النشاط الفعال ينشئ المكان بوساطة مجموعات من الحركات في الإدراك الحسي
وإذن فما صورة الشيء، وبعده، ومقداره؟ إنها إحساسات بشرية ولمسية نضمها، بعضها إلى بعض، عن طريق حركات؛ حركات استطلاع، وعبور، ومقارنة. وهذه الحركات حقيقية، تؤديها الأذرع والأرجل، وتهدف إلى تمكيننا من النفاذ إلى العالم المادي، المشترك بيننا وبين أقراننا، ولكنا في نفس الوقت الذي ننشئ فيه العالم المادي بفاعليتنا فيه، نفهمه أيضا، إذ إن المسافة، والصورة، والمقدار، كلها أفكار؛ فالصورة شكل هندسي يستمد من المظهر المرئي والإطار الملموس والعضلي للشيء، وهما يعبران عنها بطريقتهما الخاصة، والمسافة علاقة بين الشيء وبيننا، وهي بدورها علاقة عقلية في جوهرها، لأنها تستخدم في تفسير التناقض الظاهري بين فقدان الاتصال اللمسي، ووجود الاتصال البصري، وهو تناقض يزداد قوة لأننا عندما نحاول القضاء على فقدان الاتصال اللمسي، أي عندما نلمس الشيء، فإن الصورة البصرية تتضخم شيئا فشيئا.
وليس لنا أن نأمل هنا أن نصف النشاط الفعال للعقل الذي يسيطر على الجسد في الإدراك الحسي، ولن نستطيع إلا أن نقدم عنه فكرة مختصرة، تكفي لإفهامنا أن المكان يبنى منذ مرحلة الإدراك الحسي.
يمكننا الشعور بهذا النشاط الفعال عن طريق الرسم
ويبقى علينا أن نجعل علمنا بالمكان ممكنا، أعني أن نحوله إلى موضوع من نوع ما ، على أن المكان ليس موضوعا في ذاته؛ بل هو صورة، كما سبق أن قلنا، ومهمتنا هنا هي أن نحدد له نوعا من الوجود المادي، فما هدف هذه العملية؟ إن لها هدفا مزدوجا؛ هو أن نشعر بالنشاط الفعال الذي كونا به المكان، ذلك النشاط الذي كان سيظل، لولا ذلك، غير منفصل عن أثره، أي غير منفصل عن العالم المادي؛ ثم العمل على إكمال النتيجة التي نصل إليها؛ إذ من الممكن أن يكون المكان، بمعنى ما، أكثر اتساعا من العالم المادي، وأن يسمح بتجاوز ذلك العالم.
وينبغي أن نؤكد هذه النقطة الأخيرة بأن نقدم مثلا لتقدم الهندسة بالنسبة إلى الإدراك الحسي؛ فالعالم الذي ندركه حسيا كرة جوفاء نعيش في وسطها. وهو بعبارة أدق، كما قال مالبرانش، «شبه بيضاوي دوار» أي أنه كرة مسطحة في اتجاهها الرأسي، لأننا نميل إلى اعتبار المسافة التي تباعد بيننا وبين السمت على أنها أقل من تلك التي تفصلنا على الأفق، كما يدل على ذلك كبر الحجم الظاهري للقمر عندما يكون قريبا من الأفق. فلنقل إذن إن تصوير هذا العالم بالكرة هو في حد ذاته دليل على بلوغ الإنسانية حدا بعيدا من العمق، وأن البدائيين كانوا يتصورون أشكالا أكثر سذاجة من ذلك إلى حد كبير، كوجود أمكنة مربعة مماثلة لخريطة موطن القبيلة. هذا ولنلاحظ أن هذا المكان المدرك ليس متساوي الوجهات
anisotrope ، أعني أن اتجاهاته ليست متساوية؛ فالاتجاه الرأسي، وهو اتجاه الثقل، له طابع مميز، إذ إن للعالم المدرك أعلى وأسفل.
ولقد كانت الهندسة في مراحلها الأولى هي التي جعلتنا نتصور مكانا لا متناهيا، ومتجانسا، على أنه أساس مثالي للمكان الذي ندركه بالحس، وعندئذ نفهم أن من الممكن أن نتبادل الاتجاهات فيما بينها، إذا ما نظرنا إليها على أنها مجرد اتجاهات فحسب، وأنه من الممكن مد كل اتجاه إلى ما لا نهاية، من حيث هو اتجاه. ونقول بالاختصار إن المكان المتجانس واللامتناهي هو وعينا بالمكان الذي ندركه حسيا.
بقي علينا أن نوضح العمليات الفعالة التي نصل بها إلى هذا الوعي، والواقع أن ذلك يتم عن طريق الرسم والأساليب العملية التي تستمد منه، كالنحت وقطع الأحجار؛ فبهذه الأساليب، لا نقتصر على اجتياز المكان؛ بل نصنعه ونحققه ماديا، وإذا نحن أدركناه بحواسنا على أنه موضوع، استطعنا التفكير في طبيعته. فالرسام هو أول عالم هندسة وهو في الوقت نفسه أول من يفكر من المكان بطريقة ميتافيزيقية.
الانتقال العملي من الهندسة إلى الميكانيكا انتقال مباشر
Shafi da ba'a sani ba