المساكين
الشيخ علي
هو رجل تراه من الدنيا ولكن باطنه يلتحق بما وراء الطبيعة، وكان ينبغي أن لا يقوم مثله على مسرح الخلق إلا ممثلا، وأن لا يمثل إلا الوجه المطلق من الحياة، بعد أن استقصى الفلاسفة إلى تمثيله كل ذريعة فلو يستو لهم أن يمروا فيه، وقصر بهم التكلف، وقطعتهم دونه الفلسفة التي حملتهم عليه، فخلق الرجل نشيطا، مهزوزا، راميا، بصدره ونحره، معترضا في زمام القدر كأنه صورة الفكر الذي يمثله وكأنه أسلوب قائم بنفسه في بلاغة الطبيعة.
وأحسبه في نظره إلى الخلق يتوهم أنه رحالة خرج من بعض الأفلاك التي تعرف (بالعقول العشرة) فهبط من أشعته على الدنيا، فهذا العالم شيء جديد في نفسه وهو شيء جديد في العالم......
ينظر إليك كما تنظر إليه، فأنت تتبين في سحنته الواضحة أوصاف الجنون الهادئ، وتعجب من منظر تلك العاصفة النائمة في عينيه، وهو يستجلي منك معنى الغرابة في قدرة الله إذ أنشأك مثالا غير مفهوم، ويطيل عجبه منك أنك على ما فيك تتعجب منه....فكل رجل في رأيه إنما هو صورة من الرجل الصحيح الذي لم تزور فيه حرفة العيش ومطالب الحياة شيئًا على الله.
ولكل امرئ سؤال يتردد بين نفسه والسماء، فرجل يقول: اللهم هذه القوة فأين الرزق؟ وآخر يقول: وهذا الرزق فأين السعادة؟ والشيخ علي كأنه يقول: اللهم إنه لم يبق من الإنسانية إلا حشاشة تسوق بنفسها وكل رجل من هؤلاء صورة مقلدة فأين الأصل؟ لما ولد هذا الرجل، ولعل الطبيعة يومئذ كانت في صميم الخريف ثائرة مجرودة غبراء ... قامت أمه عن نجم منطفئ لا تعرفه الأرض وقد زهدت فيه السماء، فكان رضيعًا ثم فطيمًا ثم جحش ... ثم ترعرع ثم صار يافعًا وعاد فتيًا وانقلب كهلًا وهو اليوم يحطم الخمسين وكأنه لم يكن في كل ذلك شيئًا، ومتى سويت عليه الأرض لم يترك ورائه حتى تنطلق، وكأنه حي على رغم الحياة!.
وترى أي عقل يعيش به؟ بل أي عقل وأي جنون ليس من أثرهما الخير والشر؟ إن أكبر من تنجبه الفلسفة ويخرجه الأدب ليطوي عمره طيا وراء هذه الغابة البعيدة، وما حياة الفلاسفة إلا اختيار للموت، فهم يميتون في أنفسهم كل سبب إلى الشهوة، وكل داعية إلى اللذة، يحيون بالقسم الأعلى وتبقى مادة الأرض فيهم كأنها أرض بور عارية المخاسر لا تخصب ولا تنبت، وهذا (الشيخ علي) كله أرض بور ... فهو عصر برأسه من تاريخ الأخلاق، وعلى أي الوجوه اعتبرته رأيته كشيوخ الفلاسفة وحكماء الدنيا. يعيش في الناس بعقل غير العقل.
ولو تنفس به العمر فبلغ المائة وجاوز العصرين ما زاد كل عمله على أن يشبه نفسه، فهو حليم لنفسه غضوب لنفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار، والضحك والعبوس والزهو والانقباض، وفي كل ضدين منهما لذة وألم، كأنه جزيرة قائمة في بحر لا يحيط بها إلا الماء، فلا صلة بينهما في المادة وإن كانت هي فيه، فالناس كما هم، وهو كما هو: يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذى، ويرى نفسه من دهره أقوى من أن يصاب بأذى، ويتحاشونه رأفة ورحمة، ويتحاماهم أنفة واستغناء، ثم إن مسه الأذى من رقيع أو سقيط أحسن إلى الفضيلة بنسيان من أساء إليه، فيألم كأن ألمه مرض طبيعي ويعتريه، ولا فرق عنده في هذه الحالة بين أن يمغص بطنه بالداء أو يمغص ظهره بالعصا ... ! وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة غير أن أمرهما مختلف جدا، فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهرها هو لأنها لم تظفر به! وإني لأرى في اللغة كلمات لم تقع على معانيها ولم تجتمع اللفظة منها بمدلولها، فكلمة السعادة تبحث عن معناها في الناس وأهوائهم وشهواتهم، ومعنى السعادة يبحث الناس عنه في هذه الكلمة وحدودها وحقائقها، وربما كان هذا المعنى بجملته ملقى تحت الشمس في زاوية من زوايا القرى، أو متفيئًا ظل شجرة من شجر الجميز، أو نائما تحت سقف معروش من حطب القطن، أو جالسا يضحك في ندوة الحي، أو قائما يتأمل مجرى النهر، أو مضطجعا يقلب وجهه في السماء، أو هو الذي يسمى " الشيخ علي"!
1 / 1
.. وماذا في السعادة أهنأ من أنتوقى شر هذه السعادة فلا تتطلع نفسك إليها ولا ينالك إلا ما تحب أن ينالك، فأنت بعد وادع قار آمن في سربك، معافى بدنك، خارج من سلطان ما بينك وبين الناس، من خلق مستبد، أو رغبة ظالمة، أو صلة عاتبة، ولا حكم عليك إلا لمالك الملك.....ولم يفتق الله لك من فنون اللذات ما ينغصه عليك، ولا ضرب منك مثلا، ولا نص لك عقابا، ولا جعلك مرآة عدو يصلح فيها نفسه ولا نصبك لمجاراة أو مباراة، وقد جنبك فضوح هذه الدنيا. والدنيا من السوء بحيث يفضح فيها بعض الخير ما لا يفضح بعض الشر.
ثم ماذا أنت طالب من السعادة إذا هانت الحياة فلم تضعف عن احتمالها، ولم ترمك بداء في مرض العيش إلا قمت له، ولم تحملك على أمر إلا تحملت عليه، وقويت على نفسك فلم تكذب أملا، ولم تخدعك في باطل، ولم تجاذبك في مورد لا تصدر عنه إلا آثما أو نادما، وكنت من نعمة الله مخفًا لا تحمل إلا رأسك، ولا تجوع إلا ببطنك، وقد كفيت أن تضرسك نزعات هذا الرأس، وأمنت أن يقتلك دار هذا البطن، ولم يضربك الله بشيء من هذه النعم المنافقة التي يأتي بها المال حين يأتيك بالجاه وأصحاب الجاه ومن يريدك لمالك وجاهك، وأعوذ بالله من النفاق ومن نفاق النعمة خاصة، فبينا هي لك إذ هي من طعامك قيء....
وهل في النعمة خير من الكفاف حاضرا، ومن الصحة فارهة، ومن قرة العين وضحك السن واستطلاق الوجه، وأن يكون القلب من حجاب نور السماء، لا تهتك عنه رذائل النفس، ولا يعلق به غبار الأرض، ولا يتغشاه ظلام الحياة، ولا يزال هذا القلب في نضرته وصفائه كأنه سعادة مخبوءة في غيب الله يخلق بعد أن خبئت له؟ وكذلك أعرف "الشيخ علي"، فهو رجل سدت في وجهه منافذ الجهات كلها إلا جهة السماء، فكأنه في الأرض بطل خيالي يرينا من نفسه إحدى خرافات الحياة، ولكنه مع ذلك يكاد يخرج للدنيا تلك الحقيقة الإلهية التي لا تغذوها مادة الأرض ولا مادة الجسم، فهي تزدري كل ما على الأرض من متاع وزينة وزخرف، وكل ما ردت عليه الغبطة من بسطة في الجسم، أو سعة في المال، أو فضل في المنزلة، وكل ما أنت من إقباله على طمع ومن فوت على خوف: تلك الحقيقة الطاهرة التي تكون أعظم ما أنت واجدها في سير الأنبياء والصديقين والشهداء، من نبوغ يخرق العادة، أو جنون تخرقه العادة، وما الجنون إلا نبوغ فوق الطاقة، وما النبوغ إلا جنون رقيق! وكذلك أعرف "الشيخ علي" فهو أجهل الناس في الدنيا، وأجهل الناس بالدنيا، كأنه من هذه الجهة ممتلخ العقل، وأنت إذا سطعت له بالجوهرة الكريمة النادرة فلا يعدو أن يراها حصاة جميلة تتألق، وإن هولت عليه بألوان الخز والديباج حسبك مائقًا ولم تر قط نضارة البرسيم وألوان الربيع، وكأني بك لو وصفت له الذهب وما أضرمت ناره في الأرض وهي برد وسلام، وما أيقظ جماله من الفتنة التي استحال عليها أن تنام، ثم أريته شعلة من هذه النار في غرة الدينار، لتضاحك منك إذ تريد أن توهمه - بما أعظمت من ذلك الشأن - أنك سلبت ملك قطعة من الشمس التي غربت أمس، ولرأيت من زرايته عليك ما يعلمك أنه ما أكبر هذا الدينار في عينيك إلا صغر في نفسك، ولا ملأ يديك بالحرص عليه إلا فراغ ما بينك وبين الله، ولا كدك في طلبه إلا أنك مسخر، ولا أذلك المال إلا خضوعك للآمال، وما أنت إلا في قيد من الهم حب إليك، قفلة هذه القطعة من الذهب! وإذا أحضرته ألوان الطعام وجلوت عليه أبهة الخوان وقلت فيه: هلم فاترع وأصب حتى تنتأ رمانتك رأيت من نفوره واحتجازه كأنه يقول لك: ويحك، وهل للبطن كبرياء وهو ستار على أقذار، وهل يسمع كل هذا وما هو بالعريض الطويل، ولا سلامة له إلا بالقليل لأنه قليل، وهل تحتمل ما في العنقود حبة واحدة، ويحتمل الغني أن يكون في صندوقه الإلهي حاجة زائدة، ويبلغ الحمق من هذا الإنسان أن يميت قلبه لأنه وجد النعش من المائدة؟
1 / 2
وكذلك أعرف "الشيخ علي" فهو لا يرى في الأشياء غير ما خصتها به الطبيعة، ولا يرسل عليها إلا أشعة صافية من عينيه الضاحكتين لم تخالطها ألوان النفس ولا زفرت عليها أنفاس القلب، وما ثم غير الانقباض والنفور أو الاستئناس والانبساط، فإما رآها قبيحة وإما رآها جميلة، ومتى قسمت الأشياء عنده إلى قبيح وجميل فليس وراء هذين ثالث في التقسيم، وليس إلا جميل جميل وقبيح قبيح، فأما المأمول والمرغوب والمتنافس فيه، والمتبرم به والمسخوط عليه، وما جاء بالشقوة وما جاءت به السعادة، وما كان من ورائه حبذا وليت، وما أعانت عليه لعل وعسى، ثم كان وأخواتها، وإن وبناتها، ثم أنا وأنت وهو، ثم انعطف على هذا من جده ولا لعبه لأن صفحة نفسه ليست كألواح الأطفال: يثبتون فيها ما لا بد من محوه، ويمحون ما يعودون إلى إثباته، ليتعرفوا ما أصابوا مما أخطأوا، وليتعلموا كيف ينبغي أن يتعلموا.
وهل تجد - أعزك الله - في هذا الناس من يحسن أن يوقرك، إلا وهو يحسن أن يحقرك، ومن يعرف كيف يشكرك، إلا وهو يعرف كيف يكفرك، ومن يقول لك حفظك الله، إلا وهو قادر أن يقول أخزاك الله ... فالناس عبيد أهوائهم، وأينما يكن محلك من هذه الأهواء فهناك محل اللفظة التي أنت خليق بها، وهناك يتلقاك ما أنت أهله، أو ما يريدون أن تكون أهله، وليس في الناس شيء يزيد كمالًا من غير أن يزيدك نقصًا، حتى إيمانك، فإن كفر عند قوم، وحتى عقلك، فإنه سفه لطائفة، وحتى فضلك فإنه حسد من جماعة، وحتى أدبك، فإنه غليظ لفئة.
أما شيخنا فقد مسح الله نفسه ومسح ما به من الناس، فليس في صدره ولا صدر أحد حسيكة عليه، وهو أبدًا في صمت، فلا يتصل بفهمه ولا يداخل فكره إلا الجمال والقبح، والطبيعة نفسها تخرج الجميل تفسيرًا للقبيح، وتظهر القبيح تعليقًا على الجميل، وكذلك الشيخ في إدراكه.
وأجمل ما يرى من وجوه الحياة وجه السماء الصافية، ووجه النهر الجاري، ووجه الأرض المخضرة، ووجه الرجل الطيب، ووجه المرأة الجميلة، كل أولئك عنده سواء، فليس وجه خيرًا من وجه، لأنه لا يحسن أن يؤول لغة الطبيعة فلا ريبة فيه، ولا يتزيد في معانيها فلا كذب في حواسه، ولا تخاطبه الطبيعة فيما توحي إليه إلا بأسهل ألفاظها وأطهرها وبمقدار ما خلق له، إذ لا ترى فيه غير تلك الحيوانية الضعيفة التي هي ضرورية لحي منقطع مثله، وما كانت لوثه عقله إلا فصلًا بينه وبين الإنسان في حيوانيته، وإن شر ما تكون هذه الحيوانية حين تكون عقلية محضة، وراءها عقل العالم واخترع المخترع وفن المتفنن.
