وقد كان القيصر «نيقولا الأول» مؤملا قهر تركيا، ليس فقط بقوة جيوشه الجرارة، بل بفضل الاضطرابات والثورات التي كان يعمل عماله وصنائعه لإحداثها في الدولة العلية؛ فإن جملة من مهيجي اليونان قاموا في مقاطعة تساليا وأبيرا اللتين كانتا تحت حكم الدولة بتحريض الأهالي على العصيان في وجه الحكومة العثمانية، وساعدت الحكومة اليونانية وقتئذ هؤلاء المهيجين، وسمحت لعدد عديد من ضباطها وجنودها بالسفر سرا إلى تساليا وأبيرا؛ لنشر لواء الثورة بالفعل، وكان القيصر يحرض من جهة أخرى شاه العجم على محاربة الدولة العلية.
ولما كان أمل القيصر وطيدا في نجاح ثوار اليونان، والوصول إلى إحداث الاضطرابات في الدولة من كل جانب، أظهر لدول أوروبا ميله للسلم ورغبته في تسوية المسألة تسوية سلمية، وكان قصده بذلك إغفال الدولة العلية عن إتمام تجهيزاتها الحربية وإضعافها بالاضطرابات والثورات. وقد اغترت النمسا بتصريحات القيصر وحسبتها صادرة عن إخلاص، فجمعت سفراء الدول بفيينا ثانية في مؤتمر ، وقررت معهم في 5 ديسمبر سنة 1853 أمرين؛ الأول: المحافظة على استقلال الدولة العلية. والثاني: استقلال الحكومة العثمانية تمام الاستقلال في إدارتها وأعمالها الداخلية. وأرسلت النمسا مع هذا القرار مذكرة للباب العالي سألته فيها أن يخبر الدول في أقرب وقت على أي شروط يقبل المخابرة مع الروسيا في أمر الصلح.
ولكن جيوش الدولة كانت قد سارت تحت قيادة «عمر باشا» وهزمت الجنود الروسية هزيمة عظيمة اهتزت لها أوروبا كلها، وانتهت باسترجاع الدولة لمقاطعة الأفلاق الصغرى، وبإبعاد الجيوش الروسية من صربيا التي كان يجتهد الروسيون في تهييجها ضد الدولة. وفي آسيا أتى الجيش العثماني بقيادة «عبده باشا» ما أتاه مثيله بقيادة «عمر باشا» حيث دخل الأراضي الروسية، وهزم جنودها، واحتل قلعة «سانت نيقولا». فأزعجت القيصر هذه الانتصارات الباهرة، وانتقاما من تركيا أمر أسطوله بالبحر الأسود أن يدمر أسطولها، ففاجأه في ميناء «سينوب» وأرسل عليه نيرانه حتى دمره بعد مجهودات عظيمة.
فلما وصل خبر واقعة «سينوب» إلى المرحوم السلطان «عبد المجيد خان» أرسل إلى دولتي فرنسا وإنكلترا يسألهما إرسال أساطيلهما إلى البحر الأسود لحماية المواني العثمانية؛ فأجابت الحكومة الفرنساوية الطلب بدون إمهال، بخلاف الحكومة الإنكليزية فإنها تأخرت لعدم ميل «أبردين» رئيس الوزارة الإنكليزية إلى الحرب، وأمله في حل المسألة حلا سلميا. غير أن الرأي العام الإنكليزي كان ميالا إلى الحرب متهيجا ضد الروسيا، وكان «بالمرستون» وزير خارجية إنكلترا من أكبر أنصار الحرب، فقدم استعفاءه في 15 ديسمبر عام 1853 عندما رأى تأخر «أبردين» في إرسال الأساطيل الإنكليزية إلى البحر الأسود؛ فازداد تهيج الرأي العام الإنكليزي، واضطر «أبردين» إلى دعوة بالمرستون لسحب استعفائه والعودة للوزارة تاركا له قيادة السياسة الإنكليزية كما يرى ويشاء، فأرسل «بالمرستون» الأساطيل الإنكليزية إلى البحر الأسود حسب طلب الدولة العلية، وفي 27 ديسمبر أرسلت فرنسا وإنكلترا مذكرة مشتركة للروسيا أعلنتاها فيها بوجوب سحب مراكبها وسفنها من البحر الأسود، وبأن أساطيلهما داخلة إلى هذا البحر، وبأنهما تسمحان للدولة العلية بترك مراكبها وسفنها فيه، فكان الإعلان في الحقيقة إعلانا للحرب من فرنسا وإنكلترا على الروسيا، ولم ترض حكومتا الدولتين التصريح به علنا؛ لاشتغالهما بأمر إتمام التجهيزات الحربية.
كل هذه الحوادث كان من شأنها ازدياد حيرة النمسا، فعادت هذه الدولة مرة ثالثة إلى مخابرة الدولة العلية وبقية الدول في أمر منع الحرب، فطلبت من الدولة إيضاح الشروط التي تطلبها لعقد الصلح، فأجابتها الدولة بأن شروطها أربع؛ أولا: إعلان استقلال بلادها وأراضيها، وضمانة دول فرنسا وإنكلترا والنمسا والبروسيا لهذا الاستقلال. ثانيا: انجلاء العساكر الروسية من مقاطعتي الأفلاق والبغدان. ثالثا: تجديد الضمانات المقدمة من أوروبا للدولة في عام 1841. رابعا: احترام أوروبا كلها وفي مقدمتها الروسيا لاستقلال الحكومة العثمانية في كل أعمالها داخلية كانت أو خارجية.
