كنا قد قطعنا الطريق بأكمله والنوافذ مفتوحة، وهبت علينا ريح ساخنة داخل السيارة، وتسببت في تشابك شعري وجفافه. أدرك أبي أن مظهري ليس على ما يرام، وسألني إن كان معي مشط، فعدت إلى داخل السيارة وأخذت أبحث عن واحد ووجدته أخيرا محشورا في ظهر المقعد. كان متسخا وفقدت بعض أسنانه، فأخذت أحاول تمشيط شعري، وأخذ هو الآخر يحاول، وفي النهاية قال: «ربما تنجحين إذا اكتفيت بدفعه خلف أذنيك.» بعدها أخذ يمشط شعره وبدا عابسا بينما كان ينحني للنظر في مرآة السيارة. سرنا عبر ساحة انتظار السيارات بينما أبي يتساءل بصوت عال إن كان علينا أن نجرب الباب الخلفي أم الأمامي. يبدو أنه ظن أنني قد يكون لدي رأي مفيد بهذا الشأن؛ شيء لم يخطر له مطلقا في أي ظروف مرت به من قبل، فقلت إننا ينبغي أن نجرب الباب الأمامي؛ لأنني أردت أن ألقي نظرة أخرى على حوض الزنابق في المسطح الأخضر نصف الدائري الذي يحيط به الممر. كان هناك تمثال لفتاة عارية الكتفين تلبس رداء مربوطا بإحكام عند ثدييها، وتحمل على كتفها إبريقا؛ لقد كان هذا التمثال أحد أروع الأشياء التي رأيتها في حياتي على الإطلاق.
قال أبي بصوت خفيض: «فلتتحملي العواقب»، وصعدنا درجات السلم، وعبرنا الشرفة أمام أناس يتظاهرون بأنهم لا ينظرون إلينا. دخلنا الردهة، حيث الظلام الدامس لدرجة أن مصابيح صغيرة قد أضيئت، في أغطية ناثرة للضوء من زجاج مسنفر، في موضع مرتفع على الخشب اللامع الداكن للجدران. على أحد الجانبين كانت هناك قاعة الطعام، كانت مرئية عبر الأبواب الزجاجية. كان كل شيء قد تم تنظيفه بعد انتهاء العشاء، وكانت كل طاولة مغطاة بمفرش أبيض. وعلى الجانب الآخر، كانت هناك قاعة طويلة على طراز ريفي مفتوحة الأبواب بها مدفأة حجرية ضخمة في نهايتها، وقد افترشت أرضيتها بجلد دب.
قال أبي: «انظري إلى ذلك، لا بد أنها في مكان ما هنا.»
كان ما لاحظه في ركن الردهة هو واجهة عرض زجاجية بارتفاع الخصر، وخلف زجاجها قبعة من فرو ثعلب فضي معروضة بأسلوب جميل على ما بدا كقطعة من المخمل الأبيض، وعلى قمتها وضعت لافتة كتب عليها: «الثعلب الفضي، الرفاهية الكندية»، بخط انسيابي كتب بطلاء أبيض وفضي على لوحة سوداء.
كرر أبي قوله: «في مكان ما هنا.» أخذنا نحدق في القاعة ذات المدفأة، في حين رفعت امرأة رأسها، كانت جالسة على أحد المكاتب تكتب، وقالت بصوت عذب ولكن بعيد نوعا ما: «أظن أن أحدهم سيأتي إذا قرعت الجرس.»
بدا غريبا لي أن يوجهك شخص لم تره من قبل.
تراجعنا للخلف، وعبرنا الردهة في اتجاه بابي قاعة الطعام، وعبرنا المساحة التي شغلتها الموائد البيضاء بأدواتها الموضوعة فوقها وزجاجها المفتوح وطاقات الزهور ومناديل المائدة البارزة كأكواخ بيضاوية، رأينا شخصين؛ امرأتين تجلسان إلى إحدى الطاولات بالقرب من باب المطبخ، تفرغان من عشاء متأخر أو تحتسيان شاي المساء. أدار أبي مقبض الباب ورفعتا رأسيهما، ونهضت إحداهما وأقبلت نحونا بين الطاولات.
لم تكن اللحظة التي مرت دون أن أدرك فيها أن هذه السيدة هي أمي طويلة، ولكن كانت ثمة لحظة على أي حال. رأيت امرأة في ثوب غير مألوف ذي لون كريمي مزدان بنقوش من أزهار حمراء صغيرة، كانت التنورة ذات ثنيات وتصدر صوت حفيف من تطايرها، وكان القماش المصنوعة منه رقيقا، كانت متألقة كتألق مفارش المائدة في القاعة ذات الألواح الخشبية الداكنة. كانت السيدة التي ترتدي الثوب تبدو نشيطة وأنيقة، وكان شعرها الداكن مفروقا في المنتصف ومزينا بإكليل منسق من الجدائل. وحتى عندما أدركت أن هذه السيدة هي أمي، حين وضعت ذراعيها حولي وقبلتني، ناشرة رائحة عطرة غير معتادة وغير مظهرة لأي من علامات العجلة والندم التي تميزها، ولا لأي من علامات عدم الرضا المعتاد عن مظهري أو طباعي، ظل لدي شعور بأنها لا تزال شخصا غريبا نوعا ما. كان يبدو لي أنها قد اقتحمت عالم الفندق بلا أدنى جهد، ذلك العالم الذي بدونا فيه كمتشردين أو فزاعتين؛ بدا وكأنها كانت تعيش هناك دوما. في البداية شعرت بالدهشة، ثم بالخداع، ثم بالإثارة والأمل، مع اتجاه أفكاري صوب المميزات التي سأجنيها لنفسي في هذا الموقف الجديد.
تبين لي أن السيدة التي كانت أمي تتحدث إليها هي مضيفة قاعة الطعام؛ كانت امرأة لها بشرة ذات لون بني ضارب إلى الصفرة، يبدو عليها الإرهاق، تضع طلاء شفاه وطلاء أظافر باللون الأحمر القاني، وتبين فيما بعد أنها تواجه العديد من المشكلات التي أسرت بها لأمي. وسرعان ما نشأ بيني وبينها جو من الود، فأقحمت نفسي في حديث الكبار للحديث عن كسرات الثلج والمذاق السيئ للآيس كريم، وذهبت إلى المطبخ وأحضرت لي طبقا كبيرا من آيس كريم الفانيليا المغطى بصوص الشوكولاتة وتعلو قمته ثمرة كرز.
قلت لها: «أهذا صنداي؟» كان يبدو مثل آيس كريم صنداي الذي شاهدته في الإعلانات، ولكن لما كانت تلك هي المرة الأولى التي أتذوقه فيها، أردت أن أكون واثقة من اسمه.
Shafi da ba'a sani ba