وقد يكون "الشيخ علي" رجلًا تعسًا في رأي الناس، لأنه حيوان ضعيف وإنسان أضعف، ولكنها تعاسة بالغة، فهي من تلك الآلام الحادة التي بالغت الطبيعة في تكوينها لتخرج منها ذلك النوع الشديد الحاد الذي يسمونه اللذة، وربما كانت التعاسة السامية خيرًا من سعادة سافلة! إن المجنون لم يزل عن منهج الحياة بجنونه، ولكنه يتبع سنة هذه الحياة على طريقة خاصة غير ما ألفه الناس أو تواضعوا عليه، ليرى في كل شيء أثر جنونه، فهو حي مع الأحياء بيد أنه يشبه أن يكون تفسيرًا للحياة الغامضة التي تلوذ بكل جانب مهجور على وجه الأرض، وبكل رأس تحتسبه جانبًا مهجورًا، لأن الناس لا يفهمونها ولا يتسعون لفهمها.
1 / 3
وهذا "الشيخ علي" رجل غامض متلفف بحقيقته العجيبة، كدهاة السياسة في شباكهم التي يأخذون بها الأمم والشعوب فلا تبرح ترتبك فيها ارتباك الصيد في الحبالة، وأولئك الفلاسفة الذين يعيشون في السحب العالية من فضائلهم فيمطرون الكون مرة ويرجمونه مرة ... إلى غيرهم من روابي الخلق زمن كل رجل عظيم أظله أحد الجناحين المنبسطين على الأرض والسماء: جناح الوحي أو جناح التاريخ. ولكن "الشيخ علي" على غموضه من كل جهاته واضح ن جهة واحدة هي جهة الجنون في اصطلاحنا، وتلك هي جهة الفضيلة الخالصة فيه، وإذا قطعت ما بينه وبين الرذيلة وجعلت له في الناس رذيلة مجنونة مثله، فكانت سبته أنه رجل مطلق لا ينزل على حكم، ولا يتحمل على أمر، ولا ينازع إلى عادة الوثابة التي لا يمسكها قيد ولا بنفسه من هموم الناس وأصبح كالروح الوثابة التي لا يمسكها قيد ولا يخضعها زمام، والتي هي فيه كما هي في موجة البحر وعاصفة الريح، فكل مخلوق يحجل في الحياة لمكان القيود منه، وهذا يجمع الوثبة العالية ثم يثب مقبلًا ومدبرًا ويتخطى مد بصره في الحياة كأنه براق الأنبياء.
وليت شعري هل يأمل الناس أن يشهدوا الحقيقة مغلوبة على أمرها، وما كانت الحقيقة أحد الخصمين قط إلا كانت الهزيمة على الآخر ولو أن هذا الآخر عصر من تاريخ الأرض؟. ثم ما هي الحقيقة إلا أن تكون عقلًا مطلقًا لا زيغ فيه، أو حقًا لا كذب فيه، أو يقينًا مطلقًا لا شك فيه؟.
وهذا "الشيخ علي" أما عقله فعند الله، وأما حقه فقد أوجبه الله، وأما يقينه فلا يعلمه إلا الله، فكيف يرى مغلوبًا لاصطلاح أو عادة وأكثره راسخ في السماء؟ إنه ليجوع ويظمأ ويعرى، ولكن كما يجوع الطير وتظمأ الأرض ويعرى الشجر: ليس من حالة إلا وسبيلها من رحمة الله، فإن تخلت عنه السماء مرة وقطعت مقاوده من الغيب وخذلته الوسيلة- فما تغمز منه الحاجة إلا حجرًا صلد يقع على أي جانب ترميه ثم لا يقع إلا حجرًا، لأن آلام هذا الرجل من الألم القفر الذي لا ينبت فيه شيء من الخوف، ولا يهتدي إليه وهم من الحياة، ولا مجرى فيه الدمع، ولا ظل للحسرة، وهو ألم إن أفضى إلى الموت أفضى برجل لا يعرف الموت ما هو، وإن أبقى على الحياة أبقى عليها في رجل عرفت الحياة من هو ...
رجل حط الله أوزاره وكتب عليه أن يكون فقيرًا من المال وحب المال وذل المال، فخرج وليس له في أفئدة الناس إلا الرأفة والحنان، وجاء وليس له من الناس حاسد أو عدو، وخلق ذا حدين من نفسه الماضية لا يكتنفه ذل أو هم إلا قطعهما وانطلق كالفرس العتيق في ميعة حضره وماذا يبغض الناس منه وماذا يعادون وهو في ذلك البحر زورق قد سقط مجذافه فليس له ما يضرب وما يسخر به، وإنما تدافعه رحمة الله حيث اندفع، والبحر لا يعادي الزورق الذي يجري فوقه ولكن يعادي المجذاف الذي يديره ههنا وههنا.
رجل كأنه قطعة من الأبد، لا أمس له يتعقبه ولا غد له يترقبه، بل الحياة عنده يقظة طويلة والموت نوم أطول.
"والشيخ علي" متى أحس بالجوع ولج الباب الذي يصيبه مفتوحًا فلا يقع على الناس إلا متطرئًا، وهو مع ذلك لا يحط في الطعام ولكن يخط فيه خطًا وما هو إلا أن يستقر شيء في جوفه مما يقيم صلبه حتى ينفر نفور الطائر لا يرى إلا أنه قد استوفى حق طبيعته من خادم طبيعي.. فلا جزاء ولا شكورا ولهذا لا يبرح أبدًا على الحد الذي يصلحه لنفسه فلا يتجاوزه، وأعجب ما يرعني من فضيلته أن هذا الحد عينه هو الذي لا يفسد ما بينه وبين الناس.
وهو إذ تكلم فإنما يترمرم من طول السكوت، فإما أن يغمغم حروفًا وأصواتًا، وإما أن يلوث بعد كلما غير مفهومة كأنه يسرها في أذن الدهر الذي لا يفهمه، ولكن هذا الرجل كلمة في الشتاء وكلمة في الصيف: فأما في الأولى فأن يسأل دثارًا يستدفع به أذى البرد، ولا معنى لكلمة "هات" عنده غير هذا الضرورة وأما الثانية فأن يهب الدثار لغيره، ولا معنى لكلمة "خذ" عنده غير هذا الاستغناء، على أنك واجد أكثر ما في هذا العالم من شر وفساد إنما يرتطم في هذين الحرفين: "هات، وخذ".
1 / 4
هذا هو " الشيخ علي".. رايته فرأيت في برودة ثورة على العالم الإنساني، وعرفته فأصبت في ضميره قطعة مجهولة من هذه المسكونة، واستجليت نفسه فإذا هو أفق فوق الأرض، وطالعته فكأني رأيت في جملته النقطة الأرضية التي يبدأ من ورائها ارتفاع السماء، وبلوته فإذا هو حصاة تحت ضرس الدنيا والناس هنالك يمضغون، فلم أملك أن غمست قلمي من نظراته في مجرى من أشعة الوحي، ووضعت الاعتبار من هذا الرجل وحقيقته ما عرفت من الناس وحقائقهم، فخرجت لي من المقابلة هذه الصفحات، ولذا كان القول في "المساكين " ما قال "الشيخ علي".
على أني إن كنت لم أحسن وصف الرجل أو كنت لم أبلغ في وصفه فذلك لأن هذه الحقيقة في هذا القلم كالثمر الحلو في العود المر، والرجل مما أنضجه القدر وحده ليس لنا من حقيقته الغامضة إلا الصفات التي تثبت أنها غامضة.
وهل في الحياة أشد غموضًا من رجل يرى، أو كأنه يرى، أن كل نعمة لم ينلها فهي مصيبة لم تنله، وكل ما يعرفه من هذه الدنيا أنه يعرف كيف يتركها مطمئنًا وعلى شفتيه من الابتسام تحية السماء لاستقباله، ومتى هو فارقها انكشف موته عن حياته، وصرحت هذه الحياة من ضميره وخلصت من هذا الضمير كلمة هي معنى الرجل الذي انطوى عليه، وكانت هذه الكلمة هي "الحمد لله".
في وحي الروح
التراب المتكلم أمام التراب الصامت
ترى أيهما هو الصدق في حقيقته: ما نفرح به أو ما نحزن له؟.. أما إن في الحياة ملحًا وإن في الحياة حلوًا وكلاهما نقيض، فليس منهما شيء إلا هو رد للآخر أو اعتراض فيه أو خلاف عليه، وتجدهما اثنين وهما واحد في اثنين.
فأنت تؤتى الحلو تسيغه وتستعذبه فإذا هو بك في الملح تمجه وتغص به، ثم لا تضع من أمر على أحسنه في صورة إلا رأيته على أقبحه في صورة أخرى.
والإنسان من الهم في عمر دهر لا يموت، ومن السرور في عمر لحظة تشب وتهرم وتموت في ساعات، والحس كأنه من هذه الدنيا فرخ في بيضة ملئت له وختمت عليه فلن يزيد عليها سوى خالقها، وخالقها لن يزيد فيها! ومن الصحة والمرض، مما سر وساء: وما شد وهد، ومن العقل العجيب الذي يحكم من الإنسان تركيبًا عصبيًا مجنونًا ثائرًا قد استبانت فيه الحيوانية، من كل ذلك وما إليه مزيج هو بقدرة الله أشبه، ولكنه فوق ضعفنا وحيلتنا، فلن نرى منه في الكون إلا شكل الحيرة ومعناها والعذاب بها، والفرح بالغفلة عنها والسرور بإنكارها أو المكابرة فيها، والحيرة لا نفي ولا إثبات، ومتى يطلب الإنسان الحقيقة، وهو جزء منها، لا يقف إلا على جزء منها، فالمشكلة متحركة إلى كل جهة حتى لا تذهب عنها لتنساها إلا وأنت ذاهب بها لكيلا تنساها.
أما إن في الحياة ملحا وإن في الحياة حلوا ... فإن لم يمكن، فالممكن من الحقيقة للإنسان أن يستحيل فيموت! ترى أيهما هو الكذب في نفسه: الموت أم الحياة؟ إنه الجنين فالوليد ثم الميت لا محالة بعد أن يسرع الأجل أو يتراخى، لا يتقار جنين في ذاته الدموية من الأحشاء، ولا يثبت وليد في ذاته في المهد، ولا يترك شاب في ذاته العظيمة للحياة، ولا يقف شيخ في ذاته الجليدة دون القبر! ومن عقدة الثمر إلى لبتها إلى شحمتها إلى قشرتها، على ناموس القضاء والقدر، في باب الحتم المقضي من كتاب السماء، وعلى ناموس النشوء والارتقاء في باب الهذيان العلمي من كتاب الأرض ...
وكما تكون تحت الوسائد كنوز أحلام الليل، تكون في هذه الحياة أحلام الكنوز الخالدة التي يملأ الأرض كلها ضوء لؤلؤة واحدة منها.
تطلع الشمس على الناس كأنها فص خاتم السماء تشير به أن تعالوا إلى الكنز في ضوء هذه الياقوتة الصغيرة.
الحواس زائغة متراجعة مقلوبة، وهذا هو نظامها ونسقها واستوائها، فليس من أحد في هذا الكون الموجود إلا وهو ناظر إلى كون غير موجود.
السماء سموات، والأرض أرضون، والأكوان عداد العقول، وكل أمل في رأس مخلوق يزيد عنده الدنيا أو ينقصها ويغير من الخليقة ويبدل، وكل إنسان في كل يوم هو إنسان يومه ذلك، فكأن كل حي من كل حي غلطة، وآمالنا كأرقام الساعة: هي اثنا عشر رقما محدودة، لكنها في كل دقيقة هي اثنا عشر رقما فلن تنتهي.
والحياة خداع وغرور، وزيغ وخطأ، وعمل وعبث، ولهو ولعب، ومهزلة وسخرية، والناس كالأرقام تخط على هذا التراب ثم يقال للعاصفة: اجمعي واطرحي ثم حلي المسألة ...
1 / 5
وأين كل ما صبته الشمس والكواكب من نيرانها، وما أخرجته فصول الأرض من وشيها وألوانها، وما هتفت به الطير من أغاريدها وألحانها، وما تلاطمت به الدنيا من أمواج إنسانها؟ وأين ما صح وفسد، وما صدق أو كذب، وما ضر أو نفع، وما علا أو نزل؟ في كل لحظة تمتلئ الدنيا لتفرغ، ثم تفرغ لتمتلئ وماضيها ومستقبلها مطرقتان يمر بينهما كل موجود لتحطيمه.
وكأن الحياة ليست أكثر من تجربة الحياة زمنا يقصر أو يطول، وما العجيب أن لا تفلح التجربة في أحد، ولكن العجيب أن لا تنقطع وهي لا تفلح.
والعالم كالبحر من السراب يموج به أديم الأرض بما رحبت ثم لا تملأ أمواجه ملعقة، والحقيقة في كل شيء لا تزال تفر من تحليل إلى تركيب ومن تركيب إلى تحليل، لأن شعور أهل الزمن بالزمن لا يحتمل المعنى الخالد.
