Mantiq Ishraqi a Wurin Suhrawardi
المنطق الإشراقي عند السهروردي المقتول
Nau'ikan
تصدير
مقدمة المؤلف
1 - السهروردي ... حياته وآثاره
2 - المنطق وعلاقته بنظرية المعرفة الصوفية عند السهروردي
3 - المنطق عند السهروردي وعلاقته بالمنطق الأرسطي القديم
4 - نقد المنطق الأرسطي ومحاولة إصلاحه عند السهروردي والمناطقة المحدثين
5 - النزعة الصوفية في المنطق الأوروبي الحديث
6 - منطق السهروردي ومحاولة قراءة أفكاره في المنطق الأوربي الحديث
نتائج الدراسة
قائمة المصادر والمراجع
Shafi da ba'a sani ba
تصدير
مقدمة المؤلف
1 - السهروردي ... حياته وآثاره
2 - المنطق وعلاقته بنظرية المعرفة الصوفية عند السهروردي
3 - المنطق عند السهروردي وعلاقته بالمنطق الأرسطي القديم
4 - نقد المنطق الأرسطي ومحاولة إصلاحه عند السهروردي والمناطقة المحدثين
5 - النزعة الصوفية في المنطق الأوروبي الحديث
6 - منطق السهروردي ومحاولة قراءة أفكاره في المنطق الأوربي الحديث
نتائج الدراسة
قائمة المصادر والمراجع
Shafi da ba'a sani ba
المنطق الإشراقي عند السهروردي المقتول
المنطق الإشراقي عند السهروردي المقتول
تأليف
محمود محمد علي
إهداء
إلى أستاذي الدكتور أحمد الجزار أستاذ الفلسفة بجامعة المنيا ... القيمة العليا في حياتنا الأكاديمية وحياتنا الثقافية ... على حد سواء ... قيمة تعلو على المكان ... وعلى الزمان.
محمود محمد علي
بسم الله الرحمن الرحيم
أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا * وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا
سورة النساء، الآيتان: 82 و83
Shafi da ba'a sani ba
تصدير
بقلم أ.د. عاطف العراقي
العلاقة بين المنطق والتصوف في تراثنا الفكري «السهروردي المقتول (549-587ه) نموذجا»، كان في الحقيقة عنوانا لبحث أجراه لوقت طويل تلميذي الدكتور محمود محمد علي، وهذا البحث كان بعنوان «المنطق الإشراقي عند شهاب الدين السهروردي في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، وكان هذا البحث مجالا لدراسته لدرجة الماجستير من كلية الآداب بسوهاج - جامعة أسيوط (سابقا).
و«المنطق الإشراقي عند شهاب الدين السهروردي في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، موضوع لا أتردد في القول بأنه من الموضوعات الحيوية المهمة في مجال التراث الفلسفي العربي.
وتتمثل أهمية هذا الموضوع في أنه يركز على دراسة تراثنا، ولا خير فينا إذا أهملنا تراثنا. إن التراث يشكل جزءا من شخصية الإنسان، ومن يهمل دراسة ماضيه؛ فلا حاضر له ولا مستقبل.
صحيح أننا نختلف مع السهروردي في بعض الآراء، في مجال التصوف بصفة عامة والمنطق الإشراقي بصفة خاصة، كما نختلف مع المؤلف حول بعض الآراء التي ذهب إليها، ولكن هذا لا ينفي أهمية دراسة فكر السهروردي في مجال المنطق.
قسم الباحث دراسته إلى مجموعة من الفصول، تحدث في الفصل الأول عن حياة وآثار السهروردي، مقسما هذا الفصل إلى الحديث عن مولده ورحلاته ومأساته وآثاره وحياته الفكرية بشكل عام. وحلل المؤلف الدكتور محمود محمد علي، في الفصل الثاني، موضوع المنطق وعلاقته بنظرية المعرفة الصوفية عند السهروردي؛ وذلك حين درس مفهوم المنطق عنده، وتقسيم السهروردي للمنطق، وتقييم المنطق الإشراقي. كانت هذه العناصر موضوع الفصل الثاني من فصول كتاب المنطق الإشراقي، والذي يقدمه مؤلفنا الدكتور محمود علي للطبع والنشر؛ وذلك بعد أن كان كما قلنا رسالة جامعية.
أما الفصل الثالث فكان عن المنطق عند السهروردي وعلاقته بالمنطق الأرسطي القديم. وعناصر هذا الفصل تعد عناصر مهمة، ومن بينها الحديث عن المصادر التي استفاد منها السهروردي منطقه الإشراقي، وأوجه الاختلاف والاتفاق بين منطق السهروردي ومنطق كل من ابن سينا وابن تيمية، هذا بالإضافة إلى الإشارة إلى الإضافات التي أضافها السهروردي للمنطق الأرسطي.
