هنا يتداخل الفهم والتفسير، ولكن هنا يصادف المؤرخ مشاكله؛ بل يصطدم التاريخ ذاته بحدوده التي لا يتعداها. (4) التداخل بين الفهم والتفسير
يستعين التاريخ بالفهم، أي بالمعرفة التي نكونها عن نشاط الإنسان وأفعاله بطريقة مباشرة تتغلغل بها في باطن هذا النشاط، لأن التاريخ يتخذ الإنسان موضوعا له، أو بتغيير أدق، لأن التاريخ يدعونا إلى أن ندرك من جديد نفس الطريقة التي عاش الإنسان بها التاريخ. ففهم الماضي ليس معناه أن نفهمه بوصفه ماضيا؛ بل بوصفه حاضرا لأولئك الذين عاشوا فيه، وعاشوا كما نعيش نحن في حاضرنا، جاهلين به وغير واثقين منه، لا ندري إلى أين نسير، وما إذا كانت الدلالة التي نحددها لهذا الحاضر ستتأيد في المستقبل، الذي نحاول أن نتنبأ به ونصنعه في آن واحد. ومن هنا كانت الواقعة التاريخية فردية، إذ تطابق في كل مرة تجربة فريدة، ومن هنا أيضا كان من المستحيل استيعابها كاملة، إذ إن كل من قام بدور فيها قد عاشها بناء على وجهة نظر معينة. وحسبنا أن نتأمل معركة «ووترلو» ومن وجهة نظر فابريس
Fabrice
ومن وجهة نظر نابليون، وأحد قواد التحالف.
على أن الفهم هو أيضا تفسير، وهو بحث عن دلالة واقعة خارج هذه الواقعة ذاتها، أي في سياقها، وكذلك في أسبابها ونتائجها، ففيه إذن اعتراف بحتمية تاريخية أو منطق للتاريخ. والواقع أن هذين الطريقين (الفهم والتفسير) يرتبطان دائما في عمل المؤرخ الذي يحاول أن يحتفظ للواقعة بملامحها الخاصة وطابعها الأصيل الحي، وفي الوقت ذاته يدمجها في سلسلة متصلة الحلقات، ويميط اللثام عن أسبابها ونتائجها، ويكشف عن القوانين العامة التي تعمل عملها في هذه الواقعة. وكما قلنا من قبل، فإن لكل واقعة إنسانية مثل هذا الوجه المزدوج. فمن الممكن أن ينظر إليها على أنها مظهر لابتكار إنساني، تفسره دوافع، لا أسباب، كما يمكن أن تعد واقعة طبيعية تخضع لضرورة خاصة بها، فتكوين الرايخ
Reich
الألماني يمكن أن يفهم على أنه من عمل بسمارك، وكذلك من عمل الألمان العديدين الذين أسهموا معه في هذه المهمة، كما يمكن النظر إليه على أنه حادث أصبح من المحتم وقوعه بناء على منطق الحركة القومية في القرن التاسع عشر والظروف الخاصة المحيطة بها، ولو عبرنا عن هذه الفكرة على نحو أعم، لقلنا إن الإنسان، والإنسان العظيم بوجه خاص، يمكن أن يفسر التاريخ، وبالعكس يفسر التاريخ الإنسان، وليس على علم التاريخ أن يختار بين هاتين الوجهتين من النظر. وقد أكد ماكس فيبير
Max Weber
بوجه خاص ضرورة الجمع بينهما؛ فالسببية هنا أيضا تعبر عن الفهم كما في قولنا إن قرارا لبسمارك قد أدى إلى حادثة معينة، والفهم يوضح السببية كما في قولنا إن الحركة الوطنية ترتبط بتغيير في التركيب الاقتصادي والاجتماعي، وبظهور أفكار جديدة في الوقت نفسه، إن كل علم يود أن يبرر نفسه تبريرا سببيا، وفي علوم تقترن هذه العلاقة السببية بعلاقة دلالة
relation significative . (5) موضوعية التاريخ
Shafi da ba'a sani ba