ولعل سبب الموت أنك لا أجد إنسانًا يعيش في حقيقته الإنسانية، فلا هذه الحقيقة يسرت له كاملة ولا هو خلق لها كاملا، وفي الإنسان كالطبيعة أرض وسماء، فترابه لا يغشاه مما فوقه غير الظل وقد خلق مقسوما فشقة منه في أرضه وشقة في سمائه، فإذا حضره الموت ضرب الضرب بين هاتين فأخذت السماءُ السماءَ وجذبت الأرضُ الأرض.
هناك البرق الإلهي ملء الكون يلتمع ويخطف، ولكنه من الإنسان كشعلة تتوهج في غرفة أرضها وسقفها وحيطانها من المرايا وليس في هذه الغرفة إلا تتوهج في أرضها وسقفها وحيطانها من المرايا وليس في هذه الغرفة إلا هذا الضوء ورجل أعمى.
فلا سخرية ولا ضلالة ولا عبث ولا خداع إلا في أسلوبنا الإنساني المبني على حواسنا الزائغة، كما تنود السفينة خفت على موج البحر وما عبث البحر بها ولكن يعبث بها وزنها.
يريد الله أن نخلق لأنفسنا معنى من السمع والبصر ليس في أذن ولا عين، وأن نزيد في مجموعة أعصابنا الواهنة عصبا عقليا يراه ويسمعه ويدركه ويؤمن به، فالإيمان قوة جبارة لا تجمع إلا من رد كل أطراف النفس المنتشرة إلى عقدتها الروحية، وحبسها أكثر حواسها في حس واحد عنيف مؤلم، ووضع المناعم المضنون بها في ذلك المعنى المفتوح المتهدم الذي لا يمسك شيئا وهو االزهد، وحصر الآلام الطاحنة في ذلك المعنى المطبق المتحجر الذي لا يفلت شيئا وهو البصر، ورد الأخلاق كلها إلى ذلك العنصر الذي يضيف معنى الحديد إلى معنى اللحم والدم وهو الإرادة، وبعد ذلك كله وضع كل شيء إنساني قي ضوء من أضواء الكلمة المتألهة المسماة بالفضيلة.
يا إلهي! ما أقواك وما أضعفنا! كأنك تقذفنا من السماء فنجهد من بعد أن نرتفع إليها بأنفسنا على أجنحة الأعمال التي تطير بجاذبية مما تحب! لما خلقت الإنسان عبدا على قدرك صار إلها على قدره، فيجب في الحق أن تعذبه السماء إذا وغل عليها طفيليا بلا عمل ولا ثمن! النخلة السحوق نواة مخزونة في بلحة، والعالم العظيم تركيب مخبوء في إنسان، فالإنسان لنكده الطبيعي محيط بنواميس قاهرة تحركه، وتحيط به نواميس أخرى قاهرة تتحرك معه، فمن ثم لا يبرح يصطدم، ولن يكون متجها أبدا إلا إلى التحطيم، فإذا هو تورع وتحرج واستعلى أمات من شهواته فأبطل مثل ذلك فيما حوله، فكان خروجه من بعض الدنيا هو حقيقة وجوده في بعض الدنيا، ومثل هذا حقيق أن يقول: إني أحكم العالم من داخلي.
تباركت ربنا وتعاليت، إن الشك فيك لهو اليقين على طريقة، والإيمان بك هو اليقين على طريقة أخرى..المقعد لا يمشي، والأعرج لا يعدو، والضعيف لا يسبق العداء، فإذا أنكر المقعد على من يراه يمشي، والأعرج على من يبصره يعدو، والضعيف على من يعرفه قد يمشي، والأعرج على من يبصره يعدو، والضعيف على من يعرفه قد سبق، فما ذلك من إنكار العين ولا من مكابرة النفس، وإنما ذاك رأي منظور فيه إلى حظ رجل مهملة أو قدم مكسورة أو عظم واهن، ومن ثم لن يكون في الناس ملحد إلا وفي طباعه أو أخلاقه أو حوادث دنياه جهة مريضة ينكسر عندها الرأي ويبتلي بها الحس، فهي توجهه وتصرفه منظورا فيه إلى شعور بعينه. وقد ينتحر الرجل من إعراض امرأة فمنذا يقول إن النفس الإنسانية في وزن قبلة!
1 / 6
فأما الملحد بغير علة فهذا لا يوجده أب ولا تضعه أم إذ يجب أن يكون طباعه له وحده وميراثه منه وحده حتى يصدق زعمه أنه ألحد للبرهان وحده، فما يجحد الجاحد إلا ليجعل نفسه في الرفاهية من الأمر والنهي، ويخرج بها من حكم الضرورة، وما بين المؤمن وربه، حتى كأن فيه شيئا يلذعه بالجمر فما يستريح من لذعة إلا قدر ما يجم ليحتمل للذعة بعدها.
يا إلهي إنما يحبك المؤمنون ويكابدون في رضاك على مقدار منك لا منهم فأنت تقذف قلب المؤمن بضرورات كشعل البراكين وتضرب روحه من مصائبه بسلسلة جبال مفتولة وتتركه في الأرض يشعر كأنما خر عليه سقف العالم! شبه خلفها، وظلمات تنتهي بعد حين إلى مد النهار الأكبر ومن الضرورات والمصائب والآلام يتخلق الجو الحساس الذي يبسط فيه الإنسان جناحي روحه ويسمو بها على التراب والمادة.
الجو الجو: هذه تغريدة البلبل في قفصه.
الغذاء الغذاء: هذه قوقأة الدجاجة في قفصها.
أيقيس الإنسان نفسه على قياس من الطبيعة في قوتها المتراكبة، ومظهرها المسخر لكل ما يتفق، وتركيبها المبني على سهولة الاحتمال، ونظامها الميسر لعدم المبالاة؟ ألا ما أحمق الزهرة التي علمت أن الدوحة التي لا تقتلعها إلا العاصفة العاتية فقالت: الآن أهزأ بالنسيم! ثم لمسها النسيم فرمى بها ورقة ورقة! كأن الشكل الإنساني نقص إنساني، وكأن الإنساني لم يجئ إلى الدنيا بأكمله وكأنه خلق منه إلا قدر لغرض ما، كأنه تركيب في يد الصانع الأعظم ألقى منه جزءا في مرجل الفلك الأرضي ليغلي قليلا ... ثم يتطاير ويجتمع فيتلقاه من بعد.
كأن هذا الإنسان تحت هذه الضغطة في هذه الفورة في هذا الفلك، مادة يطعم جوا لتتحول ولتتحول ليس غير. ألا ما أحمقه وهو في المرجل على الوقدة الحامية إذا أبى أن يغلى! ... وما أسخفه وهو في المصفاة تحت الضغطة الثقيلة إذا أبى أن يعصر! ... وما أجهله وهو في الحياة الفانية إذا نسي أنه سيموت! لا تغتري أيتها الحبة الصغيرة المختبئة في كدسة من القمح تتحدر في ثقب الرحى، ولا تحسبي أنك من لهو ولعب تنبعثين هناك وهنا بين الحب، إنك في رفق ولكنه رفق الحجرين الآكلين اللذين لا يدعان شيئا ولا يفلتان شيئا وإنما يرفقان بك قليلًا قليلًا وليجيدا طحنك كثيرًا كثيرًا! فتحنا القبر وضرحنا للميت العزيز. لم أقل أنه مات، بل قلت إن موته قد مات! كأن الحي على هذه الأرض هو القبر الإنساني لا الجسم الإنساني، فإنك لتجد قبورا من ألف سنة ولن تجد إنسانا في بعض عمرها، أما ترى هموم الدنيا وأحزانها كيف لا يخلو منها أحد، وكيف تخرج من النعيم كما تخرج من البؤس؟ ما أحسبها إلا صورًا من ظلمة القبر يجيء القبر فيها حينًا بعد حين إلى ميته الذي لم يمت! من يهرب من شيء تركه وراءه، إلا القبر، فما يهرب أحد منه إلا وجده أمامه، هو أبدا ينتظر غير متململ، وأنت أبدا متقدم إليه غير متراجع، وليس في السماء عنوان لما يتغير إلا اسم الله، وليس في الأرض عنوان لما يتغير إلا اسم القبر.
وأينما يذهب الإنسان تلقته أسئلة كثيرة: ما اسمك؟ ما صناعتك؟ كم عمرك؟ كيف حالك؟ ماذا تملك؟ ما مذهبك؟ ما دينك؟ ما رأيك؟ ... ثم يبطل هذا كله عند القبر كما تبطل اللغات البشرية كلها في الفم الأخرس، وهناك يتحرك اللسان الأزلي بسؤال وحد للإنسان: ما أعمالك؟ أيها المتقاتلون على الدنيا والإنسان إلى حين! إن تنازع البقاء مذهب فلسفي بري لا إنساني ... فإنها الثيران هي التي تجد من القوة أن تنطح في المجزرة وتنسى لم هي في المجزرة! فتحنا القبر وأنزلنا الميت العزيز الذي شفي من مرض الحياة، ووقفت هناك، بل وف التراب المتكلم يعقل عن التراب الصامت ويعرف منه أن العمر على ما يمتد محدود بلحظة، وأن القوة على ما تبلغ محدودة بخمود، وأن الغايات على ما تتسع محدودة بانقطاع، وحتى القارات الخمس محدودة بقبر!..
يا عجبًا! القبور مأهولة بملء الدنيا وليس فيها أحد! أية ذرة من التراب هي التي كانت نعمة ورغدًا، وأيتها كانت بؤسًا وشقاءً، وأيتها التي كانت حبًا ورحمة، وأيتها كانت بغضًا وموجدة؟
1 / 7
سألت القبر: أين المال والمتاع؟ وأين الجمال والسحر؟ وأين الصحة والقوة؟ وأين المرض والضعف؟ وأين القدرة والجبروت؟ وأين الخنوع والذلة؟.. قال: كل هذه صور فكرية لا تجيء إلى هنا، لأنها لا تؤخذ من هنا! فلو أنهم أخذوا هدوء القبر لدنياهم، وسلامة لنزاعهم، وسكونه لتعبهم، لسخروا من نواميس الكون! إن هؤلاء الأحياء يحملون في ذواتهم معانيهم الميتة وكان يجب أن تدفن وتطهر أنفسهم منها، فمعنى ما في الإنسانية من شر هو معنى ما في الناس من تعفن الطباع والأخلاق.
يكذب أحدهم على أخيه فيعطيه جيفة حقيقية ميتة، ويكيد بعضهم لبعض فيتطاعمون من جيف الحوادث المسمومة، ويمكر الخائن فإذا جيفة عمل صالح قد مات، فكل مضغة تبتلعها من حق أخيك الحي هي كمضغة تفتلذها من لحمة وهو ميت: لا تعطيك إلا جيفة، ثم أنت من بعد لست بها إنسانًا ولكنك وحش ... بل وحش دنيء ليست له فضيلة الوحشية التي من قوة تأبى أن تمس لحوم الموتى! واهًا لك أيها القبر! لا تزال تقول لكل إنسان تعال، ولا تبرح كل الطرق تفضي إليك فلا يقطع بأحد دونك ولا يرجع من طريق راجع، وعندك وحدك المساواة، فما أنزلوا قط فيك ملكًا عظامه من ذهب، ولا بطلًا عضلاته من حديد، ولا أميرًا جلده من ديباج، ولا وزيرًا وجهه من حجر، ولا غنيًا جوفه خزانة، ولا فقيرًا علقت في أحشائه مخلاة! ألا ويحك أيها القبر! لم لا تأتي إلا في الآخر؟ ولم لا تضع حدود معانيك بين الأحياء بعضهم من بعض حتى يقوم بين الضعف والقوة حد المساواة، وبين النفوس والشهوات حد التقوى، وبين الحرام والحلال حد الله! يا شقاء أهل الأرض! أما أنهم لو وضعوا فيها موضعًا من العناية لما كان الإبهام في السريرة، ولا كانت الغفلة في النفس، ولا كان النسيان في الطبع، ولولا هذه الثلاث في هذه الثلاثة لما كان المجهول البشري كله في شيء واحد وهو القبر.
إن أحزاننا وهمومنا ودموعنا هي كل المحاولة الإنسانية العاجزة التي نحاول بها أن نكون في ساعة من الساعات مع أمواتنا الأعزاء! هم يأخذوننا إليهم اختلاجًا وانتزاعًا في هذه الأحزان والهموم والدموع، فكأنها أمكنة تخلق من الأثير الروحي وتتجسم من معانيها كي تصلح أن يلتقي فيها روح الحي وهو حي بروح الميت وهو ميت، كما يتلاقى روحا الحبيبين في قبلتهما أول مرة إذ يخلق قلباهما لهذا اللقاء جوًا أثيريًا من الزفرات واللوعات بين الشفاه المتلامسة.
أو لعل الموت كما يجرد الحي من روحه ينتزع من أهله شهوات أرواحهم فيميته مدة من الزمن في القلب وفي العين وفي الفكر، وبذلك يرد جميع المحزونين إلى المساواة، فأهل كل ميت وإن علا كاهل كل ميت وإن نزل، وتموت بالموت الفروق الإنسانية في المال والجاه والقوة والجمال، حتى لا يبقى إلا الدمعة واللوعة والحسرة والزفرة، وهذه أملاك الإنسانية المسكينة! يا هم من يحس ويعرف ويرى كيف يموت العزيز عليه وكيف يتحول من يحبه إلى ذكرى! إن ما يعمل في القبر يعمل قريب منه في القلب!.
