وكان العرب أنفسهم عاملا في ركود أوروبا؛ هذا لأنهم منعوا الأوربيين من الملاحة في البحر المتوسط وما وراء البحار، وقد أشار ابن خلدون إلى ذلك، ولكنه لم يتنبه إلى دلالته.
وينبهنا الدكتور مشرفة إلى أن قصة السندباد هي قصة تاجر، وهي التخيل الأدبي الذي يبعثه الطموح لأمة تعيش بالتجارة، وهي تجارة على أبعاد عالمية، بل كذلك الكثير من قصص ألف ليلة وليلة.
وعندما نتأمل صعود الدول العربية وسقوطها نجد أنها كانت على الدوام بسبب الاحتكارات، أو الغزوات التجارية، أو التي تعود إلى حوافز تجارية، وقد كانت الدولة الفاطمية في مصر تمثل طبقة التجار الصغار، بل إن أحد الخلفاء لهذه الدولة كان يملك نصف المنازل والمتاجر في القاهرة ... كان تاجرا قبل أن يكون ملكا.
ولست أريد الاستقصاء في هذا المقال، ولكني أحب فقط أن أنبه القراء إلى هذا النظر الجديد للمهمة التاريخية التي قام بها العرب، بل قام بها أيضا البدو من الهكسوس والعبرانيين قبل العرب، فإن الأمم القديمة عرفت الزراعة واستقرت عليها مع القليل من الصناعة، وكانت في استقرارها تركد وتأسن، وليست القرية التي تعيش بالزراعة منبعا للحضارة؛ لأن استكفاءها بالمحصولات التي حولها لا يتيح لها الحاجة إلى الاتجار مع الأقطار النائية، بل هذا هو معنى القرون المظلمة في أوروبا، فإنها قرون الاستكفاء القروي وانتفاء التجارة العالمية، تلك التجارة التي كانت تجعل الرومان متمدنين وتصل بينهم وبين آسيا وإفريقيا.
وكثرة المؤلفين الجغرافيين في العرب برهان على هذا النظر العالمي في الثقافة العربية، ورحلة ابن بطوطة من طنجة إلى بحر اليابان، برهان رائع على هذه الثقافة العربية التي كانت تعود إلى التجارة، بل إن كلمة «تاج» الصينية، بمعنى تاجر، هي كلمة عربية، وقد حذفت الراء؛ لأنها ليست من الأبجدية الصينية أو بالأحرى لا ينطق الصينيون هذا الحرف، وتفسير ذلك أن أول التجار الذين قصدوا إلى الصين للتبادل التجاري كانوا من العرب.
وإذن نحن نستبين الحقائق التاريخية كما كانت في الواقع بالترتيب التالي: (1)
نشأت الأمم الزراعية باقتصاديات استكفائية، وتألفت الدولة، فكانت الحضارة قروية محدودة. (2)
نشأت الصناعات الكبيرة باعتبار أنها من احتكارات الدولة. (3)
نشأ التبادل التجاري على أيدي الأمم البدوية التي كانت ترتحل وتتجمع، الهكسوس، والعبرانيين، والعرب.
وفضل العرب، ومهمتهم التاريخية، أنهم ربطوا العالم بقاراته الثلاث أكثر من ألف سنة بالتجارة، وبهذا الرباط اتسع الوجدان البشري، وظهرت ثقافة جديدة تتجاوز حدود الأقطار، إلى القارات، وإلى العالم كله، وهذا هو ما جهله ابن خلدون.
Shafi da ba'a sani ba