وفي موضع آخر يقول برجسون: «إن العقل يتصف بأنه عاجز بطبيعته عن فهم الحياة.»
16
فنحن نعلم أن الحياة هي «تقدم في السن»، أي أنها ترتبط بالزمان ارتباطا وثيقا.
17
ولقد أطلق برجسون على هذا النوع الخاص من العلاقة بالزمان اسما مميزا، هو «الديمومة
durée » ففي حين أن الزمان بمعنى الكلمة لا سلطان له على المادة الغفل التي لا تخلق شيئا ولا تفقد شيئا، ولا يتقدم بها السن، فإن الديمومة من صفات الحياة، لهذا يتطور الأحياء، أي يتغيرون تغيرات أساسية تبعا للزمان، وهذا التطور «خالق» بمعنى أنه يجدد ويأتي بجديد، وينتهي إلى صور جديدة في جوهرها. على أن العقل والمعرفة العلمية للحياة، لا يدرك كنه هذا التطور الخالق، وهو لا يلاحظ منه إلا شروطه المادية ونتائجه، على حين أن الحدس، الذي يدرك زماننا الوجودي، والتفكير الفعال المجدد، لديه استعداد طبيعي لفهم الحياة. لهذا واصل برجسون كلامه قائلا: «ولكن هل يقتصر تعاطفنا على الأذهان الواعية وحدها؟ وإذا كان كل كائن حي يولد، وينمو، وإذا كانت الحياة تطورا، وإذا كانت الديمومة تعد حقيقة في هذا المجال، أفلا يكون هناك أيضا حدس بما هو حي، وبالتالي ميتافيزيقا للحياة، تكون امتدادا لعلمنا بالحياة؟»
ومن هنا كان تقريب برجسون بين الحدس والغريزة. فالغريزة عنده تفكير يجهل ذاته، ولكن يحاكيه الحدس، بمزيد من الوعي على الأقل. ذلك لأن في الغريزة ما يعادل المعرفة العميقة بالحياة، وبالحياة في مجموعها، ما دام الأحياء - كما تقول النظرية التطورية - ليسوا إلا كائنا حيا واحدا بمعنى ما.
18 (4) الحدس والروحية
هذه المقارنة بالغريزة لا تهدف بالطبع إلى تمجيد الغريزة؛ بل ترمي إلى بث الثقة في نفوسنا بقوة الحدس، ويستخدم الحدس هذه القوة في غايات روحية، إذ إنه لما كان شعورا بالتفكير فإنه يدرك الروح في جوهرها، الذي هو «الخلق». فالعقل «يتمثل الجديد عادة على أنه تنظيم لعناصر موجودة من قبل فلا شيء يفنى أو يخلق في نظره، أما الحدس فيرى، ويعلم أن الروح تستخلص من ذاتها أكثر مما فيها، وأن هذا الأمر بالذات هو قوام الروحية.»
19
Shafi da ba'a sani ba