وما يعرف الحي أن الذاكرة فيه هي حاسة اللانهاية إلا حين يموت له الميت العزيز، فلا يكون في الدنيا وهو في ذاكرته بمعانيه وصورته لا يبرحها.
وليس ينزل الحي من أمواته في القبر إلا من يقول له إنني منظرك إلى ميعادا! أما لو عقلها الأحياء لعرفوا أن الموت وحده هو ناموس ارتقاء الروح ما بقيت في الدنيا، ولكن ضجيج الشهوات- على أنه لا يعلو رنة كأس ولا يغطي همسة دينار ولا يخفي ضحكة امرأة- يطمس على الكلمة الأزلية التي فيها كل قوة الصدق وكل صراحة الحقيقة، فإذا هي خافتة لا تكاد تثبت، غامضة لا تكاد تبين! أذلك سحر الحياة فينا، أم سوء استعدادنا لها، أم شراهة الجسم من لذة الحياة لابتلاع كل ما في الكون منها، أم حماقة الكأس التي تريد أن تغترف البحر لتكون له شاطئين من الزجاج، أم بلاهة الإنسان الذي يريد أن يطوي فيه معنى الخالق ليكون إله نفسه..
ويحه من غريق أحمق يرى الشاطئ على بعد منه فيتمكث في اللجة مرتقبًا أن يسبح الشاطئ إليه ... ويثبت الشاطئ ويدع الأحمق تذوب ملحة روحه في الماء! اسبح ويحك وانج، فإن روح الأرض في ذراعيك، وكل ضربة منهما ثمن ذرة من هذا الشاطئ.
1 / 8
كذلك ساحل الخلد: يريد من الإنسان الذي هو إنسان أن يبلغ إليه مجاهدًا لا مستريحًا، عاملًا لا وداعًا يلهث تعبًا لا ضحكًا، ويشرق بأنفاسه لا بكأسه، وينضح من عرق جهاده لا من عطر لذاته.
إن روح النعيم الأرضي في ذراعي الغريق الذي يجاهد لينجو، وروح النعيم الأزلي الحي يجاهد ليفوز!.
الفقر والفقير
قال "الشيخ علي": يا بني، إن في تاريخ الحياة سؤالًا لم تزل تلقيه أطماع الناس في كل عصر من عصورها وما إن تصيب له جوابًا مقنعًا، لأن الطمع ليست له طبيعة محدودة، فهو يرمي بسؤال غير محدود ويريد بطبيعته جوابًا غير محدود.
هذا السؤال واحد من ثلاثة هي حقائق الإنسانية الضالة عن الإنسان نفسه في غيب الله.
يقول الإنسان: ما هي الروح التي تعطي الحياة؟ وتقول آماله: ما هو الموت الذي يستلب هذه الحياة؟ وتقول أطماعه: وما هو الفقر الذي يجمع على الروح بين الموت والحياة؟ كذلك يتساءل: ما هو الفقر؟ على أنه غير الفقر ذلك السؤال الذي تجد في كل نفس إنسانية معنى من جوابه، ولا غير الفقر ذلك القبر المعنوي الذي لم يخلق الله نفسًا من النفوس إلا ولها ميت من الأمل في ترابه، بلى، وإذا كان في لغات الأفواه لفظ خالد فإنما هو الفقر، وإذا كان في هواجس القلوب معنى خالد فإنما هو خوف الفقر، وإذا كان للدموع الإنسانية مصب واحد تلتقي إليه من جهات الأرض فإنما هو بين شاطئين إن جاز أن يكون أحدهما الحب فإن من المحق أن أحدهما الفقر! إن هذه الأرض لتصبح في كل يوم، ولا يمكن أن يقال بحق إن فيها عملًا إنسانيًا عامًا غير طلب المال، فأحر بها أن تمسي في كل يوم، يمكن أن يقال إن فيها معنى إنسانيًا عامًا غير راجع إلى الفقر.
ويقولون إنها تدور حول قرص الشمس، وهو قول فلكي أو سماوي يصح إطلاقه على الأرض كهيئتها يوم خلقها الله، أو على الأقل كما خلقها، أما الحقيقة الأرضية فإنها تدور حول قرصين: قرص اللهب، وقرص الذهب، ويا لله الفقير! إنه دائمًا في الجهة المظلمة.
الفقر متى ألقيته سؤالً عاد إليك بجواب نفسه، لأنه فصل من كل عمل، كالشتاء فصل من كل سنة، وليس في الناس جميعًا من يصدق إذا ادعى أنه لا يعرف الفقر، غير اثنين لا خير فيهما: غني جن من فرط الغنى، وفقير جن من فرط الفقر، فالأول لا يعرف هذا الفقر في جنونه لأنه جن بغيره، والثاني لا يعرفه لأنه جن به.
ولكن من هو الفقير؟ من هو الكائن الضعيف الذي أحاط به الجهل حتى إنه ليجهل نفسه، وأينما يول وجهه أشاح عنه الناس بوجوههم فلووا رؤوسهم، وصعروا خدودهم وأمالوا أعناقهم، حتى كأن كل رأس في التواء عنقه من الأنفة والاستكبار يمثل علامة استفهام الحياة في وجه هذا المسكين أو يقيم علامة إنكار ...؟! من هو هذا الحي الذي تنكرت له الدنيا حتى أصبح فيها كأنه نوع شاذ من الخلق يقوى على كل شيء حتى الطبيعة، ولكنه يضعف عن شيء واحد وهو الغني، فقضت عليه شرائع الاجتماع أن ينفق من حياته أضعاف ما يكسب لحياته، وإذا لم يجد ما يطعمه الجوع فأطعمه من جسمه فذلك عليه يسير، وإذ سال في الشمس وجمد في البرد فهو عند الأغنياء ذو طبيعتين لأنه ليس مثلهم ولأنه فقير ...؟ ومن عسى أن يكون هذا القوي الذي يختصمه الاجتماع كله ويخشى أن يرتفع فيكون "قاضيًا" عليه، ويأخذه اليوم بالجناية وهو الذي أوحاها بالأمس إليه؟ ومن هذا الذي يرى المجتمع أنه إذا قدر للشريعة أن تلحد في قبر فلن تدفن إلا في هاوية من مطامعه، وإذا حكم الله على عصر من عصور الجبابرة بالشنق فلا تكون المشنقة بجذعيها وحبالها إلا من ذراعيه وأصابعه ...؟ من هو الذي يجف ريق الأرض لو جف عرقه من ترك العمل، ويخيب أمله مع ذلك في كل غني وهو نفسه للأغنياء أكبر أسباب الأمل، يدلون عليه بالغنى ولولا أن في فضتهم عنصرًا من دمعه القيم لما وجدوا لها قيمة، ولو لم يكن في ذهبهم روح من دمه الكريم لما عد أفضل المعادن الكريمة؟ قال "الشيخ علي": ذلك يا بني هو المدرج في أكفان النسيان، الذي ليس له في الناس إلا "منكر ونكير"، ذلك هو البائس في بني الإنسان الذي يكثر عليه القليل ويقل منه الكثير، ذلك هو المتناقض في نفسه حتى لا يصغر أن يقال في صغير ولا يكبر أن يقال فيه كبير، ذلك هو الذي يشبه أن يكون عمله حركة فلكية في الأرض للآلة الغني- ذلك كله هو الفقير!
1 / 9
وبالله! ما تحمل الأرض إنسانًا واحدًا لا يخشى عادية الفقر ولا يتعوذ بالله منه، ولا يرى يومه في هذه الأرض كأنه الآخرة قبل الآخرة، يقوم الفقير حسابها وعذابها، ويستعيذ برحيمها، من جحيمها، ويفر من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، ويضع في ميزانها المنصوب آماله، فلا يزن إلا أعماله، ويستصرخ كل من يمر به فلا يسمع إلا قائلًا يقول: نفسي نفسي ... فينظر فإذ هو في الناس ضائع حتى لا يعرف له محل، ومنفردا حتى لا يجد بينهم لشخصه ظلا، وإذا هو بالسماء وقد التهبت بأقدارها حتى كأنها في عينه جمرة من البرق الخاطف، وإذا الأرض قد ثارت بأهلها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، فإن أقبل على الناس فروا من أماكنهم كأنه زلزال تمشي، وإن استصرخهم نفروا كأن في صوته فزع الرعد القاصف.
يا لله! ما تحمل الأرض إلا من يعرف هذا كله من الفقر بل أشد منه، ثم يبقى الفقير ويا لهف أرضي وسمائي عليه! كأنه مسألة في حساب الناس لا هم لهم فيها إلا كثرة الطرح والضرب ثم الغلط في النتيجة ... وتنحاز طبائع الناس كلها في جهة والفقر وحده في جهة حتى لا يرى هذا المسكين في العالم على سعته غير اثنين: هو واستبداد الغني.
ترى أين تكون شرائع الآداب إذن؟ هل هي في ضمائرنا، أم هي في كتبها، أم هي في تاريخها الميت القديم، أم صار الحق كله إنسانيا بحتا: لي عليك ولك علي وليس لله علينا شيء، وفصلنا أنفسنا من السماء وقطعنا الروابط التي كانت تربطنا بها ونبذناها فرثت ثم رثت فإذا هي على أجسام الفقراء تلك الأسمال البالية؟ إن هذه الحقوق متى أصبحت إنسانية محضة ليس فيها لله شيئا، فكل درهم يوضع في يد الإنسان يجعل فيه عقلا يحكم على عقله، وكل رغيف يستقر في معدته يخلق فيها ضميرا يستبد بضميره، فينفصل الإنسان من الله ويبتعد عنه بمقدار ما يقرب من الغنى، وحسبه يومئذ في اعتبار بعيد جدا عن الله ورحمته أن يقال إن بينه وبين ربه مسافة ألف دينار ذلك بأن عدل الله يقضي أن يكون للفقير قسمه من الثروة، وإنما الجزء المهم من هذه الثروة هو الإحساس في ضمائر الأغنياء.
والأدلة على هذه القضية قضية الحقوق الإنسانية كثيرة تفوت الحرص لأن كل صاحب ربا قد جمع مال السحت من استئكال الناس إنما هو في نفسه دليل عليها، ولعمري إنه وليس أحد أخيب رجاء ولا أحق بأن يخيب، ممن يسأل المتهالك على الربا الذي يستنبت دراهمه بين الأحزاب والدموع إحسانا لوجه الله، فإن هذا الذي لا يعرف الله فيما يأخذ كيف يعرف الله فيما يعطي؟ قال "الشيخ علي": ولماذا نرى يا بني جفاة الأغنياء يخشون من الفقر على أنفسهم وأهليهم فقط ولا يخشون منه على الفقير؟ أظنهم يقولون إن في الأرض شيئين بمعنى واحد: قبور الأموات في بطنها، وأكواخ الفقراء على ظهرها، وليس من فرق بينهما في النسيان لأنه يشملهما جميعا، وإنما الفرق بينهما في حاليهما المتناقضتين، هذا قبر ميت وهذا قبر حي ... نعم صدقوا أبروا وقالوا حقا، أليسوا جفاة القلوب غلاظ الأكباد؟ وإلا فما الفرق بين موت منسي كموت الغريب، وحياة منسية كحياة الفقير، إلا على الفرق الذي لا يبالي به هؤلاء الأغنياء حين يكون لأحدهم ظاهر حي وضمير ميت؟ وأحسب أولئك الطغاة يقولون، إننا نرى الفقير لا يملك من الأرض شيئا محدودا بل هو يملك أرض الله كلها بحدودها الأربعة.. ففقر فلان التاجر الغني مثلا ليس هو في الحقيقة أن لا يصيب القوت ولا يجد المأوى كغيره من الفقراء، وإنما هو المتاجرة في الآمال، بعد الأموال، وقبض الريح، واستقبال الأبواب والجدران، بعد استقبال الأصحاب والجيران، وهام من هذا الباب الذي يفتح من جهة الغنى على سائر الجهات الثلاث للحياة البائسة: وهي الفقر، والمذلة، والألم، وإنما هو رجل ككل رجال المال متى خرج المال من يد أحدهم خرج اسمه من أفواه الناس وحرج حبه من أفواه الناس وخرج حبه من قلوبهم، ويكون من أهل السعادة لو خرج هو أيضا من الدنيا ...
1 / 10
قتل الإنسان ما أكفره! لو أن غنيا فقد جبلا من الذهب وأصاب رغيفا يتبلغ به لكان ذلك أيسر في مذهب الإنسانية من أن يذهب البائس المعدم فيتكفف الأبواب ويستكف الناس ثم لا يتخلص منهم رغيفا يمسك به الرمق على نفسه ويقيم منه بابا حاجزا يمنع الجوع أن يدخل إليه الموت وأن يخرج منه الروح، ولكن مصيبة الإنسانية في أهلها أن الله لم يخلق إلا صنفا واحدا من الناس، على أن كل إنسان يظن أنه ذلك الصنف الواحد ... فالغني إذا تصور الفقر وهو لا يزال في غناه، لا يتوهم إلا اختلال نظام الأقدار، واضطراب حركتي الليل والنهار، بعد أن يهوي كوكب سعده الذي يسك من كل ذرة في أشعته دينار ... وهو لا يرى بهذا الفقر إلا نقمة هابطة من السماء ولعنة صاعدة من الأرض قد التقتا عند رأسه الشامخ في جو كبريائه فاصطدمتا به فإذا هو مكب لليدين وللفم عند أقدام الناس وإذا هو فقير! هذا هو الفقر في أوهامهم، ولكن لا تنسى أنه فقرهم فقط ... فقر المال المترابط في مكانه أو الذاهب في حلوق الأرض وبين أضلاعها، أما سائر الناس فهم عند هؤلاء أهل باطل ودعوى، يزنون بكل ريبة، ويقرفون بكل تهمة، إذ ينتحلون الفقر ويدعونه ليعادوا نعمة الغني بالحسد، فالجوع فقر، والمرض فقر، والتعب فقر، والضجر فقر، واشتهاء ما ليس لهم فقرا، وقلة الأصحاب فقر، وحتى ولو أن أحدهم سخطته زوجه لنسب ذلك إلى الفقر، وبالجملة فكونهم ليسوا كالأغنياء هو الفقر.
