كان أمر المنافقين من جهة أيسر من أمر المشركين واليهود؛ فلم تكن بينهم وبين المسلمين حرب ولم تسفك بينهم دماء، ولكنه كان من جهة أخرى أشد من أمر المسلمين مع المشركين واليهود عسرا؛ ذلك لأن المنافقين لم يصنعوا صنيع أولئك ولا صنيع هؤلاء، لم يبادوا النبي وأصحابه بالكفر، وإنما أظهروا الإسلام وأضمروا الكفر، ولم يبادوا النبي وأصحابه بالعداوة الصريحة، وإنما أظهروا المودة وأضمروا البغضة والعداء، ولم يخطئ الشاعر القديم حين قال:
فإما أن تكون أخي بحق
فأعرف منك غثي من ثميني
وإلا فاتركني واتخذني
عدوا أتقيك وتتقيني
ويوشك النفاق أن يكون أبعد من الكفر الصريح والعداء البين أثرا في إفساد حياة الناس.
وقد كان النبي والمسلمون يعرفون من كفر المشركين واليهود وعدائهم، ومن كيدهم لهم ومكرهم بهم ما يضطرهم إلى أن يحتاطوا لدينهم ولأنفسهم من أولئك وهؤلاء. وكانوا جديرين ألا يعرفوا من بغض المنافقين لهم شيئا لولا أن خبر السماء كان يأتي النبي حين ينزل القرآن بما في قلوب المنافقين من حقد عليهم وبغض لهم. وكان النبي مع ذلك قد أمر أن يقاتل الناس حتى يقولوا: «لا إله إلا الله»؛ فإذا قالوها عصموا منه دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله كما روينا آنفا. وكان المنافقون يقولون: «لا إله إلا الله» فيعصمون دماءهم وأموالهم من النبي والمسلمين ولا يجعلون لهم على أنفسهم سبيلا؛ ثم يستخفون بكفرهم وجحودهم، ولو قد اكتفوا بإخفاء الكفر والجحود بعد أن أظهروا الإسلام ثم لم يزيدوا على ذلك لكان أمرهم هينا يسيرا، ولكنهم يضيفون إلى الكفر والجحود استهزاءهم بالنبي والمسلمين حين يخلو بعضهم إلى بعض وإصرارهم على الكيد للنبي والمسلمين وتوليهم للمشركين واليهود دون النبي والذين اتبعوه، وإطلاقهم كلمة السوء في النبي والذين آمنوا معه كلما أتيح لهم إطلاقها، وكان الحسد مصدر هذا كله فيما يظهر.
فلم تكن كلمة العرب في المدينة مؤتلفة قبل هجرة النبي، وإنما كانوا فئتين مختصمتين أشد الاختصام: كانوا قبيلتين عربيتين تنتسبان إلى أصل يمني قحطاني، وتشتد المنافسة بينهما حتى تثير الخصومة دائما وتثير الحرب أحيانا.
وقد احتربت القبيلتان - الأوس والخزرج - في آخر العصر الجاهلي حربا متصلة مضنية، وكانتا جديرتين أن تستأنفا حربهما لولا أن هداهما الله إلى الإسلام بالنبي
صلى الله عليه وسلم ، فألغى ما كان بينهما من خصومة وكف أيدي بعضهم عن بعض. وكان من إحدى القبيلتين - وهي الأوس - رجل قد عظم شأنه وارتفعت مكانته في قومه حتى كادوا يتوجونه ملكا عليهم، فلما جاء الإسلام وهاجر النبي وأصحابه إلى يثرب سقط أمر هذا الرجل وأصبح كغيره من أهل المدينة رجلا من الأوس، وضاعت آماله وضاعت كذلك آمال أتباعه فيه. فليس غريبا أن يضيق هذا الرجل «عبد الله بن أبي بن سلول» والذين اتبعوه بمقدم النبي إلى المدينة وانتشار الإسلام فيها وانصراف المسلمين من الأوس والخزرج عن التفكير في الملك وفيمن يصير الملك إليه، إلى التفكير في الإسلام والنبوة وإلى الاستجابة للنبي في كل ما يدعوهم إليه ويأمرهم به والانتهاء عما كان ينهاهم عنه ويخوفهم منه.
Shafi da ba'a sani ba