هذا عن الفصل الثالث، أما الفصل الرابع فكان موضوعه نقد المنطق الأرسطي ومحاولة إصلاحه عند السهروردي والمناطقة المحدثين. وقد أدار المؤلف حديثه حول نقد السهروردي والمحدثين للمنطق الأرسطي والإصلاحات المنهجية التي أضافها السهروردي والمناطقة المحدثون للمنطق الأرسطي.
وأما الفصل الخامس، والذي عنوانه النزعة الصوفية في المنطق الأوروبي الحديث؛ ففيه ناقش باحثنا ملامح تلك النزعة عند عدد كبير من مناطقة العصر الحديث مناقشة جيدة.
Shafi da ba'a sani ba
أما الفصل السادس والأخير من فصول كتاب الدكتور محمود علي عن المنطق الإشراقي، فكان موضوعه «منطق السهروردي ومحاولة قراءة أفكاره في ضوء المنطق الحديث»، وقد جاء هذا الفصل مقسما إلى مجموعة من العناصر التي تدخل بوجه عام في إطار الحديث عن منطق السهروردي، وهذا يدلنا على التزام الباحث بالدقة وعدم حشر موضوعات قد تبدو بعيدة عن المحور أو الفصل الرئيسي الذي قام بتحليله ودراسته.
موضوع هذا الكتاب إذن يعد موضوعا حيويا، كما سبق أن أشرنا، وهو موضوع لا يعد من الموضوعات السهلة، خاصة أنه يبحث في مجال به مصطلحات عديدة، وباحثنا قد بذل جهده في تحليل وصياغة العديد من الآراء التي قام بها السهروردي، كما أن من مزايا هذه الدراسة أن الباحث لم يكن مقتصرا على مجرد العرض الموضوعي لفصول دراسته، بل إنه حاول جهده نقد هذا الرأي أو ذاك من الآراء التي قال بها السهروردي. ومعنى هذا أن البحث يتضمن الرؤية الموضوعية، والرؤية الذاتية النقدية، وإن كنا نجد عند المؤلف نوعا من المبالغة في إثبات فكرة التأثر والتأثير - تأثر السهروردي بمن سبقوه ومدى تأثيره في الذين عاشوا بعده - وهذه المسألة كان ينبغي معالجتها بحذر حتى نبتعد عن الأساليب الخطابية الإنشائية، والتي تعتمد على المبالغة بوجه عام.
الموضوع إذن الذي اختاره الباحث يعد - كما قلنا - موضوعا مهما، والكتاب به معلومات كثيرة يمكن أن تفتح المجال لكثير من طلاب البحث والدراسة؛ أي إن الهدف الذي سعى إليه المؤلف يعد هدفا نبيلا؛ إذ يسعى إلى التعرف على حقيقة الأشياء، ونرجو للمؤلف استكمال دراساته في مجال المنطق عند فلاسفة العرب بوجه عام؛ إذ إن العرب قد بذلوا جهدا كبيرا في سبر أغوار العديد من المشكلات المنطقية وعلاقتها بالمشكلات الفلسفية.
وحين نجد دراسة أكاديمية؛ دراسة تكشف عن ثراء واطلاع صاحبها، دراسة أمينة وموضوعية، فإن هذه كلها أمور تؤدي بنا إلى تقدير صاحب هذه الدراسة الدكتور محمود علي، ونرجو له كل التوفيق في دراساته المقبلة؛ خاصة أن المشكلات المنطقية والفلسفية تعد ثرية ومتنوعة. نرجو له التمسك بالبحث والدراسة طوال سنوات حياته العلمية.
والله هو الموفق للسداد.
أ.د. عاطف العراقي
أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة
مدينة نصر في 16 / 2 / 1998م
مقدمة المؤلف
يحتل «شهاب الدين أبو الفتوح يحيى السهروردي»، الملقب ب «السهروردي المقتول»، في تاريخ التصوف الإسلامي مكانة كبيرة؛ إذ يمثل كونه مؤسسا للفكر الفلسفي الإشراقي، الذي يدعو إلى الوصول للمعرفة ، عن طريق الذوق والكشف الروحاني، بخلاف التوجه الفلسفي العام والمستدل بالتقصي والتحليل البرهاني. جمع بين عدة توجهات فلسفية من الفكر اليوناني والفكر الشرقي وغيرهما كنماذج فلسفية لتوضيح الفلسفة الإشراقية، وهو يمثل أكبر من دعا إلى التأمل الروحاني من بين الفلاسفة المسلمين، كما عرف عنه عدم الاقتناع بالمصادر، بل بأسلوب التفكير الذاتي والنفسي.