فإذا كان الفقر كل شيء عند هؤلاء الحمقى فما هو الشيء الذي يسمى الفقر؟ من أجل ذلك يا بني ترى الأغنياء يخشون من الفقر على أنفسهم وهم أنفسهم لا يخشون منه على الفقير، لأن هذا الفقير برأيهم قد أصبح شخصا أخر لا صلة لهم به ولا عهد، فهو يكذب على الحوادث والحوادث تكذب عليه، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فإذا انخدعوا له بمقدار ما يتعجبون من سخافته، وإذا أعطوه كان العطاء سخيفا بمقدار ما ينخدعون، ولا ينظرون لأثر الله عليه ولكن لأثره على نفسه، إذ الحقوق عندهم حقوق إنسانية، فهيهات يختلج في نفس أحدهم أن لو شاء الله لوضعه في ثياب هذا الفقير ولوضع الفقير في ثيابه.
أترد مثل هذا الغني الجلف المتسكع إلى الدين؟ إنه هو في نفسه دين وشريعة أيضا ... أتبصره بالإنسانية؟ فمن هو إذا ويلك إن لم يكن من صميم هذه الإنسانية وعين أهلها بل إنسان هذه العين! أما الحق فاذكر بربك أمواله تعلم أن"الحق في يده" ... هكذا يعطى المال أهله حتى فضائل غيرهم، ويسلب الفقر أهله حتى محاسن أنفسهم، وهكذا لا تجد المال أبدا إلا نعمة ناقصة، ولن تتم هذه النعمة إلا إذا رزق الإنسان مع الغنى أخلاقا تكفيه شر الغنى، ومن أجل هذا كان من الأمور الطبيعية أن تجد العقل في إنفاق المال أشد ارتباكا منه في جمع المال.
قال "الشيخ علي": ولابد من صلة معنوية بين جميع الناس على ما يكون بين الإنسان والإنسان من التباين والاختلاف في كل شيء، حتى بين الأخوين تلدهما الأم الواحدة، وهما مهما اتفقا في الحياة ومظاهرها فإنهما لا بد مفترقان افتراق الثديين اللذين ارتضعا منهما الحياة، فما عسى أن تكون هذه الصلة العامة بين الناس؟ تقول الشرائع أن الصلة التي تجمع بين الناس بعضهم ببعض هي العدل! وتقول العلوم إنها العقل، وتقول الآداب أنها شيء من العدل والعقل يكون الإنسانية في الضمير، وتقول الحياة أنها سبب الإنسانية وهو الرحمة، ثم يرعد صوت إلهي يقصف من جهة السماء التي هي مصدر العقل والعدل والإنسانية والرحمة فيصيح بكل ما في هذه الأشياء من القوة ويقول: كلا! بل هو سبب الرحمة ومظهر الإنسانية، وكمال العقل، وفضيلة العدل، وهو الفقر!
1 / 11
من الذي ولد وفي يده قطعة من الذهب؟ ومن الذي مات وفي يده "تحويل" على الآخرة؟ لقد وسعت الخرافات كل شيء إلا هذا، فما لنا نتخذ في البدء والنهاية ثم نختلف في الوسط؟ ذلك لأن بدءنا من طريق الله ونهايتنا في طريق الله، ولكن الوسط مدرجة بيوتنا ومصانعنا وحوانيتنا، وبكلمة واحدة هو طريق بعضنا إلى بعض....وحينما التقى الإنسان بالإنسان فإما أن تلتقي المنفعة بالمنفعة وإلا المنفعة بالمضرة، فلا بد من انتفاع أحدهما أو كليهما، ومن ثم يقول البخلاء: ما الذي ننتفع به من رحمة الفقير؟ وماله يريد أن يتحيفنا كأنه روح الجدب، وأن يتعر قنا كأنه روح المرض؟ وماله يريدنا على أن نسيء من أجله المس في أموالنا كأنه روح الإفلاس؟ أو لا يكفيه أننا لا نرزؤه شيئا، وأننا نفضل عليه فتعتد الدرهم الذي نمسكه عنه كأنه درهم أخذناه منه، وبذلك لا يضرنا ولا ننفعه بشيء، ومن الجهة الأخرى لهذا القياس يكون قد نفعنا ونفعناه بلا شيء....؟ قاتل الله البخل وقبحه، فما هو إلا حرص على المنفعة يشبه عبادة الوثنيين لكل ما توهموا فيه المنفعة، وإن كان للحواس نوع من الكفر بالله فكفر اليد في إمساكها، وإن الله لرحيم إذ لم يعاقب البخلاء بما يعاقبون به الناس، فليس بين كل بخيل وبين الهلاك إلا أن ينقل الله "الإمساك" من يده إلى جوفه!..على أن البخل إذا لم يكن بقية من الوثنية القديمة بعينها فهو على كل حال نقص من الإيمان، لأن الله وعد المحسنين والمتصدقين ثواب ما أنفقوا مكفأة على فضيلة الإحسان، ثم أن يخلف عليهم ما أنفقوه أضعافا مضاعفة، إذ المحسن لا يجود بدراهمه على الله ولكنه يقرضه إياها قرضا حسنا متى وضعها في يد الإنسانية الفقيرة، فمن أمسك عن الإحسان بخلا فإنما يشك في وعد الله، وإلا ففي قدرة الله، وإلا ففي الله نفسه، فأكبر البخل عند أكبر الكفر وأصغره عند أصغره، ويوم يخرج الإيمان من قلوب الأغنياء تخرج أرواح الفقراء من أجسامهم فيموتون بالجوع والعري وبالمرض وغيرها من أسباب الموت، وكلها مظاهر متعددة لسبب واحد هو في الحقيقة كفر الأغنياء كفرا في الضمير لا كفرًا في اللسان.
ومن هنا يا بني لا تجد الفقير في أي من العصور إلا جهة من الخلل في نظام الاجتماع الإنساني، كما أن البخل جهة من الخلل في نظام النفس الإنسانية، والفراغ الذي يجده الفقير في بيته إنما هو موضع النعمة الضرورية التي بخل بها الغني، وهو في الحقيقة موضع التفكك أو الكسر في الآلة التي تديرها شريعة الاجتماع.
الإنسان إنما خلق اجتماعيًا، وهو بشخصه لا قيمة له ولا منفعة إلا حيث يكون شخصه جزءًا من مجموع، لأن اليد الواحدة في الجسم ولو كانت يد ملك وكان فيها زمام العالم، فإنها لا يفارقها عيب أختها المقطوعة.
وكل خلل في النظام الاجتماعي فإنما مرده إلى طغيان بعض الأفراد وجنوحهم إلى أن تكون شخصية الواحدة منهم من الكبر والعظمة بحيث توازن المجموع كله أو أكثر المجموع، إن هذه الموازنة الفردية متى اتفقت كانت إخلالا بالموازنة الاجتماعية، لأنها تجعل كل حركة من هذا الفرد زلزلة في المجموع، كالثقل في إحدى كفتي الميزان، إن خفت سقطت الكفة الأخرى وإن ثقل شالت، وهو السقوط إلى فوق! ...
والموازنة الاجتماعية لا تتهيأ إلا إذا تطبعت قوى المجموع فاندفقت في تيار واحد إلى جهة معينة، ولكن الموازنة الفردية لا تستقيم إلا إذا جاءت من عكس هذه الجهة، فتصد قوة المجموع وتبقى دائما ذات قوة على صدها من الغلبة، فإن ضعف خصمه يعطيه منها أكثر مما تعطيه قوة نفيه، ولا يكون ضعف المجموع إلا من حصر الشخص العظيم قوة عقله ونفسه وضميره في هذا السبيل الفردي، لتكون منه الشخصية الهائلة التي تشبه ما كان في تاريخ الوثنية من شخصيات الآلهة وأنصاف الآلهة.
وقد أضطر الناس لذلك من عهد اجتماعهم في نظام أو شريعة إلى ابتداع الوسائل للتوفيق بين قوة الفرد وقوة المجتمع، حتى لا يستشري الداء في الموازنة الاجتماعية فيفسدها ويوقع الخلل في نظامها، ولكيلا تكون خيرات المجموع كلها في معدة واحدة، وحتى لا يبقى الناس أرقاما يعدهم الغني المستبد كما يعد دراهمه لأنهم ثروته الحية!
1 / 12
غير أن هذه الوسائل على اختلافها لم تكن ولم تزل إلى عهدنا عهد الاشتراكية العلمية إلا ثورات هي مهما كانت فإنها أشبه شيء بجموح الحيوان إذ يحمي أنفه فيجمح ثم يسترسل في جماحه ثم يشتد حتى يعتز صاحبه على رأسه ويملك نفسه منه، ثم ماذا؟ ثم يسكن مكرها بعد أن جمح راضيا، فإن لم يسكنه الألم من صاحبه أسكنه التعب من نفيه، لا يكون بالتخلص من إنسان بعينه.
ومن هذا يا بني ترى أن الإنسان لا يعيش فردا ولكنه حين يموت يموت فردًا، فإذا رأيت فقيرًا منبوذًا من الاجتماع منفردًا عنه، لا يساهمه في علمه وعيشه، بل كأنه يعيش في بقعة مجهولة من الحياة، فاعلم أن إهمال ذلك الفقير إنما هو نوع من القتل الاجتماعي.
ههنا قاتل ومقتول: لم يأخذ القاتل بحق من الحقوق ولا ثأر لنفسه ولا قتل بيده، أما المقتول فإنه لم يقتل في إثم اجترحه ولا هو جنى على نفسه الضعف الذي أرهقه وبلغ منه حتى جعل إهمال القوي إياه كأنه حكم عليه بالقتل، فترى على من تكون هذه التبعة، وهي بالتحقيق ليست على القوي لقوته ولا على الضعيف لضعفه؟ هناك اثنان: رجل في الماء وآخر على الشاطئ، فأما الذي في الماء فليس بينه وبين الموت غرقا إلا نفس واحد مبتل ينسل بالماء من حلقه إلى رئتيه وهو يرى بعينه الموت دائبا في حفر قبره المائي، فليس الموج الذي يتكفأ به ويتناثر من حوليه إلا ما تثيره يد جبار الموت من غبار ذلك القبر وتحثوه في وجهه بنزق وغضب، بعيد عن الأحياء حتى بعد عن أن يكون له قبر بينهم ولا صلة بينه وبين الحياة الأرضية إلا نظرات ذلك الرجل القوي الذي يتراءى في عين الغريق كأنه صخرة راسية على الشاطئ لها قوة وليس لها إرادة، ولكن هذا الذي يشعر بصلابة الأرض تحت قدميه ويحس القوة من يده وعضلاته، يشعر أيضا من بمعنى من الصلابة في قلبه وقد جاء إلى الشاطئ ليتنفس من تلك النسمات التي يتنهد بها صدر السماء فتكون أرواحا للأمواج تبعث فيها حركة الحياة. ما له ولهذا المنظر؟ سواد يطفو على الماء كأنه هنة من المتاع الخلق أو حذاء قديم أو ريش تحسر عن طائره، أو رأس رجل يغرق، وما دفعه بيده إلى الماء فيكون حقا عليه أن يستنقذه، ولا كان الغوص من صناعته فيعتمل في إخراجه ليخرج معه أجر عمله، وهو قوي ولكنه قوي لنفسه لا للضعفاء، وقد جاء ليروح عن نفسه، وإنقاذ الغريق عمل آخر، وربما أنشبه في حلق الموت ... أخذ فيما جاء له وما زال يموج في جلده ويتنفس ملء صدره من الهواء ومن زفرات الإنسانية التي تنشق لها غيظا، ومن لعنات ذلك الغريق الذي بدأت حياته تذوب كما ينماث في الماء حتى آن له أن ينصرف وترك الرجل يغرق وهو يقول: لا بأس أن ينقص عدد أهل الأرض واحدا فهم كثير!....
ترى على من تكون هذه التبعة أيضا؟ إذا أردتم أن تعرفوا ذلك فإنكم تستطيعون أن تحققوه بدون أن تكونوا شرطة أو قضاة أو أهل قانون أو رجال فلسفة، ولكن بأن تكونوا من ذوي الإنسانية فقط، فإن الإنسانية لا ترى في الأرض إلا الضمائر، وما هذه الأجسام إلا أدوات صناعية ركبت هذا التركيب لتصلح لحياة الضمير، فالرجل قد مضى بريء اليد، بريء القوة، بريء العقل، إذ هو لم يقتل، ولم يجن على القتيل، ولم يحتل لقتله، ولكن الإنسانية حين تنادي الضمائر بأوصافها فتقول: أيها الطيب، وأيها الكريم، وأيها الشقي السافل، تصيح بضمير هذا الرجل قائلة: أيها القاتل! ...
