ثم نظرنا في معنى إحصان التزويج هل له معنى فيما جعل الله سبحانه من الحد للمقذوفين على القاذفين، فلم نجد لإحصان التزويج في ذكر حد القذف معنى؛ لأن الحد للمقذوف على القاذف لازم أبدا كان المقذوف متزوجا أو عزبا، فزاح بذلك أيضا إحصان ذكر التزويج من الآية التي أوجب الله فيها على القاذفين العقوبة والنكاية، فلم يبق في حكم الآية وقصصها من الإحصان إلا إحصان الحرية والإيمان، فكان ذكر الإيمان في الآية قايما بنفسه، معروفا بعينه، مستغن بذكر ظاهره عن ذكر باطنة، وذلك قول الله سبحانه: { الغافلات المؤمنات{ ، فاكتفى سبحانه بذكره الإيمان في المؤمنات، ونسبته إليهن عن ذكرهن بالإحصان؛ إذ كان الإيمان هو رأس الإحصان، وبه يكمل للمحصن اسم الإحصان، فلم يبق في الآية ذكر من ذكر محصنا في الكتاب، أو مدعي بالإحصان في سبب من الأسباب إلا وقد خرج منها، وبان بما اجتججنا به من الحجة عنها، ما خلا إحصان الحرية وحده، فعلمنا أنما جاء في الآية من ذكر الإحصان هو إحصان الحرية دون غيره، وذلك قوله سبحانه: { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } [النور: 23]، فكانت هذه الآية مفسرة لقوله سبحانه: { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } [النور: 4]، فبين قوله: { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات{ ذكر الحد على من يجب من القاذفين، وأخبر أنه يجب في قذف المحصنات بالحرية الغافلات المؤمنات من الحر ائر العفيفات. ولو لم يرد سبحانه إحصان الحرية هاهنا لما كان لقوله: { المحصنات الغافلات المؤمنات{ معنى؛ لأن الإحصان هو من ذكر الإيمان ونعته، وإنما تكون محصنة بالإحصان من بعد إيمانها، فإذا آمنت فقد أحصنها الإيمان، وإذا ذكر الإيمان استغنى عن ذكر الإحصان؛ لأن الشيء الظاهر أدل على نفسه في حال ظهوره مما يكون من نعته. ألا ترى أنه إذا قيل: وما هذا الإحصان، والإحصان يخرج على معان شتى؛ فيقال: محصنة إيمان؛ فيكون ذكر الإحصان دليلا على علامة الإيمان، وإذا قيل مؤمنة فقد استغنى عن ذكر الإحصان، إحصان الإيمان، وذلك بظهور المسمى بنفسه، فإذا ظهر الاسم واستوى لم يحتج إلى ذكر ما يدل عليه في المعنى؛ لأن قولك هذه مؤمنة يجزي عن أن تقول محصنة بالإيمان؛ لأنك قد أثبت لها أصل الإحصان وفرعه حين دعوتها بالإيمان؛ إذ لايكون مؤمن أبدا إلا وهو محصن بالتقوى، والمحصن فقد يكون هذا الاسم ويخرج على معان. فدل الله سبحانه بما ذكر في هذه الآية على ما قلنا من أنه لا يجب على قاذف حد حتى يقذف حرة مؤمنة، أو حرا مؤمنا، فحينئذ يجب الحد على من قذف من كان كذلك في الحرية والإيمان، فافهم هديت معنى ما ذكرنا، وميز بعقلك تقف على ما فسرناه، وتدبره يثبت قلبك بحول الله ما شرحناه، فإنه قول بين ظاهر لمن تدبر، دقيق غامض على من جهله، فنسأل الله إيزاع ما يلزمنا من شكره، والتوفيق لما أوجب علينا من طاعته وفرضه.
وسألت: عن قول الله سبحانه: { ما جعل الله من بحيرة ولا سآئبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } [المائدة: 103].
القول في ذلك أن قصي بن كلاب سن هذه الأسماء وجعلها لقريش فاستنت العرب بقريش في ذلك.
والبحيرة: فهي شيء كان إذا أبحر الرجل - ومعنى أبحر: كثر ماله - أخذ من إبله شيئا كثيرا أو قليلا فوسم في خدودها بحيرة، ثم خلاها يزعم أن ذلك شكر لله.
والسائبة: فكان إذا لهم غائب أو مريض نذروا ان يسيبوا من إبلهم إن قدم الغائب، أوصح المريض، فإذا كان ذلك سيبوا شيئا منها، ووسموا في خدودها سائبة.
Shafi 851