Shafi da ba'a sani ba
ويحكي «ابن أبي أصيبعة» عنه فيقول ما مختصره عن السهروردي: «كان أوحد في العلوم الحكمية، جامعا للفنون الفلسفية، بارعا في الأصول الفلكية، مفرط الذكاء، جيد الفطرة، فصيح العبارة، لم يناظر أحدا إلا بزه، ولم يباحث محصلا إلا أربى عليه، وكان علمه أكثر من عقله. فلما أتى إلى حلب وناظر بها الفقهاء كثر تشنيعهم عليه، وعملوا محاضر بكفره وسيروها إلى دمشق؛ إلى الملك الناصر صلاح الدين؛ فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا في حقه بخط القاضي الفاضل، يقول فيه إن هذا الشاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل أن يطلق ولا يبقى بوجه من الوجوه. ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك، وأيقن أنه يقتل، وليس جهة إلى الإفراج عنه، اختار أنه يترك في مكان مفرد ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله ففعل به ذلك. وكان ذلك في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب 586ه/1190م.»
1
كما يعتبر السهروردي المقتول أيضا، بشهادة بعض الباحثين، صاحب مدرسة إشراقية صوفية، احتلت مكانة الصدارة بين جماعة التصوف والعشق الإلهي، لما قامت به هذه المدرسة من مغامرات عرفانية سحرت بأفكارها العقلانية قلوب معاصريها وعارفيها، وصورت لهم عالم العقول، وعالم النفوس، وعالم المعاد بأسلوب حقاني عميق، أنار النفوس التواقة إلى الخلود والمشاهدة، بواسطة الانفعالات المتوترة الحية، وبالآراء الروحية المكاشفة، والقدرة الخارقة المؤثرة في مشاعر الناس وأحاسيسهم.
2
وفي هذا يذكر الشهرزوري أنه كان من السابقين في الحكمة العملية، وأنه كان قلندري
3 ⋆
الصفة، وكان له رياضات عجز أهل الزمان عنها ... وكان أكثر عباداته الجزع والسهر والفكر في العوالم الإلهية، وكان قليل الالتفات إلى مراعاة الخلق، ملازما للصمت والاشتغال بنفسه.
4
ويقول الدكتور محمد مصطفى حلمي رحمه الله: «... ليس أدل على سعة ثقافته الفلسفية من مؤلفاته العديدة الحافلة بالآراء القيمة، والتي جمع فيها إلى براعة الأنظار العقلية، روعة التعاليم الصوفية، ولطافة الأذواق الروحية ... وترجع أهمية السهروردي في تاريخ الحياة الروحية الإسلامية، لا إلى أنه كان صوفيا من طراز الصوفية الأولين، ولا إلى أنه كان فيلسوفا روحيا يصطنع النظر العقلي الخالص على نحو ما يصطنعه الفلاسفة الخلص، بل هي ترجع إلى مذهبه في حكمة الإشراق، وهو ذلك المذهب الذي نزع فيه منزعا وسطا بين التصوف المعتمد على الذوق، والفلسفة المستندة إلى النظر.»
5
Shafi da ba'a sani ba
كما يدل على ذلك قوله في بيان الطريق الذي حصل به ما حصل من حكمة الإشراق: «... ولم يحصل لي أولا بالفكر، بل كان حصوله بأمر آخر، ثم طلبت الحجة عليه حتى لو قطعت النظر عن الحجة مثلا، ما كان يشككني فيه مشكك ...»
6
ومن هنا كانت حكمة الإشراق فلسفة روحانية في كثير من جوانبها؛ حيث تذهب في المعرفة مذهبا ذوقيا قوامه أن المعرفة الإنسانية إلهام من العالم العلوي، كما يدل على ذلك ما يحدثنا به السهروردي نفسه من أنه كتب كتابه «حكمة الإشراق» إجابة لملتمس فريق من أصدقائه طلب إليه أن يكتب كتابا يذكر فيه ما حصل له بالذوق في خلواته ومنازلاته،
7
وأن المنهج الذي اصطنعه هو ذوق إمام الحكمة أفلاطون الذي يلقبه السهروردي بصاحب الأيد والنور.
