(قسمة سابعة): الموجود ينقسم إلى ما هو بالقوة وإلى ما هو بالفعل ولفظ القوة والفعل يطلق على وجوه مختلفة لاحاجة بنا إلى بعضها* أما القوة فتنقسم إلى قوة الفعل وإلى قوة الانفعال* أما قوة الفعل فهى عبارة عن المعنى الذى به يتهيأ الفاعل لكونه فاعلا كالحرارة للنار في فعل التسخين* وأما قوة الانفعال فنعنى به المعنى الذى به يستعد القابل للانفعال كاللين واللزوجة فى الشمع لقبول الانتقاش والتشكلات وتقابل القوة الفعل على وجه آخر فان كل موجود حاصل بالحقيقة يقال إنه بالفعل وليس المراد به ما قدمنا من الفعل فانه يقال إن ذات المبدأ الأول بالفعل من كل وجه وليس فيه شىء بالقوة والفعل بالمعنى الأول في حقه محال ولكن معناه الموجود المحصل والقوة التى تقابل هذا الفعل هى عبارة عن إمكان وجود الشىء قبل وجوده فما دام غير موجود فيقال إنه بالقوة وربما يتسامح فيقال هو موجود بالقوة وتسميته موجودا مجاز كما يقال الخمر مسكر والاسكار فى الخمر وهى فى الدن موجود بالقوة وهو مجاز فانه ليس بمسكر ولكن لكون الاسكار ممكن الحصول منه سمى بالقوة وكما يقال فى الجسم الواحد إنه منقسم أى الانقسام فيه بالقوة وإلا فلا انقسام فيه بالحقيقة قبل فعل التقسيم وإيجاده بقطع الجسم والتفريق بين أجزائه* ونتمم هذه القسمة بذكر حكمين.
(الأول): حكم هذه القوة الأخيرة التى ترجع إلى إمكان الوجود إنها تستدعى محلا ومادة تكون فيه ويلزم منه إن كل حادث فتسبقه مادة فلا يمكن أن تكون المادة الأولى حادثة بل قديمة لأن كل حادث فهو قبل الحدوث بالقوة أى هو قبل الحدوث ممكن الحدوث فامكان الحدوث سابق على الحدوث فلا يخلو هذا الامكان إما أن يكون شيئا حاصلا أوعبارة عن لا شىء فان كان عبارة عن لا شىء فليس لهذا الحادث إذا إمكان فاذا لا يمكن أن يكون فاذا هو ممتنع أن يكون ولو كان ممتنعا أن يكون لم يكن قط وهذا محال* فاذا ثبت أن الامكان أمر حاصل قضى العقل به فلا يخلو إما أن يكون قائما بنفسه جوهرا وإما أن يكون مستدعيا لموضوع وباطل أن يقال الامكان جوهر قائم بنفسه لأنه وصف مضاف إلى ماهو إمكانه لا يعقل قيامه بنفسه فوجب لا محالة أن يكون له موضوع فيرجع حاصل الامكان إلى وصف المحل بقبول التغير كما يقال هذا الصبى ممكن له أن يتعلم فيكون العلم ممكنا لهذا الصبى وهذه النطفة ممكن فيها أن تصير إنسانا فيكون إمكان وجود الانسانية وصفا فى النطفة وهذا الهواء يمكن أن يصير ماء فأما إذا فرض حادث من غير أن تسبقه مادة فلا يكون لقولك ان الحادث ممكن الحدوث قبل الحدوث معنى لأن الامكان وصف يستدعى موجودا يقوم به والشىء قبل وجوده لا يكون محلا لوصف فامكان كل حادث فى مادته وقوة حدوثه فى محله وهو المعنى بقولنا إنه موجود بالقوة كما تقول العلم موجود فى الصبى بالقوة والنخل موجود فى النواة بالقوة* والقوة قد تكون قريبة وقد تكون بعيدة فالنطفة إنسان بالقوة القريبة والتراب إنسان بالقوة البعيدة إذ لا يصير إنسانا إلا بعد أن يتردد فى أطوار كثيرة.
(الحكم الثانى): قوة الفعل تنقسم إلى قسمين.
(الأولى): ما هو على الفعل لا على نقيضه كقوة النارعلى الاحراق لا على عدم الاحراق.