فلما عرضت هذه الشروط على سفراء البروسيا والنمسا وفرنسا بفيينا؛ قبلوها وصدقوا عليها، وكلفوا حكومة النمسا في 13 يناير سنة 1854 بتبليغها للروسيا، وبقيت الدول منتظرة جواب الروسيا على إنذار فرنسا وإنكلترا أولا، وعلى مذكرة الدول الأربع ثانيا، إلا أن القيصر «نيقولا الأول» كان لا يزال مؤملا مساعدة البروسيا والنمسا، فأرسل إلى برلين البارون «دي بودبرج» وإلى فيينا الكونت «أورلوف» ليسألا الحكومتين البروسية والنمساوية أن تبقيا على الحيادة أثناء الحرب، ويعدهما القيصر مقابل ذلك بدعوتهما بعد للاشتراك معه في حل المسألة الشرقية، فطلبت النمسا من الكونت «أورلوف» ألا تعبر الجنود الروسية نهر الدانوب، ووعدته بالبقاء على الحيادة إذا قبلت الروسيا هذا الشرط، ولكن الروسيا وجدت قبوله يضر بها ضررا عظيما في الحرب، فرفضته وحملت بذلك النمسا على أن ترفض طلبها البقاء على الحيادة، وأن تحفظ لنفسها حرية تامة في العمل.
وقد رفضت البروسيا أيضا طلب الروسيا بالرغم عن قرابة القيصر «نيقولا الأول» لملكها، وتحقق القيصر عندئذ أنه لا نصير له بين دول أوروبا، وأنه سيحارب تركيا وحده، فرفض مذكرة الدول الأربع التي أرسلت إليه في 13 يناير سنة 1854، وأجاب على كتاب ودي أرسله إليه «نابليون الثالث» إمبراطور فرنسا نصحه فيه بقبول مطالب الدول بأن شرف الروسيا يحتم عليها الحرب، وبقي بذلك على عناده الأول غير حاسب لنتائج الحرب حسابا.
فلما علمت الحكومة الفرنساوية والحكومة الإنكليزية بنوايا القيصر أرسلتا إلى حكومته بتاريخ 27 فبراير سنة 1854 إنذارا هددتاها فيه بوجوب إخلاء مقاطعتي الأفلاق والبغدان وإلا أعلنتا عليها الحرب، واجتهدت فرنسا وإنكلترا بعد ذلك في ضم النمسا والبروسيا إليهما ضد الروسيا، غير أن ملك بروسيا رفض الاشتراك في الحرب ضد الروسيا، وأبلغ حكومات فرنسا وإنكلترا والنمسا بأنه مستعد للاتفاق معها على بعض قواعد سياسية، تكون فيما بعد أساسا لتسوية الخلاف بين الروسيا وتركيا. فقبلت الدول الثلاث ذلك، واجتمع مندوبو البروسيا والنمسا وإنكلترا وفرنسا في فيينا مرة رابعة، وأمضوا على بروتوكول «مذكرة» 9 أبريل سنة 1854 المشتمل على القواعد الآتية؛ أولا: استقلال الدولة العلية. ثانيا: انجلاء العساكر الروسية من مقاطعتي الأفلاق والبغدان. ثالثا: استقلال الحكومة العثمانية في أعمالها، وترك الحرية التامة لها في منح رعاياها المسيحيين الامتيازات اللازمة. رابعا: الاتفاق على الضمانات اللازمة؛ لتنظيم العلاقات السياسية للدولة العلية؛ مما يضمن سلامة التوازن الأوروبي.
وعندما وصل إنذار فرنسا وإنكلترا السابق الذكر إلى القيصر «نيقولا الأول» رفضه رفضا باتا، وقبل إعلان الحرب عليه من الدولتين، فعقدت فرنسا وإنكلترا عندئذ في 12 مارس سنة 1854 تحالفا مع الدولة العلية ضد الروسيا اشترط فيه بادئ بدء أن فرنسا ترسل خمسين ألف جندي إلى تركيا، وأن إنكلترا ترسل خمسة وعشرين ألفا، ولكن الحرب اقتضت إرسال جنود كثيرة، حتى إن فرنسا وحدها فقدت في ساحة القتال فوق المائة ألف جندي، واشترط في هذا التحالف أن دولتي فرنسا وإنكلترا تسحبان جنودهما في مدة خمسة أسابيع بعد عقد الصلح مع الروسيا، واشترط كذلك أن دولتي فرنسا وإنكلترا ترسلان أساطيلهما إلى البحر الأسود، وبالفعل استولت فرنسا وإنكلترا على البحر الأسود وأرسلتا جيوشهما إلى الدانوب، ولقمع الثورة في تساليا وبيرا أرسل جزء من هذه الجيوش إلى هاتيك الجهات، فقمعت الثورة في زمن يسير، وعادت السكينة بعد الاضطراب. •••
وبعد أن اتفقت فرنسا مع إنكلترا ضد الروسيا اجتهدت الحكومتان في استمالة النمسا إليهما؛ لأن قوة الجيش الروسي كانت على الدانوب، وكان يسهل التغلب عليه وقهره إذا ساعدت النمسا دول تركيا وفرنسا وإنكلترا، غير أن النمسا كانت تأبى العمل ضد الروسيا قبل اتفاقها على ذلك مع البروسيا، فخابرت هذه الدولة التي كان من صالحها خدمة الروسيا بدون أن يدرك ذلك أحد، وطالت المخابرات بينهما، وانتهت بعقد اتفاقية بين النمسا والبروسيا بتاريخ 20 أبريل سنة 1854 تضمنت أن النمسا ترسل لحكومة الروسيا إنذارا بعدم تقدم جنودها وبانسحابها من مقاطعتي الأفلاق والبغدان، وأن النمسا والبروسيا تعلنان الحرب على الروسيا إذا عبرت البلقان أو أعلنت استيلاءها على المقاطعتين.
Shafi da ba'a sani ba