8
ويقول الشهرزوري شارح كتب السهروردي في مقدمته لحكمة الإشراق: «وهذه الحكمة الذوقية قل من يصل إليها من الحكماء، ولا يحصل إلا للأفراد من الحكماء المتألهين الفاضلين، وهؤلاء منهم قدماء سبقوا أرسطو زمانا، كأغاثاذيمون، وهرمس، وأنباذوقليس، وفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون، وغيرهم من الأفاضل الأقدمين، الذين شهدت الأمم المختلفة بفضلهم وتقدمهم، وهؤلاء وإن كان أكثر وكدهم الأمور الذوقية، فلم يكونوا خالين عن البحث، بل لهم بحوث وتحريرات وإشارات منها تقوى إمام البحث أرسطاطاليس على التهذيب والتفصيل ... ومنهم متأخرون تأخروا عنه، لكن هؤلاء كانت حكمتهم الذوقية ضعيفة جدا؛ لأن أرسطاطاليس شغلهم بالبحث ... ولم يزل البحث بعد ذلك ينمو والذوق يضعف ويقل ... وضاعت طرق سلوكهم وكيفية معاينة الأنوار المجردة ولطافة مأخذهم في مفارقة الأنفس بعد خراب البدن ... ولم يزل طريق الحكمة مسدودا حتى طلع كوكب السعادة وظهر صبح الحكمة ... بظهور سلطان الحقيقة ... شهاب الملة والحق والدين أبو الفتوح السهروردي، فشرع في إصلاح ما أفسدوا ... وشمر عن ساق الجد في التعصب للحكماء الأول، والذب عنهم ومناقضة من رد عليهم، وبالغ في نصرتهم أشد مبالغة ...»
9
وقد تميز السهروردي بتعدد وتنوع المصادر التي استقى منها فكره؛ فتيارات متعددة، وأفكار مختلفة دينية فلسفية وصوفية ومذاهب اليونان والفرس القديمة، قد أسهمت في تكوين مذهبه، وتجلت مهارته في حبك مختلف الاتجاهات والتيارات في نسق متكامل من خلال محاولته التوفيق بين الاتجاه البحثي العقلي والاتجاه الكشفي الصوفي في منهج واحد يبدأ من العقل ويترقى صاعدا، حتى يصل لمرحلة الكشف والإشراق
10
Shafi da ba'a sani ba
ولذا يصرح السهروردي في مقدمة حكمة الإشراق قائلا: «وما ذكرته من علم الأنوار وجميع ما يبتنى عليه وغيره يساعدني عليه كل من سلك سبيل الله عز وجل، وهو ذوق إمام الحكمة ورئيسها أفلاطون، صاحب الأيد والنور، وكذا من قبله من زمان والد الحكماء هرمس إلى زمانه من عظماء الحكماء وأساطين الحكمة مثل أنباذوقليس، وفيثاغورس، وغيرهما، وكلمات الأولين مرموزة وما رد عليهم، وإن كان متوجها على ظاهر أقاويلهم لم يتوجه على مقاصدهم، فلا رد على الرمز، وعلى هذا يبتني قاعدة الشرق في النور والظلمة التي كانت طريقة حكماء الفرس مثل جاماسف وفرشاوشتر وبوزرجمهر، ومن قبلهم، وهي ليست قاعدة كفرة المجوس وإلحاد ماني، وما يفضي إلى الشرك بالله تعالى.»
11
وعلى الرغم من هذه الأهمية التي مثلها السهروردي في تاريخ التصوف الإسلامي، وعلى الرغم من عمق فلسفته في كافة المجالات التي بحث فيها، إلا أن هناك جوانب عديدة في فلسفته لم تبحث بحثا منهجيا دقيقا شاملا؛ بحيث يتبين لنا أثر فلسفة هذا الفيلسوف.
ومن الموضوعات التي لم تبحث بحثا منهجيا دقيقا شاملا نقده للمنطق الصوري الأرسطي نقدا أضفى عليه بعدا إشراقيا؛ حيث يرى بعض الباحثين أن أفكار السهروردي الفلسفية الخاصة لم تتناول أية فكرة رئيسية منها بالقدر الكافي من البحث والتحليل، وفي مقدمتها جميعا نقده للمنطق الصوري الأرسطي؛ فلقد أجريت بعض الانتقادات من جانب المتكلمين والفقهاء، ولكن نقد السهروردي قد جاء في اتجاه مقابل تماما؛ فقد أنزل المقولات العشر إلى خمس،
12 ⋆
ثم جعل من المنطق سلما صاعدا إلى عالم الإشراق، فإذا ما تأمل القارئ تاريخ المنطق بعد ذلك في الغرب، يدرك ما لنقد السهروردي على المنطق الأرسطي من قيمة بالغة.