إذا لم يقر الأغنياء لأنفسهم بالضمائر ولم يلحقوا بها التبعات التي تناسبها فهل هم في ذلك إلا كالمجانين لا تقر لهم الشرائع بالعقول وتخيلهم من تبعة ما يجنون على العقلاء لأنهم مجانين؟....وكيف ترى ذلك الغني الفظ الذي يهر في وجوه الفقراء ويزمجر عليهم كأنه ينبحهم بلغة من لغة الكلاب ... ولا يفتأ يقذفهم بالألفاظ الجاسية المؤلمة كما يقذف المجنون بالحجارة ... وإذا أعطاهم فإنما يعطيهم بقضية فارغة ... وهو لا يوقر أبدا إلا من فوقه، كأنه لا يرى في الدنيا كلها أسفل من نفسه ... ولا يبالي إلا بمن يطمع فيه كأنه جالس في (مكتب أحد المخدمين) ..وقد تساوي في الدناءة والكلف بالدنيا وقذارة الطباع ظاهره وباطنه كأن ضميره لبسه مقلوبا ... وصار أمر رضاه وغضبه وإحساسه وحيائه موقوفا على ما يكون من أمر المعاملات، كأن أخلاقه ليست في نفسه ولكنها في أيدي الناس، فليس مثل الغني الدنيء رجلا عاقلا؟
1 / 13
بلى، وإنه لأعقل من كل من يمدحه ويزكيه ولو كان هذا المثنى عليه أكبر علماء الاقتصاد، ولكنه على ذلك مجنون الضمير بحيث لا يعقل إلا بحواسه! ولو أنصفت القوانين لما لبست مثل هذه الحرية الإنسانية على رذيلتها، ولجعلت من نصوفها القاطعة ما يكفح مثل هذا الغني ويتلقاه بلجامه، لأنه في الحقيقة ليس رجلا ولكنه دابة اجتماعية! قال "الشيخ علي": ومن بديع حكمة الله أنه وضع للإنسانية أصلًا من أصول نظامها في ضمير الإنسان فترك له أن يقترف ما شاء من الإثم والمنكر ولكنه جعله من الإحساس بطبيعة الخير والشر بحيث يكون له من الذنب نفسه العقاب على الذنب، حتى إن شر المجرمين ليستعين على مقارفة جرمه بإقناع الضمير بديًا وأخذه بالحجة من هواه، فيخطر في نفسه ما ينزو بها، كالشجاعة والنخوة، أو ما يتوهج بروح الغضب في دمه، كالانتقام ونحوه، وما يطمئن له الضمير في معنى الجناية، كمدافعة الضرر وما إليه! وبالجملة فإن أول ظلمه عدلًا أو شبيهًا بالعدل، حتى لا يلتوي عليه أمر نفسه إذا خذله ضميره، فإن اضطراب هذا الضمير يتصل اتصال الكهرباء بأيدي المجرمين فإذا هو فيها شلل، وبأرجلهم فإذا هو زلل، وبنظامهم العصبي فإذا هو خلل، وبعقولهم فإذا هو المس والخبل، وإذا لم يفلح الجاني في إقناع ضميره أو التلبيس عليه تخلص منه ففصل بينه وبين العقل بالسكر وما هو حكمه حتى لا يشهد من أمره شيئًا.
أفلا تجد في تخدير أكثر المجرمين لضمائرهم ساعة الجناية دليلًا على أن الضمير الذي يشهد الذنب إنما يتلقى العقاب عليه؟ ولماذا تدفع الجريمة على الجريمة غالبًا؟ أليس ذلك لأنها إنما تقتضي عقابها الطبيعي؟ ثم ماذا يكون بعد أن يضرب الشقي تلك الحاسة الروحية التي نسميها الضمير ويرميها بالشلل- إنه ينحط درجة واحدة، ولكنها درجة الضمير التي لو جازها الحيوان لصار إنسانًا، ولو نزل عنها الإنسان لعاد حيوانًا، فلا يبقى فيه من ثم إلا الفطرة الحيوانية التي تجعل عقل الحيوان مرة في القوة ومرة في الضعف، فإن أحس القوة على خصمه كان العقل في الظلم بكل ضروبه وأشكاله، وأبى هذا العقل الحيواني أن يترخص في شيء هو من حقه بالقوة، وإن أحس من نفسه العجز والضعف ورأى أن لا قبل له بخصمه فكفى باتقاء الظلم عقلًا ...
يا بني! إن أفقر الفقراء ليس هو الذي لا يجد غذاء بطنه، ولكنه الذي لا يستطيع أن يجد غذاء شعوره، فلا تحسبن أن مع جنون الضمير وجفوته ومرضه سعادة وراحة، لأن لذة المال لا تتجاوز الحواس الظاهرة فهو يبتاع لها كل شيء مما تشتهي ولكنه لا يستطيع أن ينيل القلب شيئًا إلا إذا جاءه بالخير والفضيلة.
والغني الذي يمنع الفقراء ماله قد يزيد فيه ولو حكمًا بمقدار ما يمنع.. بضعة دراهم، أو بضعة دنانير، ولكنه يزيد ضميره جفاءً بالقسوة والغلظة ونسيان الفضيلة، ولا يزال على ذلك حتى يمر به يوم يفقد فيه ضميره كل شعور بالخير فيفقد معه كل شعور بلذة النفس التي أقرب المعاني إلى مغنى السعادة ...
... ويومئذ لو اشترى كل لذات الدنيا بماله ما زادته إلا ألمًا من الضجر وضجرًا من الألم، لأنه فقد قوة من ضميره تقابل القوة التي يفقدها المريض من معدته.
فلينظر الفقير الجائع وقد أخذه كلب الجوع وسطع في عينه وهجه ودارت به معدته ذات اليمين وذات الشمال- إلى رجل غني ممعود في كفه معنى الحياة وفي جوفه معنى الموت، وقد ابتاع مما تشتهيه معدة خياله التي لا تشبع لأنها لا تنال شيئًا، وأسرف بالمال في حتى استجمع الكثير الطيب، ثم انقلب إلى داره بعين من ذلك الذئب تكاد أشعتها تنضج الغذاء من حر نظراتها إليه.
... سلوا صاحبنا الفقير يقل لكم أي لذة يا قوم تكون في غير هذا الطعام يقتل به داء البطن وتنفتق عليه الخواصر شبعًا وسمنة. وهل هذه إلا روح مائدة من موائد الجنة، فيها ما تشتهي الأنفس وتقر الأعين؟ ثم سلوا الممعود المسكين يقل لكم وهو صادق صدقًا يتمنى بما ملكت يداه من الدنيا لو أنه كذب، يقل لكم: تالله ما أجد في هذا كله ولا في بضعه من لذة ولا سعادة، ولو أبحته جوفي لكان الموت بعينه!
1 / 14
إذن فلا بد في كل شيء إنساني من حقيقة باطنة في نفس الإنسان تعطيه بصحتها أو مرضها قوة اللذة أو الألم، وبهذا يقضي العدل الإلهي كل ذي حق بالنصفة والسوية، لا فرق بين الغني في غناه وبين الفقير في فقره، فلكل منهما لذة وألم، ولعلنا لو سألنا أغنى الناس عما هي لذة الغني لرأيناه في حقيقة التعاسة النفسية كأفقر الناس إذا أجابنا عما هو ألم الفقر.
وقد فطر أكثر الخلق- لطبيعة الخوف المتمكنة منهم- على أن يتسعوا في فه الآفات وحدها، حتى صار الوهم الخيالي أكبر الآفات الحقيقية، فالفقير الذي لا يفهم حقيقة الفقر يتألم بإدراك ووهم وفلسفة، إذ يقيس حاضره على ماضيه وعلى ماضي غيره من الفقراء، ويقيس مستقبله على حاضر الأغنياء ومن في حكمهم فقط، وبهذا ألمه عملًا عقليًا في شيء موهوم، فما دام يتمنى أكثر مما يستحق فهو يتألم بأكثر مما يستحق، ولو تأمل الناس لرأوا أن نصف الفقر فقر كاذب، فآه لو كان مع ضعف الفقر قوة الإرادة! إذن لوجد الحكماء في الأرض شيئًا حقيقيًا يسمونه الغنى.
أيها الناس، إن الفصل بين الغنى والفقر من الأمور التي تتعلق بالضمير وحده، ورب غني يزيد أهله بالحرص والدناءة فقرًا فانظروا فيها، فأفكار إلهية لا تطلب إلا الفضيلة التي يمكن أن تكون بلا ثمن، ولا يمكن أن يكون شيء ثمنا لها. انظروا إلى بعض الأغنياء الذين تموت في قلوبهم كل موعظة إنسانية أو إلهية فلا تثمر شيئًا حتى إذا ماتوا نبتت كلها من تراب قبورهم فأثمرت لنفوس المساكين والفقراء عزاء وسلوة وموعظة من زوال الدنيا، انظروا بعين الحقيقة التي تعطي هذه الطبيعة النظر فتعطيها محاسن الطبيعة الفكر.
انظروا في باطن الإنسان بالفضيلة التي هي من نور الله، وبالحقيقة التي هب من نور الطبيعة، فإنكم لا ترون حقيقة الغنى تبتعد عن حقيقة الفقر إلا بمقدار شبر واحد، وهو ملء هذه المعدة!
مسكينة! مسكينة!
قال "الشيخ علي": واسمع الآن يا بني ما أقص عليك، فإني محدثك بخبر ليتني ما علمته، بل ليتني إذ علمته ما وعيته، وليتني إذ وعيته ما أثبته ولا نفذت فيه كما نفذ في.
ولكن الحياة كما تقضي علينا أن نسهد أموات الأحياء ونحملهم إلى أبواب الآخرة من تلك الحفر، تقضي علينا أن نشهد أحياء الأموات من أهل الرذائل ونحمل من أخبار ضمائرهم الميتة إلى أبواب السماء في أنفسنا!.
فواهًا لك أيتها الحياة الدنيا! تقتلين بالشر وتجرحين بأخباره ولا تؤتين عسل الحكمة إلا بعد لسع كثير..
وقد علمنا أن كل شيء يسير فإنما هو يذهب في طريق يتهدى أو يتعسف. وكأن الأسف على أهل الشر لم يجد له طريقا في هذه الحياة إلا من ضمائر لا أهل الخير، وبهذا يضرب الشر أهله وغير أهله.
كانت لنا يا بني في هذه القرية النضرة فتاة بائسة ضاق بها العريض من هذا البر فخرجت إلى بعض المدن تستطعم الحياة، فحدثتني أنه استضافت حتى كأنما كانت تنفذ إلى رزقها من شق في صخرة فسدت عليها، فلا وراء ولا أمام وأعجزها حتى المعاش الملفق.
وخرجت يومًا على الناس وكأنها لقذارتها قطعة ممن الحياة البالية مدرجة في بعض الأطمار، أو روح من الهواء تمشي ساكنة في أردية من الغبار، وما تحصي العين تلك البقع المنتشرة في ثيابها، كأنها أرقام للفقر يعد بها ليالي عذابها، وهي علم الله بقع، أشأم منها أنها في رقع، وقد اغبر شعرها الفاحم وتلبد، فكأنها بعض ما وقع على رأسها من حظها الأسود، ولاح من تحته كالدينار الزائف في صفرته ورده، وكالقمر الممحوق في استطالته تحت الظلام ومده..وهي فتاة عليلة قد أخذ السقام من حجمها كما أطفأت الأقدار من نجمها، وخفي من لمرض في صدرها، أكثر مما خفي بين الناس من قدرها. وما تعرف من أسماء الأموات والأحياء غير أسماء أهلها، ولا تملك من الأرض أكثر من غبار نعلها، وقد خرجت تتحامل فكلما خافتت في مشيها قليلًا خافت العثار، فاستندت إلى جدار، فإذا رأيت صورة البؤس ولكن في غير إطار.
وإنها تمشي وكأن ليس فيها دم ينتهي إلى قدميها فهي تجرهما جرا وتقتلعهما بين الخطوة والخطوة، وما تدري من الألم أهما على الأرض أم في الأرض تسوخان؟ وقد تزايلت أعضاؤها فما تحس أن فيه حياة متماسكة، وهي ما فتئت تحسب أن جسمها قد خلق نعشا لقلبها فلا هذا القلب يحيا كما تحيا القلوب ولا ذلك الجسم ينمو كما تنمو الأجسام!.
1 / 15
في رأسها عقل زاد الله ورحمته في جهة منه ونقص عنف الناس وقسوتهم من جهة أخرى، فبينا هي على ذلك تحمد الله، 'ذا هي مع ذلك تلعن الناس، وهي في مرة تنظر على الحياة فترى كل شيء في الحياة إلا نفسها، ومرة تنظر إلى الموت فلا ترى في الموت شيئا إلا نفسها، ولم يمسك روحها بين الاثنين إلا خيطان: أحدهما من السماء وهو الأمل في رحمة الله والآخر من الأرض وهو إشفاقها على جثتها التي كانت تكدح منذ الصغر لقوتها، تلك الجدة الفانية التي كبرت وبلغت من الكبر حتى حسبتها الفتاة قد كبرت سن الموت.
