كلمة الواقعية مشتقة من الواقع، وإذن هي معالجة المؤلف للأشياء والناس والمشكلات وإيجاد الحلول وفق الواقع، وليس وفق الخيال.
هي المعالجة الموضوعية التي تتفق وواقع الحال، وليست المعالجة الذاتية التي تعتمد على الأغراض الشخصية، ولا يستطيع أحد منا أن يفصل الفصل التام بين ذاتيته الشخصية، وما تحمل من أهواء وأغراض، وبين واقع الحال في الأشياء والناس والمجتمع والفن، بل ليس ضروريا أو حسنا؛ لأننا لا نجد موضوعا ما في هذه الدنيا إلا ونحن خلفه بإحساسنا وتعلقنا ووعينا وضميرنا، وجميع هذه الكلمات تلابس الذاتية أكثر مما تلابس الموضوعية، ولكن هناك أشياء تجنبها المذهب الواقعي، ونجح في تجنبها، وأدى هذا التجنب إلى زيادة في الفهم وإخصاب في الفن.
تجنب المذهب الواقعي أول ما تجنب، ذلك الأسلوب الموروث بشأن اختيار الكلمات المذهبة وتأنقات الفصاحة والبلاغة، تجنب الجملة الزاهية والكلمة اللامعة، كما كان أسلوب العصر الماضي قبل الواقعية، بل كما كان أسلوب الكتاب عندنا في اللغة العربية أيام القرون الوسطى، هذا الأسلوب الذي نراه على أقصاه وأسوئه في مؤلف سيرة صلاح الدين.
فإننا هنا نقرأ جملا مسجوعة، وتأنقات لفظية، يلتذها المؤلف وقد يلتذها القارئ أيضا، ولكننا ننسى في سياق هذه الكلمة الحلوة، التي نتمززها أكثر مما نقرأها، إننا إزاء شخصية تاريخية عظيمة كانت قدرا في التاريخ بين الشرق والغرب، وإننا لا نعرف عن صلاح الدين ما كنا نحب أن نعرفه.
تاريخ صلاح الدين الذي ألفه هذا الرجل لم يكن واقعيا وإن كان تأنقا فنيا، ومع ذلك ما كان أسخفه من فن!
وكما رفضت الواقعية الكلمة المذهبة والجمل المتأنقة، كذلك رفضت الاستسلام للغيبيات، فليس الفقر مثلا حكم الأقدار على الناس، وإنما هو مرض يمكن أن يعالج، وليس الإنسان أسيرا في هذا الكون يخضع للطبيعة، وإنما هو سيد الكون يغير الطبيعة، وليس الإنسان عاجزا يجب أن يرضى بعجزه، وإنما هو قادر على أن يحيل عجزه إلى علم ومعرفة يسيطر بهما على حظوظه.
وأخيرا ليست الواقعية من حيث إنها طراز فني للتفكير والتعبير تهدف إلى المحال، وإنما هي في ظروفنا الحاضرة، ظروف الفقر والجهل والمرض، وظروف الرق والحرب والاستعمار، تهدف إلى الإنسانية، أجل، ليست الواقعية ممارسة الفن للفن، الواقعية هي أسلوب الأدب الجديد، أدب العلم والإنسانية معا، هي ممارسة الفن لخدمة الإنسان.
الواقعية ضد الرومانسية.
في مصر كتاب يصفون الشعراء العرب في القرون الوسطى بأسمى الأوصاف، وإنهم البلاغة كلها والأدب كله، ليس أفصح من البحتري. ولا أعجب من ابن الرومي، ولا أعظم من المتنبي، أجل، ويصفون الخلفاء ويتغنون بالبذخ الذي كان يعيش فيه هارون أو المأمون، والجواري والحلل الذهبية والصور والكرم الحاتمي، بل إنهم ليصفون لنا برهانا على العظمة والتمدن وسمو العيش، بركة قد وضع المسك بدلا من الطين على حافتها، وكل هذه الأشياء تحتاج إلى وصفها بكلمات متأنقة كلها فصاحة وبلاغة ... هؤلاء رومانسيون.
ولكن في العراق كاتبا واقعيا يدعى علي الوردي، هذا الكاتب قد وضع مؤلفات أوضح فيها: أن شعراء العرب في الجاهلية كانوا يمشون بالوقيعة بين قبيلة وقبيلة، وكانوا سببا لهذا السبب؛ للقتال بين القبائل، يحرضون على الثأر والانتقام ولا يدعون إلى سلام، وقد ذمهم القرآن ووصفهم بالغواية، ثم كان شعراء العرب بعد ذلك، أي: أيام الخلفاء، متسولين، يبيعون أشعارهم في المديح والهجاء بالدينار والدرهم، يمدحون بلا سبب، ويقدحون بلا حق، أو كانوا مثل ابن الرومي وأبي نواس، شعراء فاسقين، كانوا كما يقول علي الوردي، بلاء على المجتمع العربي، ولم يشذ منهم ويسمو عليهم سوى أبي العلاء المعري الذي كان ينبه الشعوب العربية إلى ضلال الحاكمين والمتدينين ومكرهم جميعا لخطف اللقمة من أفواه الفقراء المساكين.
Shafi da ba'a sani ba