إلا أن بعض المستشرقين، من أمثال «هنري كوربان»
Henry Corbin
13
و«ماكس هورتن»
Shafi da ba'a sani ba
Max Horten
14
وغيرهما، يقللون من أهمية الجانب المنطقي في «حكمة الإشراق»، ويركزون على الجانب الكوني الميتافيزيقي، وما الجانب الكوني الميتافيزيقي عن النور، إلا تطبيق للمنهج الإشراقي في تصور الفلاسفة المشائين للكون؛ بل يجعل بعض المستشرقين من أمثال «لويس ماسينون»
Louis Massignon
من السهروردي إشراقيا كونيا ميتافيزيقيا خالصا، ويتركون جانب الحكمة ويميلون به إلى التصوف، ويخرجونه من نطاق الفلسفة والمنطق.
15
والحقيقة أن القسم الأول من «حكمة الإشراق» عن «ضوابط الفكر» لا يقل أهمية عن القسم الثاني عن «الأنوار الإلهية»، بل هما واجهتان لحقيقة واحدة؛ فالسهروردي يبدأ في القسم الأول من «حكمة الإشراق» بالبحث في أسس الفكر من حيث المعايير المنطقية، ليرى إمكانية التوصل إلى الحقيقة من خلال هذه المعايير العقلية، وعندما يجد أنها لا تفيد في الوصول إلى الحقائق الثابتة والدائمة التي ينشدها، يعمد لنقدها ومحاولة إصلاحها، لتصبح صالحة كمرحلة نحو عالم الموجودات الحقيقية؛ عالم الأنوار والمجردات، وهو ما يعرض له في القسم الثاني من الكتاب؛ حيث يتناول نظرية النور ومراتب الأنوار وما يتعلق بذلك من مباحث كونية وطبيعية.
ولذلك ف «السهروردي» قد حاول في القسم الأول من «حكمة الإشراق»، أن ينقد بعض مباحث المنطق الصوري الأرسطي الذي عرض له في رسائله؛ وبخاصة رسالة «اللمحات في الحقائق» أولا، ثم يضع مذهبا منطقيا جديدا ثانيا، أو بمعنى أدق أن يختصر المنطق الأرسطي اختصارا مبتكرا ثانيا، ويسمي كثيرا من آرائه المبتكرة مباحث أو ضوابط إشراقية، بحيث يتسنى لنا بأن نطلق على مجموع تلك الآراء «المنطق الإشراقي».
16
وعلى ذلك فالمنطق الإشراقي عند السهروردي هو محاولة لإصلاح المنطق الأرسطي وتخليصه من آثار المشائية التي تعني لديه الصورية الفارغة، وللتحرر من الطريق الصوري عند المشائين المتأخرين، وذلك عن طريق الحصول على تجربة روحية تعطي هذا المنطق مضمونه وتعدل في شكله، وتخليص الفلسفة أيضا من المناقشات العقيمة بين الفلاسفة المشائين من أجل إحياء الفلسفة، والعودة إلى النبع الإشراقي الصوفي.
Shafi da ba'a sani ba
17
ومن هذا المنطق فإن هذه الدراسة تسعى جاهدة إلى عرض نقد السهروردي لنواح من المنطق الأرسطي الذي وجد فيه ما يعوق طريقه نحو الإشراق، لنكشف من خلال هذا النقد عن رأيه في المنطق العقلي، وهو الصوفي الإشراقي الذي يرى أن المعرفة أساسها: «معاينة المعاني والمجردات مكافحة لا بفكر ونظم دليل قياسي أو نصب تعريف حدي أو رسمي، بل بأنوار إشراقية متتالية متفاوتة لسلب النفس عن البدن.»
18
فما الغاية من عرضه للمنطق ونقده له؟ وما الذي يمكن أن يقدمه في حقل نقد المنطق؟ وهل كان في نقده للمنطق يستند إلى أسس عقلية ينقد من خلالها، فيكون بذلك قد عاد إلى إطار العقل - إن كان ذلك ممكنا -؟ وما قيمة هذا النقد مقارنة بما تعرض له المنطق الأرسطي من نقد في مختلف العصور؟
والإجابة عن هذه الأسئلة متضمنة في تقسيم السهروردي لقضايا المنطق الإشراقي إلى ثلاثة مباحث، وهذه المباحث تكون كالآتي: (1)
مبحث المعارف والتعاريف، ويضم مباحث اللغة وصلة اللفظ بالمعنى والتصريف. (2)
مبحث الحجج، ويضم مباحث القياس وأشكال القضايا. (3)
مبحث المغالطات، وفيه ينقد السهروردي مباحث المشائين في الطبيعيات والإلهيات؛ أي أنه ينقد بعض نتائجهم على أساس من تجربته الإشراقية.