أما الآن فقد تبين لها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وانصدعت حفرة جدته المسكينة ولم يبق لها إلا رحمة الله.
قال "الشيخ علي": وكان خروج هذه البائسة أصيل يوم من أيام الصيف ذهبت فيه طاوية على الجوع كما تغدو الطيور من وكناتها وملء بطونه هواء، غير أن الطيور تهزأ بالناس جميعا، وهي على ضعفه أقوى من الشرائع والقوانين، إذ تنبعث وكأن كل طائر منه إرادة متجسمة تقذف بها السماء فما تبالي على أي أرض تقع ومن أي حب تلتقط، ولا تعرف إلا أنن هذا الإنسان يعمل على السخرة ليخرج لها من الأرض رزقها رغدا......
... أما الفتاة فكل الناس يهزأ بها، وهي ترى كل إنسان على ملكه كأنه قانون وضع لعقابها إذا حدثتها النفس حديثا، فقد بلغت من الضعف والمرض والفاقة إلى حال لا تجعل يديها تصلحان لعمل غير الأخذ، فإن اختلست قيل سارقة فعوقبت، وإن سألت قيل لها متشردة فكذاك! ويا ليت في قلب هذا الإنسان من معاني الصفح بعض ما في لسانه من ألفاظ القصاص، ولكنه حيوان متكلم فتنصرف فطرته الحيوانية أكثر ما تنصرف إلى لسانه، كما تتمثل هذه الفطرة من سائر الحيوانات في حواسها التي تبطش بها، وكلا النوعين سواء في الافتراس والكلب والتوحش، فما اللسان إلا حاسة البطش العاقلة ... وقلما يؤذي الإنسان قبل أن يؤذي بهذا اللسان.
ولم تر المسكينة أروح لنفسها المكدودة من الانتحار، وكأنما يخال لها أن في الموت عيشا، فخرجت تمشي بين الناس إلى قبرها كأنها فيهم جنازة وهم يشيعونها، ولئن كانت لم تسر بالحياة فلقد سرها أن ترى تشييع جنازتها وهي حية تموت، ولا أقول وهي حية ترزق، فإن العلة النازلة بها قد أخذت عليها مذاهب الرزق حتى لم تترك لها في الناس "وجهها"، وقبضت عنها الأيدي إلا تلك اليد الواحدة التي تأخذ دائما ولا تعطي أبدا....وهي يد الموت! وإنها لتنفتل وتلتوي على أحشائها من رجفة الجوع، وما تأخذ عينيها من الناس إلا من يحمل بطنه حملا من شبع وري، فكان نظرها إلى الناس أمض عليها من الفكر في نفسها، وكأنها تقتل من جهتين.
وكذلك أخذت سمتها إلى طريق النهر، وأمضت نيتها على الموت غرقا، لتموت نظيف، وتكون لنفسها غاسلة، وترسل روحها المتألمة إلى السماء في دموع السماء! ومشت تتساقط كأن الجوع والمرض يهدمان منها في كل عثرة ركنا، أو كأنه كتب على كل بائس أن يموت في طريقه إلى الموت، وهي تنتهض من كل عثرة إلى أشد منها كما تتخطى العنكبوت في نسجها من خيط واهن يكاد ينقطع إلى خيط أوهن منه، وقد اجتمعت روحها في عينيها فهي تسيل على نظراتها الشاردة، وكلما امتد بها المسير قصرت مسافة النظر حتى توهمت أن الموت بادئ من عينيها، وأنها كذل إذ لمحها طفل قروي قد انقلب من المدينة إلى الضاحية التي غادر فيها أمه العمياء، وكان يعتمل طوال يومه في بعض المصانع أو هو يحمل طعامها الذي لم ينله إلا ببيع نفسه يوما كاملا، على أن المسكين لا يحس من الذل أنه اشترى نفسه بمقدار ما يحس من العزة أنه ابتاع إدامًا ورغيفين وقطعة من الحلوى.
قال الشيخ علي: وبصر هذا الطفل بالفتاة، وأدرك أن روحها تخطو في أنفاسها، وأن الجوع لا غيره وهو من أبنائه، طالما شد عليه حتى انطوى، ولان لغمزاته حتى التوى، وما يعرف أنه ابن أبيه وأمه، وأكثر مما يعرف أنه ابن فقره وهمه، فابتدر إلى المسكينة، وكانت حركة الحياة فيها أسرع من حركة أضراسها في طعامه، ثم ذهب لا يعرف ما صنع..لأنه طفل؟ أو لأنه فقير؟ لا أدري! غير أني أعرف أنه لا يسلم من لؤم النفس في صنعة المعروف وتطويل المن به وتعريض الحديث فيه إلا للأطفال وإلا للفقراء، أولئك لأنهم لا يستكثرون الخير، وهؤلاء لأن الخير منهم غير كثير.
1 / 16
وانطلق الطفل وهو يلوي رأسه ويفكر في أي خديه تقع عليه اللطمة الأولى من أمه، لأنها لا محال متوعرة به، ستحسبه أقترف إثما فطرد من عمله، وانقطعت به طريق أمله وإلى أن يأتي الله بالصبا الذي ينير برهانه، ويثبت لها إحسانه، يكون هذا الليل، قد صب عليه الويل، وهكذا جعل يشهد الله على ما سيلقاه في سبيل الخير، بدلا من أن يشهد الناس على ما لقي غيره منه في هذا السبيل من إحسانه وإيثاره، لأنه طفل؟ أو لأنه فقير؟ لا أدري! ولما أمسكت عليها النفس وراجعت الحياة بدا لها فيما اعتزمته من الانتحار، فترددت وجعلت تساورها الظنون، وخلق لها من معدتها عقل جديد يبصرها فرق ما بين الجوع والشبع، وكذلك تعرض لبعض الناس حالت من الحرص يعقلون فيها ببطونهم، حتى إن أحدهم لو تحسس رأسه وهو يفكر لحسبه بطنا صغيرا من العظم ... فأنشأت الفتاة تستقيم على طريقها وهي تؤامر نفسها على الحياة والموت، وقد بدأت تهضم في معدتها الطعام والعزيمة جميعا، ومات الذي كان بينها وبين الموت! وبينا هي تسير نظرت في عرض الطريق سيدة لو لبس معنى الغنى لفظا ما لبس غير اسمها، ولو كان للكبرياء رسم ما رأيته غير رسمها، وقد أورثها الغنى ذلك الغرور بنفسها، حتى توهمت أنها في الأرض أخت شمسها، وبلغت في النعمة من الحق والبطر، بحيث جعلت نفسها كالسماء متى تعبس وجهها استهلت لعناتها كالمطر، وهي من أولئك اللواتي يخرج الغنى معهن في الطريق لا حارسًا ولا منعمًا ولكن للكيد والفتنة، فتنة المساكين وكيد الحاسدين، فخرجت في زينتها وكأنها حانوت جوهري ... وهي نصف من النساء ولكنها تتصابى، فكأن في وسامتها وابتسامتها شباب عشر فتيات جميلات!..وقد ذهبت في أوضاع جسمها مذاهب هندسية بين المستدير والمستقيم والمنحني ... حتى ظهرت كأن نصفها من الله ونصفها من الخياطة ... وإذا رأيت جملتها رأيت روضة الجمال بألوانها وأزهارها، ولكن مصورة، فإذا انتهيت إلى وجهها رأيت للحسن هناك شهادة على الله ولكن ... مزورة....، وعلى الجملة فقد جعلها حسنها المالي في رأي نفسها كالشرائع: لا جدال فيها إلا من زنديق ...
ورأتها الفتاة كما تنظر المرأة إلى المرأة بعين جامدة ليس فيها لغة ولا فلسفة ولا شعر، فقالت: يا لها من سعادة أن تكون هذه العجوز لا تتقدم في عمرها إلى الأمام ولكنها ترجع إلى الوراء، وأن تظهر بين الناس حسناء وإن كانت من القبح بحيث ذهب نصف نهارها في التحسن، وأن لا تجد من هموم الدنيا أكثر من هم الألفاظ إن قال الناس غير حسناء أو قالوا غيرها أحسن منها! ويا له من شقاء أن تكون هي كما هي وأكون أنا كما أنا! ثم رمت بعينها إلى السماء وانحرفت تواجه تلك السيدة، فما تبينها هذه وألمت بما في نفسها حتى انقبضت كأنما أثارت الأرض في وجهها دابة جامحة، وجعلت تتحاماها وتلوذ ههنا وههنا وتحتث قدميها كأنها لقاء خطر شديد، غير أن الفتاة ملئت عليها الطريق بحركاتها فكانت وجهها كيف أمت وانحرفت يمنة ويسرة وكأنما تطاردها مطاردة!.
فلما عيت السيدة بأمرها وغاظ الفقر نعمتها وهاج فضول الفتاة حنقها وكبرياءها، وقفت لها وقفة القضاء عابسة الوجه شامخة الأنف يكاد يستنفض الناس طرفها وتكاد تميز من الغيظ، وتدل هيئة وجهها على أن وراء شفتيها المرتجفتين كلمات أحد من أنياب الوحش! فلم تبال الفتاة وبقيت رئتاها واسعتين للهواء وبقيت رئتاها واسعتين للهواء ذ ليس بعد الفقر خوف، ولفت إليها باسطة اليد وهي تكاد تزلقها ببصرها، حتى إذا وقفت بإزائها خفضت رأسها وقالت: - سيدتي! أدام الله نعمته عليك وهناك هذه النعمة بدوامه! - هي دائمة، وما أنت والنعمة؟ - سيدتي! وقال الله ما أنا فيه من بأساة الحياة ولا كتب عليك أن تعرفي ما هي! - فلماذا أنت وأمثالك في الحياة إذا أيتها الحمقاء؟ وهل يكتب تاريخ البؤس إلا في صفحة من مثل هذا الوجه؟ - سيدتي! ألا مهلا مهلا وانظري إلي ينظر الله إليك! - قد نظر الله إليك من قبلي! - سيدتي! هبيني خادما أحسنت إليها! - فلتكوني خادمة طردتها إن بلغت أن تكوني خادما مثلنا! - يا ويلنا! ألا رحمة في قلبك فتجودي علي بما لا بأس عليك منه؟ - ولماذا أفضلك على سائر الفقراء؟ ينبغي لأن أجود عليهم جميعا إذا أنا جدت عليك، ولو فعلت لطلبت بعد ذلك من يجود علي!
1 / 17
- سيدتي! ألا فاجعليني من نصيبك في الإحسان وغيري من الفقراء له غيرك من الأغنياء، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره! - إذا فكوني أنت من نصيب غيري ودعي غيرك لي! - سيدتي! ليس فقري عن خطأ مني وليس غناك عن صواب منك، وما الرزق يا سيدتي من فضل الحيلة! - وهل أنا أريد أن أعاقبك فتنتفي من الأخطاء؟ - رحماك وأتقي الله في الإنسانية، فلعل في قصرك الباذخ كلبة جعلتها أحسن حالا مني! - حينما تصيرين مثلها فتعالي إلينا ويومئذ تعرفين كيف تطرد الكلاب!.
قال "الشيخ علي": فكبر ذلك على الفتاة وانتبهت في نفسها فضيلة الفقر وحكمته، فرأت أنها تنظر من ضمير تلك السيدة في مرآة مقلوبة من مرائي الإنسانية، مهما جهدت أن تستقيم لها لم تزدها إلا مسخًا، هنالك غلبتها عيناها وانطلقت وراء دموعها ولم تجد لها عزمًا.
أما السيدة الكريمة- كما يقال - فابتلعت ما بقي في فمها من تلك الفلسفة، وافتر ثغرها قليلًا عن ابتسامة السخرية، وسرها أن يكون في لسانها كل هذا المنطق ... ثم أنغضت رأسها بكبرياء وقالت: "مسكينة! مسكينة! " ومرت بعد ذلك لا تلوي وما يخطر لها إلا أنها نفضت نعلها ...
وسمع الله قولها إذ تجادل الفتاة وقد ربت في ثيابها من الغيظ وتنفشت كالإسفنج، فأطلق عليها دموع البائسة، وإن هذه لتأنس راحة في البكاء لم تعهدها من قبل، فانزوت إلى جانب من طريق وجعلت تبكي، ثم تبكي، ثم تبكي، حتى لو جمعت دموعها لغمرت منها، وقد جمعها الله وأرصدها من أقداره لتلك الإسفنجة وقضى ربك ألا تعصر بعد اليوم إلا دموعًا.
