وغني عن البيان أن المسلمين في الدولة العلية متى رأوا فريقا من أخدانهم المسيحيين يعمل بأوامر الأجنبي عدوه خائنا للوطن العثماني، ناكثا لعهد الدولة العثمانية، أي عدوه دخيلا في الوطن والملة والدولة، ووجب عليهم العمل ضده بكل ما في استطاعتهم قياما بواجباتهم الوطنية، وهذا هو الشأن في أمم العالم، فلو فرضنا أن فريقا من الإنكليز قام يوما ما في إنكلترا بإحداث الاضطرابات والثورات تنفيذا لأوامر دولة أجنبية كالروسيا أو ألمانيا أو فرنسا؛ فأي واجب تحتمه الوطنية عندئذ على بقية الإنكليز؟ أليس القضاء على هؤلاء الخونة المنفذين لأوامر دولة أجنبية بكل الوسائل؟
القائمون بالثورات والاضطرابات في الدولة العلية خونة منفذون لأوامر أعداء الدولة، يجب على العثمانيين الصادقين إعلان العداء لهم، والانتقام منهم بكل ما في الجهد والاستطاعة.
ويستحيل الوصول كما قدمنا إلى الاتفاق السليم الصحيح بين المسيحيين والمسلمين في الدولة العثمانية إلا بإخلاص الجميع لها إخلاصا تاما.
هذه هي الحقيقة وحدها دون غيرها.
وإذا كان اختلاف الدين في الدولة العلية هو داء من أدوائها، بل هو أكبر أدوائها، فالدخلاء في الدولة العلية داء عضال، وبلية لا تعادلها بلية؛ فإن الذين كانوا سببا في هزيمة الدولة في حروب مختلفة هم الدخلاء، والذين ساعدوا الدسائس الأجنبية هم الدخلاء. فقد دخل في جسم الدولة العلية كثير من الأجانب نساء ورجالا، وغيروا أسماءهم بأسماء إسلامية، وعملوا على الارتقاء في المناصب حتى وصل بعضهم إلى أسماها، وصاروا من أقرب المقربين، فعرضوا بالدولة للدمار، وأطلعوا أعداءها على أسرارها، وقد انتشر الدخلاء في الزمن السالف إلى كل فروع الدولة العلية حتى في الجيش نفسه، وصارت لهم سلطة عظيمة ونفوذ كبير، وكنت تجد من وزراء الدولة العلية من يعمل لصالح الروسيا مدعيا أنه روسي السياسة، ومن يعمل لصالح إنكلترا مدعيا أنه إنكليزي السياسة، ولكن ليس منهم من كان عثماني السياسة.
ولولا أن الأمة العثمانية أمة حية قوية عظيمة الشهامة والوطنية، لكانت تلاشت اليوم بدسائس الدخلاء، ولو كان للدخلاء في دولة أخرى ما كان لهم في الدولة العلية من السلطة والحول، لكانت تقوض بنيانها وتداعت أركانها، وإن أعظم سلطان جلس على أريكة ملك آل عثمان، ووجه عنايته لإبطال مساعي الدخلاء، وتطهير الدولة من وجودهم، هو جلالة السلطان الحالي. فلقد تعلم من حرب سنة 1877 وما جرى فيها أن الدخلاء بلية البلايا في الدولة ومصيبة المصائب، فعمل بحكمته العالية على تبديد قوتهم، وتربية الرجال الذين يرفعون شأن الدولة، ويعملون لإعلاء قدرها، وقد برهنت الحرب العثمانية اليونانية على أن للدولة اليوم رجالا من أبنائها الصادقين، يخدمونها بالأمانة والوفاء، ويتفانون في محبتها، وأن ليس للدخلاء من سبيل لنوال مآربهم السيئة، فأمثال صاحب الدولة «أدهم باشا» الذي كان مجهول الاسم عند الكثيرين من العثمانيين قبل الحرب كثيرون في الدولة العلية، تظهرهم الحوادث وتعرفنا بهم وبقدرهم المشكلات.
