كما يقولون، وكذلك كان علم الفلك اليوناني. ولكنا نجد بين مفكري اليونان المتعمقين النابهين، من اعترفوا بأن الأرض تدور حول الشمس أو حول مركز العالم؛ ومن هؤلاء عالم فيثاغوري هو فيلولاوس
(القرن الخامس ق.م.) وعالم أفلاطوني هو أرسطارخس الساموسي
Aristarque de Samos (القرن الثالث ق.م.)، وظلت فكرتهم التي ظهرت قبل أوانها ، راكدة وحجبها انتصار المذهب الفلكي القائل بأن الأرض مركز الكون، وهو المذهب الذي أذاعه بطليموس (القرن الثاني بعد الميلاد). ثم بعثت الفكرة، كما نعلم، على يد كبرنك، وهو بولندي في القرن السادس عشر، وسار جاليليو (1564-1642م) في الطريق الذي بدأه كبرنك، وسرعان ما ذاعت تعاليمه، رغم ما عاناه من اضطهاد. والفكرة القائلة بأن الأرض تدور حول الشمس، وحول نفسها، فكرة رياضية؛ إذ إن التصوير الرياضي لحركات الأجرام السماوية أكثر يسرا، وأقرب إلى العقل، إذا ما نظرنا إلى الشمس على أنها هي النقطة الثابتة، فإذا ما تبين لنا مقدار خصب نظرية كبرنك وجاليليو أدركنا أن التقدم العلمي، في هذه الحالة بدورها، كان مشروطا «بتحول» انصرف فيه العقل عن المحسوس، مفضلا عليه المعقول. (3) فكرة النسبية أدت إلى الكشف عن سرعة الضوء
أدت فكرة النسبية أيضا إلى كشف سرعة الضوء، وهو كشف له أهميته القصوى في علم الضوء؛ بل في الميكانيكا ذاتها في الوقت الحاضر. فالرأي التلقائي الذي كان شائعا هو أن الضوء لا يستغرق زمنا، وهو رأي مبني على استدلال ساذج. هو أن الحادث الذي أراه، قد وقع في لحظة معينة، ما دمت قد رأيته في هذه اللحظة (أما بالنسبة إلى الصوت، فقد تحول الناس عن هذا الرأي، عن طريق تجارب بسيطة ملفتة للنظر إلى حد بعيد، ولكن كان لها أثرها البالغ). ومن الواضح أن في هذا الاستدلال مغالطة، ولكن ما كان يمكن التخلص منها إلا بإرشاد تجارب عظيمة الدقة، تفسر بناء على فكرة النسبية. ففي سنة 1676م لاحظ عالم الفلك الدانمركي «أولاف رومر
Olaf Reomer » عضو أكاديمية العلوم بباريس، أن أول تابع من توابع المشتري يدور حول ذلك الكوكب في زمن متغير (وكان التغير يقدر بحوالي ربع ساعة في الأسبوع)، وعندما فحص الشروط الأرضية للملاحظة، تبين له أن التابع يصبح «متقدما» عن المتوسط الزمني عندما تقترب الأرض من المشتري (الذي يسير في دورانه بسرعة أبطأ من الأرض كثيرا) ويصبح «متأخرا» عندما تبتعد الأرض عنه. فخطر بباله عندئذ أن للضوء سرعة معينة، وبالتالي، أن الأرض عندما تقترب من الكوكب، تتلقى الأشعة المضيئة بسرعة أكبر، أما إذا ازدادت المسافة فإنها تتلقاها ببطء أكبر؛ بل لقد استخلص من ذلك تقديرا لسرعة الضوء، وإذا كان ذلك التقدير مخطئا (200000 بدلا من 300000كم في الثانية) فإنه يعد تقديرا رائعا في ذاته، ويرجع خطؤه إلى أسباب لا صلة لها بمنهجه.
وهنا أيضا تظهر النسبية في التصميم على إعطاء دور للملاحظ (البشري أو الأرضي) في كل ملاحظة، وعلى جعل هذا الدور قابلا للتقدير الحسابي بقدر الإمكان، فيتيح لنا ذلك فرصة استبعاد تأثير الملاحظ على الملاحظة. (4) الرياضة والدقة العلمية
كل هذا يفترض تطبيق الرياضة على الطبيعة، بطرق شديدة الاختلاف. غير أن إدخال الرياضة في هذا الميدان يمكن من القيام بمجهود آخر، بل يتطلب مثل هذا المجهود، وأعني به السعي وراء «الدقة».
فالرياضة لا تتميز بالدقة التامة فحسب (2 + 2 = 4 بالضبط، المثلثان اللذان تتساوى أضلاع كل منهما بالآخر ينطبقان تمام الانطباق) بل إنها هي الدقة ذاتها، إلى درجة أنها تمكننا من قياس عدم الدقة بدقة تامة، إذ توضح بكل دقة فيم يكون المقياس غير دقيق، فيقال إن عدم الدقة يصل إلى 1 / 1000 أو 1 / 10000 إلخ، بحيث تكون الدقة متناسبة مع مقام هذا الكسر.
والقول يعد «دقيقا» إذا كان ينطبق على الواقع بطريقة محددة تماما، أعني إذا كان ذلك القطاع من الواقع الذي يشير إليه القول محصورا تماما، ولا ينطوي تبعا لذلك إلا على أقل قدر ممكن من عدم التحديد، ومن اليسير أن نتبين الفارق بين قضيتين مثل: الطقس بارد، الترمومتر يشير إلى درجة تحت الصفر. فالأولى تنطبق على عدد من الوقائع أكبر بكثير من ذلك الذي تنطبق عليه الثانية. ومن هنا نرى إلى أي حد تفيد الصيغة الرياضية في إكساب الدقة. فهي تزداد دقة على الدوام، ما دام في وسعنا دائما أن نضيف أرقاما عشرية، كلما ازدادت دقة أجهزة القياس.
الأشكال المتتابعة للروح العلمية
Shafi da ba'a sani ba