ففي مبحث المعارف والتعاريف، يغير السهروردي بعض أسماء الألفاظ المنطقية المعروفة، ويضع مكانها أسماء أخرى، فيسمي مثلا القسمة الثلاثية المشهورة لدلالة اللفظ على المعنى: التطابق والتضمين والالتزام - يسميها القصد والحيطة والتطفل، وهي ألفاظ تدل على جانب شعوري قصدي لا على جانب صوري موضوعي محايد. وفي قسمة الألفاظ إلى عام وخاص، يسمي اللفظ الخاص اللفظ الشاخص، والمعنى الخاص المعنى الشاخص أو المنحط. وواضح في هذه التسمية الجديدة ظهور بعد الشخص كبعد التعين أو تعيين درجته من حيث العلو والانحطاط، والعلو والانحطاط كلاهما يمثلان بعدا صوفيا تترتب فيه الموجودات حسب الشرف والكمال.
19
Shafi da ba'a sani ba
وفي هذا المبحث أيضا ينتقد السهروردي قاعدة المشائين في التعريفات، موضحا أن المشائين يأخذون الذاتي العام؛ أي الجنس، والذاتي الخاص؛ أي الفصل في تعريف الشيء. ولما كان الذاتي الخاص هذا غير معلوم عند من يجهله، فإقحامه في التعريف يناقض القاعدة المشائية القائلة بأن المجهول لا يتوصل إليه إلا بالمعلوم. ثم لو افترضنا أنه اتفق للمعروف الإلمام بهذا الذاتي أو الخاص أو الفصل، فكيف يأمن ألا يكون قد غفل عن ذاتي آخر لا يعرف الشيء إلا به؟! فتكون المعرفة بالشيء آنذاك ممتنعة وكذلك تعريف الشيء ...!
20
وهذا النقد الذي يوجهه السهروردي للتعريف الأرسطي يوجهه باسم العلم الكشفي أو المعرفة الحسية؛ أي باسم المشاهدة الباطنية أو الخارجية؛ فالمشاهدة وحدها هي التي تعطي الخاص، وهي أساس المعرفة البعدية وسابقة عليها، وهي تعطي معرفة جديدة لا يمكن للتعريف الأرسطي أن يصل إليها، وهي الضامن لصدق المعرفة الإنسانية ومقياس صدقها؛ فالواقع منه المجهول ومنه المعلوم، والمعرفة الإنسانية جزئية؛ لأنها لا تستطيع إلا أن تحصل على المعلوم دون المجهول؛ في حين أن المعرفة الكشفية-الإشراقية تعطينا المجهول والمعلوم على حد سواء. تحتاج المعرفة الإنسانية إذن إلى معرفة أخرى صوفية إشراقية تكون لها بمثابة الأوليات، حتى نضمن ألا تتسلسل المعارف الإنسانية في أولها إلى ما لا نهاية، المعرفة الصوفية-الكشفية هي النقطة اليقينية الضرورية لكل معرفة إنسانية، وهي التي تعطينا معرفة بالواقع، في حين أن التصورات عاجزة عن الخروج من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان.
21
وهكذا ينتهي السهروردي من نقده لمبحث التعريف الأرسطي إلى نتيجة عامة واحدة، وهي أن الإنسان لا يحتاج، لكي يعلم شيئا، إلى التعريف الأرسطي من الجنس والفصل، من أجل إفساح المجال للمعرفة الإشراقية القائمة على الكشف والإلهام الصوفيين.
22
وفي المبحث الثاني، وهو مبحث الحجج، يختصر السهروردي كثيرا من أشكال القضايا؛ لأنها لا يستفاد بها، أو لأنها متشعبة يستغنى عنها بأقل منها، ويستبدل بها ضوابط للفكر قليلة العدد، مختصرة، كثيرة الفوائد، وهذا يعني أن السهروردي يرفض كل ما هو زائد على نظرية متسقة للعقل، وكل ما هو زائد عليه أو متشعبة منه لا دلالة له؛ فمبادئ العقل هي المبادئ الضرورية اللازمة والنافعة؛ أي إنها هي المبادئ الكافية، وقد يكون هذا التشعب والتفريغ أحد معاني الصورية؛ أي الصورية الفارغة.
23
ففي القضايا، يقسم السهروردي القضايا إلى كلية وجزئية أو موجبة وسالبة، ويحذف القضايا الشخصية؛ لأن الشواخص لا يطلب حالها في العلوم، وحتى تكون أحكام القضايا أضبط وأسهل. ويقسم السهروردي القضايا أيضا من حيث الجهة إلى ضرورية وممتنعة وممكنة، ولكنه يحذف المجهولة وكمية الموضوع؛ لأن المجهول لا يفيد العلم؛ لأن الكيف هو الذي يميز شيئا عن آخر. وفي التناقض يحذف السهروردي عديدا من الأبحاث؛ لأنه لا يحتاج إليها في نقد المشائين وتفريعاتهم.
