10
كان فقيرا لا يكاد يملك شيئا، وكان يكسب قوته من رعي الغنم، ولكنه فتى من قريش ومن أشرافها، ورعي الغنم قد يليق بالصبية وبأمثالهم من الذين لم يتقدم بهم الشباب، فأما إذا شبوا واستتموا قوتهم فليس لهم بد من أن يسلكوا طرقا أخرى إلى الرزق. وعمه صاحب تجارة، وقد مات أبوه تاجرا، وجده كان صاحب تجارة أيضا، فما يمنعه أن يسلك الطريق التي ألفت قريش سلوكها؟
وقد أقبل عليه عمه ذات يوم فأنبأه بأن خديجة بنت خويلد - امرأة غنية من أكثر قريش مالا وأوسطهم نسبا - قد جهزت تجارة ضخمة إلى الشام، ونصح له بأن يكون رسولها بتجارتها تلك، وأنبأه بأنه يستطيع أن يسعى له في ذلك عند خديجة إن صح عزمه على السفر، فقبل الفتى ورضيت خديجة، ورأته مكة ذات يوم خارجا في قافلتها إلى الشام يصحبه غلام لخديجة يقال له «ميسرة»، وقد بلغ الشام فباع واشترى وعاد مع القافلة فأدى إلى خديجة تجارتها وأدى إليها مع هذه التجارة ربحا لم يتح لها في تجارة قط. وكأن الله لم يجعل هذه التجارة إلا وسيلة لشيء آخر وراءها؛ فقد وقع الفتى من قلب خديجة وإذا هي ترسل إليه مغوية له بخطبتها، وإذا هو يخطبها ثم يصبح لها زوجا، وهي تكبره بخمس عشرة سنة فيما يقول الرواة.
ومنذ ذلك اليوم عاش في مكة عيشة الموفورين لا يشكو حاجة ولا يجد ضيقا كما قال له الله عز وجل في سورة الضحى:
ووجدك عائلا فأغنى .
وقد أتيح له من خديجة الولد وأتيح له معها الأمن والدعة، ولكنه في ذلك الطور من أطوار حياته ظهرت فيه خصال لم تكن مألوفة في شباب قريش؛ فهو شديد النفرة من اللهو وشديد النفرة من اللغو أيضا، وهو أبعد الناس عن التكلف وأقربهم إلى الإسماح واليسر، وهو أبغض الناس لهذه الأوثان التي كان قومه يعبدونها مخلصين أو متكلفين، وهو أصدق الناس إذا تكلم، وأوفاهم إذا عامل، وأبعدهم من كل ما يزري بالرجل الكريم. وهو بعد ذلك أوصل الناس للرحم وأرعاهم للحق وأشدهم إيثارا للبر؛ فهو يجد عمه الذي كفله صبيا ويافعا قد كثر ولده وقل ماله، ويريد أن يعينه دون أن يؤذيه؛ فيأخذ منه صبيه عليا ويرد عليه من العناية واللطف والبر بعض ما أدى إليه أبوه حين كان صبيا يتيما. وقد شاعت عنه هذه الأخلاق، وعرف بهذه الخصال حتى أحبته قريش وسمته الأمين وعاملته على أنه الأمين حقا.
وفي ذات عام همت قريش أن تعيد بناء الكعبة فعزمت بعد تردد، ونقضت البناء وأخذت في إعادته، وشاركها الأمين فيما فعلت، حتى إذا بلغت موضع الحجر الأسود اختلفت أحياء قريش فيمن يضع هذا الحجر في موضعه، يرون أن من يتاح له ذلك سيظفر بشرف أي شرف. وما هي إلا أن يتحول الخلاف إلى خصومة تشتد وتعنف حتى يخشى شرها، ولكن ذوي أحلامهم وأولي رأيهم يشيرون عليهم بالتحكيم وبأن يحكموا أول داخل عليهم فيحكمونه، فيقضي بينهم قضاء يرضيهم ويكون له مع ذلك ما بعده؛ يبسط رداءه ويضع الحجر في وسطه ثم يأمرهم بأن يأخذوا بأطراف الرداء فيحملوه ويمشوا به حتى إذا بلغوا البناء أخذ الحجر فأقره بيده في موضعه.
على أنه قد أخذ يميل إلى العزلة شيئا فشيئا، ثم اشتد عليه حب العزلة فجعل يترك مكة بين حين وحين ويمضي وقد تزود لعزلته، حتى إذا بلغ غار حراء خلا فيه إلى نفسه الأيام والليالي، فإذا انقضى زاده أو كاد ينقضي عاد إلى أهله فتزود من جديد ورجع إلى غاره فأوى إليه ومكث فيه ما شاء الله أن يمكث. أصبحت هذه الخلوة له عادة ولكنه يعود إلى أهله ذات يوم ولهان مفجعا شديد الاضطراب ويقص على خديجة شيئا عجبا.
11
أنبأها بأنه كان خاليا إلى نفسه في غار حراء، ولكنه ينظر فيرى شخصا أمامه ويسمع فإذا هذا الشخص يكلمه يقول له: «اقرأ.» قال: «ما أنا بقارئ.» يريد: لا أعرف القراءة، فضمه ضما شديدا - أو غطه غطا شديدا، كما يقول حديث الشيخين فيما يرويان عن عائشة - حتى بلغ منه الجهد، ثم أسلمه وقال: «اقرأ.» قال: «ما أنا بقارئ.» فغطه غطا شديدا حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال:
Shafi da ba'a sani ba