وإن أغرب شيء في أحوال الدولة العلية وفي تاريخها يدهش أعداءها ويحير الكتاب الكارهين لها، هو بقاؤها حية بعد كل المصائب التي تساقطت عليها، والبلايا التي نزلت بها. فلقد رأت هذه الدولة العثمانية ما لم تره دولة من دول الأرض القديمة والحديثة، فقد كانت تتحالف معها بعض الدول كالنمسا مثلا، وتعمل وهي متحالفة معها على الاتفاق مع الروسيا على تقسيمها، وقد كانت تتظاهر إنكلترا لها بالصداقة والوفاء، وتسعى وهي متظاهرة كذلك على ضياع أملاكها من يدها وسقوطها في قبضتها، وقد كانت دول أوروبا كلها تجتمع وتتحد على ما تسميه بالمبدأ المقدس، مبدأ حماية استقلال الدولة العلية وسلامتها، ثم كانت هي بعينها تجزئ الدولة العلية باسم هذا المبدأ المقدس نفسه، وقد كان العاملون على تقويض أركان الدولة وحلها عديدين أقوياء، ومع ذلك كله لا تزال الدولة العلية حماها الله قوية ثابتة الأركان تخافها أقوى الدول، ويخطب ودها إمبراطور شهد العالم كله بقوته وعظمته وبأسه.
ولقد يندهش الإنسان غاية الاندهاش عندما يقرأ ما كان يكتب من نحو مائة وعشرين سنة عن الدولة العلية؛ فقد كان الكتاب والسياسيون يتناقشون في مشروعات تقسيمها، فالبعض كان يريد أن يؤسس مكان الدولة العلية «الاتحاد البلقاني»، والبعض الآخر كان يريد إعادة ملك بيزانتان، وكان سياسيو الروسيا والنمسا يتباحثون في مشروع تقسيم الدولة بين دولتيهما، فكل كان يضع مشروعا، والجميع كانوا متفقين على أن الدولة قصيرة الأجل، وأكثرهم أملا في حياتها كان يجود عليها في مشروعه بعشرة من السنين أو عشرين عاما، ولو بعث اليوم من القبور كتاب أواخر القرن الماضي وسواسه، ورأوا الدولة العلية قائمة عزيزة تحارب في أواخر القرن التاسع عشر، وتنتصر وتجتاز العقبات عقبة بعد عقبة، وتصرف المصائب مصيبة بعد أخرى؛ لكذبوا أعينهم وما صدقوا بالحقيقة.
ولكن الحقيقة هي أن بقاء الدولة العلية ضروري للنوع البشري، وأن في بقاء سلطانها سلامة أمم الغرب وأمم الشرق، وأن الله جل شأنه أراد حفظ بني الإنسان من تدمير بعضهم البعض ومن حروب دينية طويلة بحفظ سياج الدولة العلية وبقاء السلطنة العثمانية. فقد لاقت هذه الدولة العثمانية في حياتها الطويلة أخطارا هائلة كانت تكفي لتداعي بنيان أقوى الممالك، ومرت عليها ملمات كانت تندك لها الدول القوية والممالك القاهرة بدون أن تمس حياتها الحقيقية بسوء بل بقيت حية تدهش العالم بشبيبتها.
وقد أحس الكثيرون في أوروبا من رجال السياسة ومن رجال الأقلام أن بقاء الدولة العلية أمر لازم للتوازن العام، وأن زوالها - لا قدر الله - يكون مجلبة للأخطار أكبر الأخطار، ومشعلة لنيران يمتد لهبها بالأرض شرقها وغربها شمالها وجنوبها، وإن هدم هذه المملكة القائمة بأمر الإسلام يكون داعية لثورة عامة من المسلمين، وحرب دموية لا تعد بعدها الحروب الصليبية إلا معارك صبيانية.
Shafi da ba'a sani ba