الباب العالي مستغيثين به لإحباط مساعي الروسيا في تعيين «ستانيسلاس» ولكن سفيرا الروسيا والبروسيا بالآستانة بذلا ضد هؤلاء الوطنيين كل جهدهم.
وكان من صالح النمسا وفرنسا عدم نجاح الروسيا والبروسيا في مسعاهما لتعيين «ستانيسلاس» فحرضتا الدولة العلية ضد الروسيا والبروسيا، وأظهرتا لها فائدة تداخلها في صالح البولونيين، ولكن المرحوم السلطان «مصطفى الثالث» كان يعجب بفريدريك ملك البروسيا إعجابا زائدا، فلم يرض لذلك العمل ضده، سيما وأن تعيين «ستانيسلاس» كان لا يضر بمصالح الدولة مطلقا، فتم تعيين هذا الرجل ملكا لبولونيا يوم 7 سبتمبر سنة 1764.
وما استقر هذا الرجل على كرسي ملك بولونيا حتى خلق فيها المشاكل والاضطرابات طبقا لرغائب كاترينا، وسهل لها التداخل في شئونها الداخلية، فطلب عندئذ بتاريخ 25 نوفمبر من السنة نفسها سفيرا الروسيا والبروسيا من حكومة بولونيا جملة طلبات تخالف المصلحة البولونية، فرفضها مجلس نواب بولونيا، وكان رفضه هذا سببا لتداخل الروسيا، فدخلت بولونيا بجيوشها الجرارة، وأسالت الدماء، وأنحت على الكثيرين من الأبرياء، واستمرت الثورات في بولونيا تباعا، والعالم كله ناظر إليها بلا حراك، حتى بلغت الروسيا مرامها من هذه الديار التعسة، وصارت بولونيا مستقلة في الظاهر محكومة في الباطن بأهواء الروسيا وأغراضها.
وفي هذه الأثناء تعين المسيو «شوازيل» وزيرا لخارجية فرنسا، وكان ألد أعداء الروسيا، وعلى الخصوص كان عدوا شخصيا لكاترينا، فكتب إلى المسيو «دي فرجين» سفير فرنسا من الآستانة يأمره بعمل كل ما في سعته لخلق المشكلات بين الدولة العلية والروسيا، وأرسل إليه ثلاثة ملايين من الفرنكات؛ ليشتري بها ذمم بعض رجال الدولة، وكان الوطنيون البولونيون حين ذاك يستغيثون بالدولة ليلا ونهارا.
وحصل أن بعض قسوس الروسيا جاءوا بلاد الدولة، وأخذوا يهيجون أهالي اليونان وكريد والجبل الأسود باسم الدين، حاملين بأيديهم وعلى صدورهم الصليب، وقام وقتئذ قسيس اسمه «ستيفانو بيكولو» في شهر أكتوبر عام 1767 يدعو أهالي الجبل الأسود للقيام ضد المسلمين، فهاجت الأهالي هياجا شديدا.
فلما رأت الدولة ذلك، ووقفت على الفظائع العديدة التي جرت في بولونيا أنذرت الدولة الروسية بالخروج من بولونيا، فرفضت وكان ذلك سبب الحرب.
Shafi da ba'a sani ba