24
Shafi da ba'a sani ba
وفيما يتعلق بالقياس الاستثنائي والاقتراني؛ فيقول عن السلبي إنه لا يحتاج إلى تطويل، والضابط الإشراقي فيه مقنع دون كثير من المختلطات. ويقول عن الشكل الثاني إنه ترك التطويل على أصحابه في الضروب والبيان والخلط. ويقول عن الشكل الثالث إنه قد حذف عنه التطويلات. أما الشكل الرابع فإنه يسقطه من حسابه؛ لأنه شكل تابع للأشكال الثلاثة الأولى الأصلية؛ فالسهروردي يستبدل بهذه التعريفات القديمة الفطرة أو الضابط الإشراقي.
25
وبالإضافة إلى الحذف والاختصار، فإن السهروردي قام أيضا بتبسيط أشكال القضايا في أربعة مواضع، يسمي كلا منها حكمة إشراقية: (1)
فمن حيث الكيف، يرد السهروردي القضايا السالبة كلها إلى قضايا موجبة،
26
وهذا يعني رد الفرع إلى الأصل؛ فالسلب فرع والإيجاب أصل، والسهروردي يبحث عن الأصول لا عن الفروع، والمعرفة الإشراقية أصل المعرفة الإنسانية، وإذا كان السلب جزءا للموضوع أو للمحمول، لم يكن قاطعا للنسبة؛ فالإيجاب قطع والسلب ظن. (2)
ومن حيث الكم، يرد السهروردي القضايا الجزئية كلها إلى قضايا كلية؛
27
فالكل هو الأصل والجزء فرع عليه، والمعرفة الإشراقية كلية لا جزئية، وفي العلوم لا تطلب البرهنة على القضايا الجزئية، بل على الكلية، والجزئية لا تكون شرطا في التناقض، وبالتالي فهي لا تدخل في أصول القضايا، والكلية لا بد أن تكون محيطة أو حاصرة. (3)
ومن حيث الجهة، يرد السهروردي القضايا الممكنة كلها إلى قضايا ضرورية أو بتاتة؛
Shafi da ba'a sani ba
28
وذلك لأن الممكن سلب للضروري، والمعرفة الإشراقية معرفة ضرورية وليست ممكنة. ويجعل السهروردي الإمكان والإقناع جزءا من المحمول، ولم يجعله شرطا للتناقض، والقضية البتاتة هي الوحيدة التي تستخدم في العلوم، أما الممكنة أو الممتنعة فلا تستخدم على الإطلاق. (4)
ومن حيث إطلاق الحكم، يرد السهروردي القضايا المنفصلة كلها إلى قضايا متصلة،
29
وذلك لأن الاتصال أصل الانفصال، ولأن المعرفة الإشراقية متصلة لا انفصال فيها، والحقائق ليس فيها اختيار بين احتمالين: «إما ... أو»، بل هي حقيقة واحدة متصلة صادقة.
أما من حيث مادة البراهين؛ فالسهروردي لا يستعمل إلا مادة يقينية، سواء أكانت فطرية أو ما يبنى على فطري في قياس صحيح، والحدسيات عند السهروردي تشمل المجريات، وهي مشاهدات مفيدة يقينية تحدث بالتكرار والمتواترات، وهي شهادات يقينية لكثرتها بعيدة عن التواطؤ ومؤيدة بالقرائن أو المشهورات والمخيلات والتمثيلات؛ فكلها لا تفيد اليقين؛ فواضح أن اليقين عند السهروردي هو الحدس، والحدس يشمل المتواترات والمشاهدات أو الوحي والمعرفة الإنسانية على حد سواء.
30
ولما كانت مباحث المنطق الإشراقي عند السهروردي على هذا النحو من الجدة والطرافة، فقد اجتهدنا بين الفينة والفينة في أن نقارنه ببعض الأفكار المتضمنة في المنطق الحديث، على ألا تعني تلك المقارنة أن الأفكار التي طرحها السهروردي قد وصلت إلى آخر ما وصلت إليه أفكار المناطقة المحدثين، وإنما يعني وجود نفس الحلول لنفس المشكلات؛ فهناك حقائق منطقية عامة يمكن للمفكرين من شعوب مختلفة الانتساب إليها والاتفاق عليها، دون أن تكون مجرد وجهات نظر خاصة مرتبطة بعصر معين، أو بمزاج خاص، كما لا تعني المقارنة وجود أوجه تشابه مستمرة بين الأفكار المتضمنة في المنطق الإشراقي والأفكار المتضمنة في المنطق الحديث.