(والثانية): ما هوعلى الفعل وتركه كقوة الانسان على الحركة والسكون* والأولى تسمى قوة طبيعية والثانية قوة إرادية وهذه القوة الثانية مهما انضافت اليها الارادة التامة ولم يكن ثم مانع كان حصول الفعل منها لازما بالطبع كما يلزم من القوة الأولى فان القدرة إذا حصلت وتمت الارادة انفكت عن التميل والتردد بل صارت جازمة ثم لم يحصل الفعل فلا يكون ذلك إلا لمانع ومهما التقت القوة الفعلية بالقوة الانفعالية وكل واحد من القوتين تامة كان الانفعال حاصلا بالضرورة* وبالجملة فكل علة فانما يلزم معلولها على سبيل الوجوب وما لم يجب وجود المعلول عن علته لا يوجد فانه ما دام ممكنا أن لا يحصل لعدم حصول جميع شروط العلة فلا يحصل فاذا تمت شروط العلة تعين حصول المعلول واستحال أن لا يحصل لأن الموجب إذا حضر ولم يحضر الموجب وتأخر فلا يكون ذلك إلا لقصور فى طبعه إن كان بالطبع أو فى إرادته إن كان بالارادة أو لعدم ذاته إن كان فعله لذاته ومادام يجوز أن لا يحصل منه الموجب فهو ليس علة بالفعل بل بالقوة ولا بد من أمر جديد يخرجه عن القوة إلى الفعل فاذا حضر ذلك الأمر صار الخروج إلى الفعل واجبا.
(قسمة ثامنة): الموجود ينقسم إلى واجب وإلى ممكن ونعنى به أن كل موجود فاما أن يتعلق وجوده بغير ذاته بحيث لو قدر عدم ذلك الغير لانعدم ذاته كما أن الكرسى يتعلق وجوده بالخشب والنجار وحاجة الجلوس والصورة فلو قدر عدم واحد من هذه الأربع لزم بالضرورة عدم الكرسى* وإما أن لا يتعلق ذاته بغيره البتة بل لو قدر عدم كل غير له لم يلزم عدمه بل ذاته كاف لذاته وقد اصطلح على تسمية الأول ممكنا وعلى تسمية الثانى واجبا فنقول كل ماوجوده من ذاته لا من غيره فهو واجب وما ليس له وجود بذاته فاما أن يكون ممتنعا بنفسه فيستحيل وجوده أبدا وإما أن يكون ممكنا فى ذاته فالواجب هو الضرورى الوجود والمحال هو الضرورى العدم والممكن هو الذات التى لا يلزم ضرورة فى وجودها ولا عدمها ولكن كل ممكن فى ذاته إن كان له وجود فوجوده بغيره لا محالة إذ لو كان بذاته لكان واجبا لا ممكنا وله مع ذلك الغير ثلاثة اعتبارات. (أحدها): أن يعتبر وجود ذلك الغير الذى هو علة فيكون واجبا إذ ظهر من قبل أن وجود المعلول واجب عند وجود العلة.
(وثانيها): إن اعتبر عدم العلة فهو ممتنع لأنه لو وجد لكان موجودا بذاته لا بعلة فيكون واجبا وإن لم يلتفت إلى اعتبار علته وجودا وعدما بل التفت إلى مجرد ذاته فله من ذاته.
(الأمرالثالث): وهو الامكان وهذا كما أن علة وجود الأربعة وجود اثنين واثنين فان اعتبر عدم اثنين واثنين استحال وجود الأربعة في العالم وإن اعتبر وجودهما كانت الأربعة واجبة الوجود وإن لم يلتفت إلى الاثنين ولكن التفت إلى ذات الأربع وجد ممكنا فى ذاته أى لا ضروة لوجوده ولا ضرورة لعدمه فاذا كل ممكن وجوده في ذاته إنما يحصل وجوده بعلته وما دام ممكن الحصول بعلته فلا يحصل فاذا صار واجب الوجود بعلته حاصل لأنه ما دام ممكنا استمر العدم فلا بد وأن يزول الامكان وهذا الامكان الذى يزول ليس هو الامكان الذى هو له في ذاته لأن ذلك ليس لعلة حتى يزول بل ينبغى أن يزول الامكان من علته ويتبدل بالوجوب وذلك بأن يحضر جميع الشرائط وتصير العلة كما ينبغى أن يكون حتى يصير علة ولابد الآن من معرفة أصل مهم فى الممكن يبتنى عليه قاعدة كبيرة وهو إن العالم إن كان قديما هل يمكن أن يكون فعلا لله تعالى أم لا وقد علم أن كل ممكن فانما يكون وجوده بغيره وذلك الغير فاعل له وكون الشىء فاعلا له يفهم منه أمران.
(أحدهما): أن يحدثه بأن يخرجه من العدم إلى الوجود كما يبنى الانسان بيتا لم يكن وهذا جلى مشهور* والآخر أن يكون وجود الشىء به كما أن وجود النور بالشمس فتسمى الشمس فاعلة للنور بالطبع* والذين اعتقدوا أن لا معنى للفعل إلا الاحداث ربما ظنوا أنه إذا حصل الحادث استغنى عن المحدث حتى لو عدم لم ينعدم الحادث وربما تجاسر بعضهم على أن يقول لو قدر عدم البارى تعالى عما يقول الظالون لم يلزم منه عدم العام بعد وجوده ويستدل على هذا بمثال وحجة.
(أما المثال): فهو أن البناء بعد بناء البيت لا يضر موته البيت ولا ينعدم البيت بعدمه.
Shafi da ba'a sani ba