لم تكن السيدة نيوكام ترافقه قط، سواء على الزلاجة أو في السيارة. كانت تذهب إلى البلدة سيرا على الأقدام، مرتدية حذاء فوقيا مطاطيا قديما - حتى عندما يكون الطقس دافئا - ومعطفا طويلا باهت اللون، ووشاحا فوق شعرها. كانت تتمتم بالتحية دون حتى أن ترفع عينيها وتنظر إلى الشخص الذي تحييه، أو أحيانا كانت تشيح بوجهها بعيدا، دون أن تنطق ببنت شفة. أظنها قد فقدت بعض أسنانها، فقد كان هذا شائعا آنذاك أكثر من الآن. وكان شائعا كذلك أن يظهر الناس حقيقة طباعهم دون أي تكلف، في حديثهم، وملبسهم، وإشاراتهم، بحيث يبدو كل شيء متعلق بهم وكأن لسان حاله يقول: «أعلم كيف ينبغي أن يكون مظهري وسلوكي، وإذا لم أفعل، فهذا شأني»، أو «لا أهتم إن كانت الأمور قد بلغت مداها معي؛ فلتظن ما شئت!» •••
ربما تعتبر السيدة نيوكام اليوم حالة خطيرة، كشخص مصاب باكتئاب مزمن، فيما قد تنظر بعين القلق والشفقة إلى زوجها بأساليبه الفظة الوحشية، ولسان حالك يقول: «هذان الشخصان بحاجة إلى المساعدة.» أما في تلك الأيام، فكان ينظر إليهما كما هما، وكان يترك لهما عيش حياتهما كما يحلو لهما دون أدنى تفكير في التدخل من قبل أي شخص، بل كانا في الواقع يعتبران مصدرا للإثارة والتسلية. ربما كان يقال - وقد قيل بالفعل - إنه ليس لديه عزيز وإن عليك أن تشعر بالأسف تجاهها. ولكن كان ثمة شعور بأن بعض الناس خلقوا لإتعاس الآخرين والبعض الآخر مخلوق بحيث يسمح للآخرين بإتعاسه. لقد كان هذا ببساطة قدرا، ولا شيء كان يمكن فعله تجاهه.
أنجب الزوجان نيوكام خمس بنات، ثم ولدا. كانت أسماء الفتيات هي أبريل، وكورين، وجلوريا، وسوزانا، وداليا. كنت أراها أسماء جميلة ورائعة، وتمنيت لو كان شكلهن متماشيا معها، وكأنهن بنات غول في إحدى القصص الخيالية.
تركت أبريل وكورين المنزل منذ فترة، ولذا لم يتسن لي معرفة شكلهما. أما جلوريا وسوزانا، فكانتا تعيشان في البلدة. كانت جلوريا متزوجة، وخرجت من المشهد مثلما تفعل الفتيات المتزوجات، أما سوزانا، فكانت تعمل في متجر للأدوات المعدنية، وكانت فتاة ممتلئة مصابة بحول بسيط في عينيها، وخلت من أي مسحة من الجمال، ولكن كان شكلها طبيعيا للغاية (إذ كان الحول شكلا من الأشكال الطبيعية للعيون، ولم يكن يمثل فاجعة في ذلك الوقت، ومن ثم لم يكن بالشيء الذي يجب علاجه، شأنه شأن الطباع). لم تكن بأي حال تبدو خاضعة مثل والدتها أو فظة قاسية مثل أبيها. أما داليا، فكانت تكبرني بعامين، وكانت أول من التحق بالمدرسة الثانوية من بين أفراد عائلتها، لم تكن هي أيضا بجمال ابنة الغول ذات العينين الواسعتين والشعر المموج، ولكنها كانت حسنة الطلعة وقوية البنية، وذات شعر كثيف وأشقر، ومنكبين قويين، ونهدين قويين وبارزين، كانت تحصل على درجات رائعة للغاية، وكانت بارعة في الرياضة، لا سيما كرة السلة.
خلال أشهري القليلة الأولى في المدرسة الثانوية، وجدت نفسي أسير معها لجزء من المسافة إلى المدرسة. كانت تسير بطول الطريق الريفي وتعبر الجسر لتصل إلى البلدة. وكنت أعيش في نهاية الطريق الذي طوله نصف ميل والموازي لهذا الطريق، على الجانب الشمالي للنهر. حتى ذلك الحين، يمكن أن تقول إننا كنا نعيش على مسافة قريبة إحدانا من الأخرى، ولكن المناطق التعليمية كانت مقسمة بطريقة معينة جعلتني دائما ألتحق بمدرسة البلدة، بينما بنات عائلة نيوكام كن يلتحقن بمدرسة ريفية أبعد على الطريق الريفي. خلال العامين الأولين لداليا في المدرسة الثانوية، بينما كنت أنا لا أزال في المدرسة الإعدادية، كان لا بد أن تتخذ كلتانا نفس الطريق، وإن لم نكن لنسير معا؛ فلم يجر العرف أن يسير طلاب المدرسة الثانوية والمدرسة الإعدادية معا. ولكن الآن وقد صرنا نذهب إلى المدرسة الثانوية، كنا عادة ما نلتقي حيثما يلتقي الطريقان، وإذا حدث ورأت إحدانا الأخرى قادمة، كانت تنتظرها.
هكذا كان الحال بالنسبة لي في خريفي الأول في المدرسة الثانوية. لم يكن السير معا يعني أننا قد أصبحنا صديقتين، كل ما في الأمر أنه كان من الغرابة أن تسير كل منا بمفردها بعد أن أصبحت كلتانا في المدرسة الثانوية ونسلك نفس الطريق. لست أدري عما كنا نتحدث، أعتقد أنه كانت ثمة فترات طويلة من الصمت تعمنا، نظرا لترفع داليا النابع من أنها أكبر مني سنا، ولجفاف في طبعها جعل من المستبعد إمكانية إجراء أي حوار سخيف بيننا. لكن لا أذكر أنني كنت أجد تلك الفترات الصامتة غير مريحة. •••
في صباح أحد الأيام لم أرها، فمضيت في طريقي، ووجدتها تقول لي في حجرة إيداع المعاطف والقبعات: «لن أسلك هذا الطريق بعد ذلك؛ لأنني أقيم الآن في البلدة لدى جلوريا.»
ولم نتحدث معا مرة أخرى إلا بالكاد إلى أن جاء يوم في بداية الربيع؛ ذلك الوقت الذي أنا بصدد الحديث عنه، حين كانت الأشجار عارية من الأوراق ولكنها ضاربة إلى الحمرة، والغربان وطيور النورس مشغولة، والمزارعون يصيحون في خيولهم. وجدتها تتجه نحوي، حيث كنا نهم بمغادرة المدرسة، وقالت: «هل ستتجهين إلى المنزل مباشرة؟» فأجبت بنعم، وما لبثت أن سارت بجواري.
سألتها إن كانت قد عادت للإقامة في منزلها مجددا، فأجابت قائلة: «كلا، ما زلت أقيم لدى جلوريا.»
وعندما مضينا في المسير قليلا، قالت: «أنا ذاهبة إلى هناك فقط لأرى ما يحدث.»
Shafi da ba'a sani ba