كانت للسيدة فتاة كطلعة البدر في الرابعة عشرة، لا تصفها إلا مرآتها، وهي الدنيا مجموعة في قصرها، وكأنها في النعمة مستقبل نفسها وماضي أمها، وكانت هذه السيدة عقيمًا ولكن شذت معها الطبيعة لأمر أراده الله فولدت لها الفتاة وكأنما انشق لها القمر، ولم تذكرها في نفسها إذ كانت تحول تلك المسكينة بل ذكرت خادمتها وأنفت لهذه الذكرى. ومن شؤم الغنى على أهله أن لا يذكرهم في الشر إلا بأنفسهم، ولا ينسيهم في الخير إلا أنفسهم، فلا يعلمون أن الفقر أنواع كثيرة، وأن الغنى نفسه نوع من الفقر إلى الله، وبذلك ينظرون إلى المساكين تلك النظرة التي لا تخلو من بعض معاني القضاء والقدر. كأن الألوهية درجات جعلهم الغنى في واحدة منها، فما ظنكم أيها الأغنياء برب العالمين؟ وانكفأت السيدة إلى قصرها فإذا فتلتها تنتفض من وعكة الحمى، وهي في سريرها كقلب أمها في اضطرابه والتهابه، وما تعلم من أين اتصلت بها الحمى ولكن الله يعلم، ولئن كان البعوض مما يعد في أسباب هذا المرض فلقد كان كلامها للفتاة ينفر منها كما ينفر البعوض من مستنقع ... فخرجت المرأة عن رشدها وضاقت عليها الأرض بما رحبت، ولقد تكون المصيبة جنونا وإن لم يكن من أسمائها الجنون! على أنها لم تر ملجأ من الله إلا إليه فابتدرت تدعوه! وضرب الذهول بينها وبين اللغة ومسحت من وعيها فلا تردد غير هذه الكلمات. يا رب! يا رب! ابنتي ماذا جنت؟ "مسكينة! مسكينة! "، "مسكينة! مسكينة! ".
وجاء الطبيب كأنما أطلق في قنبلة مدفع ضخم ... فأسرعت إليه وهي تقول: ابنتي ابنتي أيها الطبيب "مسكينة! مسكينة! " ثم مرت أيام وبنتها مريضة وهي مريضة ببنتها، فكانت كلما نظرت إليها ملتهبة ذاوية تتخايل الموت فيها لم يجر الله على لسانها غير هذه الكلمات: آه يا ابنتي! "مسكينة! مسكينة!.
قال "الشيخ علي": وضرب الدهر من ضرباته وخرجت الفتاة البائسة ذات يوم وكانت قد أصابت عملًا فتردم جانب من حالها، وبينا هي تمشي مطمئنة رفع لها شبح أسود في عرض الطريق، فجعلت تدانيه حتى حاذته، فإذا هي بسيدة الأمس وقد حال لومها، واستحال كونها، وعادت من الهم كأنها ظل منصب في سواد، وظهرت من الحزن كأنها تمثال منصوب للحداد، وهي تلوح من الذلة والانكسار كأنما مات بعضها، وكأنما كانت حياتها من الأزهار فذهب ربيعها وروضها، وبقي جذرها وأرضها! فما تبينتها الفتاة ورأت ما نزل بها حتى نفرت دموعها حزنًا، ثم رفعت عينيها إلى السماء وقالت: يا رباه! "مسكينة! مسكينة! " ...
كذا يضع الإنسان الكلمة لمعاني الله فيكذبه بمعانيها، ويا رب كلمة ملفوظة وفيها الله كلمة غير ملفوظة!.
1 / 18
"اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير".
لؤم المال ووهم التعاسة
قال "الشيخ علي": وأنت يا بني ما إن تزال تصف الدنيا بلون لا أرى كيف أسميه، فلا هو من وجوه أهل الحسد فأقول أصفر، ولا من قلوب أهل البغض فأقول أسود، ولا من صدور أهل الدم فأقول أحمر، ولا من شيء أعرفه لأنه ليس شيئًا يسمى، وعلم الله أن يهوى في جهنم سبعين خريفًا وعيناه تدوران في رأسه، لا يبصر من حيث ابتدأ إلى حيث ينتهي شرًا من وجه دنياك! إنك يا بني تصور الأرض لا أرضًا ولا ماءً بل قلوبًا ودموعًا، وتعرفها لا دولًا ولا أممًا بل آلامًا وحوادث، فكأن هذه الأرض العظيمة تحتاج إلى وقدتين من قلبك ومن الشمس، وإلى نعجتين من خيالك ومن الفضاء قدرين من حزنك ومن الأبد، ومن ثم فلا عجب يا بني إن كان مركز الثقل فيها على وهمين: على محورها وعلى ظهرك ...
هيهات لقد أسرفت على نفسك الضعيفة وجعلت هذه الحصاة الهينة تحت مطرقة الزمن فما تزال رخوًا منبعثًا مسترسلًا في اندفاق ولين، كأنك رجل من العجين، وكم تقول لي: (فلان) وجاهه عريض. ودهره المريض ...
... وانظر إلى (فلان) كيف جعله الكبر يذكر منا وينسى، وكيف أصبح من الغنى وأمسى..
... (وفلان) كيف تمر من فرج أصابعه سفن الآمال في تيار المال، كأن يده قنطرة على نهر الأقدار، أو جسر تعبره حظوظ السماء إلى أهل هذه الدار ...
... (فلان) قبحه الله! كيف صار شيطانه في إنسانه، وطول عمره في لسانه، وكثرة ماله في قلة إحسانه ...
... (وفلان) أخزاه الله فما بر ولا نفع، بل تفرق بالحرص ما جمع وطمع في كل شيء حتى في الطمع ...
... (فلان) الذي جمع وعدد وخلقه الله واحدًا وهو في الرذائل يتعدد وقد انتفخ كأنه شدق إسرافيل، وامتد كأنه يد عزرائيل، واستكبر كأنه فرعون على النيل ...
... (وفلان) وما أدراك ما فلان؟ جبل شامخ والناس في سفحه رمال، ومجد باذخ ولا مجد لمن ليس له مال، وهو في أهل الغنى الألف والباء، وإن قيل في غيره (ابن نعمة) فهو في أهل النعمة أبو الآباء، على رأس عظيم كأنه ركن الكعبة الذي يتوجه عباد الغنى إليه، وقائمة بائنة كأنها لجاه صاحبها قطعة من المحور الذي تدور هذه الأرض عليه، وهناك أنف أما في السماء فله منزلة، وأما في الأرض فعطسته زلزلة ينفض الناس من رهبته نفضًا، ويرش الوجوه من هيبته أرضًا، وكأنه في تلك الكبرياء ميزان معلق يرفع من ناحية ويخفض من ناحية، بل كأنه في ذلك الوجه القفر جحر للنحس تختبئ فيه الداهية! قال "الشيخ علي": وما أنت يا بني وهذه (الفلانات) وأمثالها؟ إن هؤلاء الناس بعض أعمال الله في أرضه، فهو يخلقهم وينشئهم ويديرهم بتعلق طائفة من الأقدار بنتائج أعماله طردًا وعكسًا فما أشبههم بدابة الطاحون: تلزم دائرتها ولا تفتأ تدور إلى غير انحراف، فثم هي لعلها حين تسمع ذلك الهزيز وتلك الجعجعة تحسبها من نشيد الاحتفال بها ...
فهم قوم مسخرون فرشهم الله أمرًا من أمره، ويسرهم لما خلقوا له، فضربهم بالحرص والطمع ضربة جبار لو نالت السموات والأرض والجبال لأشفقن منها، وجاءهم الحرص بهذا المال، أما الطمع فجاءهم بماذا؟ جاءهم يا بني؟ لو قلت بصدإ القلب وهرم النفس ودناءة الطبع، ولو قلت بكل ما في الحشرات من القذر، وبكل ما في السباع من الضراوة، وبكل ما في الدبابات من السموم لكنت عسى أن أقارب الوصف، ولكن المعنى الذي يتلجلج في نفسي أكبر من ذلك كله.
غير أني أقول لك يا هذا: إن ثلاثة من المتجاورات يفسر بعضها بعضًا: الحرص مع الطمع، ثم المال ورذائله، ثم ما في المعدة وما في الأمعاء ... أتحسب أن هذا العالم يحفل برجل من الأغنياء قد أجحف به الدهر وطحنته النوائب بأرجائها، وجاءه بعد الدنيا المؤنثة يومه المذكر، وتركته الأقدار أسود الحظ لا بيضاء ولا صفراء؟ فلم لا يعدون الغنى شيئًا دون المال ويحسبونه كل شيء مع المال؟ لعل الحقيقة أيضًا ذات وجهين في الناس ... !
1 / 19
هو المال، المال وحده لا غير، فنحن نحتاج إلى الغني صاحب المال كم نحتاج إلى بائع الملح ... وما أشبهنا في إطرائه وفي الزلفي إليه بأطفال القرية إذ يتزلفون إلى بائع الحلواء التي تلف بالعصا، وإذ هو واقف بينهم بعصاه وحلوائه كأنه الهبل الأعلى، هو- من تعلم- دسم الثوب ترب اليد، قذر التفصيل والجملة، يصلح أن يكتب على وجهه "متحف الميكروبات المصري"، ولو رآه طبيب لجعل عصا الحلواء على رأسه تفاريق، ولكن أين لا أين الطبيب في هذا الاجتماع؟ كل أطباء الاجتماع ألسنة وأقلام ومحابر، أما اليد التي تزيل المنكر أو تغيره فلا أراها تمتد إلا من جانب الأفق ولا تعمل إلا بعون من الله وملائكته، وقد انقضى عصر الأنبياء.
قال "الشيخ علي": فإن لم يكن الغنى إنسانه من الناس يواسيهم ويسعدهم ويتخذ من المال سبيلًا إلى أفئدتهم بالإحسان والمساعفة، ويأخذ لنفسه بقدر ما لها ويعطي من نفسه بقدر ما عليها، وإن لم يكن وجهه مرآة الفقراء يبصرون فيها ابتسام الدهر على وجوههم العابسة، ولم يكن ذهبه عند دموع البائسين وعند أنفاس المحزونين، ولم يكن اسمه في دعوات المحتاجين وفي ألسنة الشاكرين- فقد أصبح عندي كأنه لا شخص له، بل هو شخص له لعنة من لعنات الله والملائكة والناس نفخت فيها الروح، وهي اللعنة أي منقلب تنقلب.
ما أشبه المال أن يكون آلة من آلات القتل، فإنه يميت أكثر أصحابه موتًا شراُ من الموت- إلا من عصم الله- موتًا يجعل أسماءهم كأنها قائمة على ألواح من العظام النخرة، ويرسلها كل يوم إلى السماء في لعنات لا عداد لها، ثم يثبتها في التاريخ آخرًا لا بأعيانها ولكن بعددها، أو كما تثبت الحكومة في كل سنة عدد البهائم التي نفقت بالطاعون ... فهذا الشخص الميت وهو بعد في الأحياء لا يبلغ في قدر نفسه على الحقيقة أكثر من مقدار حجمه من ... من.... من جيفة حمار! ...
يا بني! ربما كان الرجل نبات نعمة الله لأنه سيكون حصاد نقمته، فهذه، منزلة من البؤس والخذلان يستعاذ بالله منها، وكم رأينا من أناس تخصب أبدانهم حتى ليضيق بهم الجلد كدنة وسمنًا، ويكاد أحدهم ينشق مرحًا ونشاطًا، ثم لا يكون هذا الخصب الذي استمتعوا به شطرًا الآخر (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلهم الأمل فسوف يعلمون) وإن خطأ كبيرًا أن تقضي لفلان من (فلاناتك) بمتاع الدنيا، فإنك لا تدري أشر أريد به أم الخير، وكيف تحكم ويلك على غناه بفقرك، وعلى آماله بيأسك، وعلى شخصه بظلك، وعلى نهاره بليلك، وعلى عمره كله وهو بعد حي لم يوف عمره ولا تدري ما عسى أن يكونه فيما بقي؟ ألا دعه حتى يستنفد أيامه المكتوبة ويستوفي أنفاسه المقدرة، فلعل مصيبته قادمة في الغيب وكأن غناه مقدماتها، وعلى قوة المقدمة تقاس قوة النتيجة، فإذا مات الغني ولم يعرف في جملة عمره همًا ولا غمًا يعدل بؤس الفقر مهما اشتد الفقر، فكفى حينئذ بالموت في جملة من تلك الجملة! وإنما الحياة مدة ستنقضي، فسواء انقطع الخيط من أوله أو من وسطه أو من آخره، فقد انقطع! تقول: إن لهم متاع الحياة! ولو أنصفت لقلت: إن لهم بؤسها الممتع! فإنهم يجمعون المال من طرق لا نؤتيه إلا نكدًا ثم يرسلونه في طرق أخرى ليجمعوه، وهلم كما تدور دابة الطاحونة، وهب أنهم لا يألمون كما تألم فإن يد الله غمزتهم من مكان قريب غمزة مؤلمة، وما أحسب الضجر من اللذات قد خلق إلا للأغنياء وحدهم، وناهيك من بلاء يغمر النفس بالنعم صنوفًا وألوانًا حتى يتنكر لها معنى النعمة فتراها وقد ثابر عليها الضجر متكرمة ولكن لا تريد الكراهية، ومتسخطة ولا ترغب في السخط، ومتألمة ولا تعرف مم ألمها، ولا تبرح دائبة تلتمس نعمة لم يخلقها الله، لتحدث منها لذة لم يعرفها الناس.
ولولا هذا البلاء، وأنه ما وصفت لك، لما أصبت على الأرض غنيًا كهؤلاء الوارثين: تضرب به كل لذة وجه أختها فتسلمه الواحدة إلى الأخرى ويجذبنه بكل حروف الجر، من وإلى وفي وعلى، بين الخمر والقمار أو القبر! ولو أن (ضجر اللذات) يصنع بكل الأغنياء هذا الصنع لفسد الكون، بيد أن الله أراد عمرانه فجعل في طباع أكثر الأغنياء لؤمًا خاصًا، لؤمًا ذهبيًا يكسر من سورة هذا الضجر، كما يفثأ الماء البارد من الماء الحار حين يمتزجان.
1 / 20