كما لا تعني المقارنة بالضرورة أوجه التشابه والاختلاف؛ بل تعني إلى حد ما إيجاد أوجه التشابه والاختلاف عن طريق المقابلة غير المستمرة بين أفكار السهروردي وأفكار المناطقة المحدثين.
وعلى هذا تشمل المقارنة جانبين:
Shafi da ba'a sani ba
الجانب الأول:
موضوعات قائمة في المنطق الإشراقي والمنطق الحديث معا؛ مثل نقد المنطق الصوري الأرسطي، ومحاولة إصلاحه، ثم ربط المنطق بنظرية المعرفة.
الجانب الثاني:
موضوعات قائمة في المنطق الإشراقي يمكن تلمسها في المنطق الحديث، مثل:
أولا:
اختصار المنطق الأرسطي، ثم محاولة وضع نسق له.
ثانيا:
نقد التعريف الأرسطي، ومحاولة وضع تعريف جديد له.
ثالثا:
اختصار المقولات الأرسطية.
Shafi da ba'a sani ba
رابعا:
الاهتمام بالقضايا الشرطية بجانب القضايا الحملية.
خامسا:
رد القضايا السالبة إلى قضايا موجبة.
سادسا:
رد القضايا الجزئية إلى قضايا كلية.
سابعا:
عدم اعتبار القضايا الشخصية قضايا كلية.
ثامنا:
التحلل من عدد أضرب أشكال القياسات الأرسطية.
Shafi da ba'a sani ba
تاسعا:
إنكار الشكل الرابع.
وتقتضينا الأمانة العلمية أن نشير إلى أن هناك دراسات وبحوثا، قد سبقتنا إلى تناول جانب أو أكثر من جوانب المنطق الإشراقي عند السهروردي؛
31 ⋆
لكننا عندما اطلعنا عليها جميعا لم نجد في أي منها معالجة منهجية ودراسة مستوعبة لكل جوانب المنطق الإشراقي. وعلى أية حال فحسب هذه الدراسات السابقة أنها تمثل جهدا لا ينكر لأصحابها من الأساتذة، وأشهد أنني أصبت من بعضها شيئا من الفائدة، ولكن أعظم فائدة من تلك الدراسات هي أنها أكدت عندي العزم على القيام ببحث خاص شامل مستوعب لقضية «المنطق الإشراقي عند السهروردي المقتول».
وقد حاولنا في بحثنا هذا أن نعرض لموضوع المنطق الإشراقي عند السهروردي بمنهج يعالج ما أعرضت عنه أو أغفلته الدراسات السابقة، أو عرضت لجوانب تتصل به في عجالة لا تكشف بدرجة كافية عن فكر السهروردي وفلسفته في هذا الموضوع. ووفقا لفهمنا لنصوص الفيلسوف، وتأويلاتنا لبعضها أحيانا، ومقارنتها بعضها ببعض وبغيرها من الآراء التي سبقته، فقد أدى ذلك إلى أن نقول بآراء تخالف كثيرا من الآراء التي تضمنتها بعض الدراسات السابقة. على أننا لم نكتف بمجرد عرض آراء الفيلسوف في كل مسألة تتصل بالموضوع، وإلا وقعنا فيما نحذر من الوقوع فيه، وهو أن تكون الدراسة أفقية مسطحة خالية من العمق.
ومن ثم حاولنا دائما، وبقدر ما وسعنا الجهد، أن نبرز آراءه التقريرية والنقدية في كل مسألة، ونقارنها بما سبقها من آراء، ثم نكشف عن انعكاساتها وآثارها فيمن جاء بعده، سواء من مفكري الإسلام أو مفكري العصر الحديث.
على أننا في معالجتنا لموضوع بحثنا آثرنا انتهاج المنهج التحليلي المقارن، من حيث يعتبر في نظرنا - على أقل تقدير - أنسب المناهج وأشدها ملاءمة لطبيعة الموضوع وغاياته؛ فبالتحليل نستنطق النص فتنبعث فيه الحياة من جديد، فيحدثنا بعد صمت، ويتحول من حالة كونه شيئا جامدا إلى صيرورته كائنا حيا ينبض بالمعنى والدلالات التي تظهر بعد كمون، وتنشأ علاقة حميمة مثمرة بينه وبين الباحث، يفيد منها هذا في فهم ما ظهر من النص وما بطن، ويعرف مناسبة ولادته، والدافع إليه، وزمانه ومكانه وقيمته، كما يعرف فحواه ومرماه ومصدره، ويتعرف مكونات البنية العضوية للرأي أو النص أو الدعوى، وما قد يكون قد طرأ عليها من تغيير أو تطوير على يد الرفقاء.
وبالمقارنة ندرك الفروق الفردية والجماعية بين طائفة وطائفة، وفريق وفريق، كما ندرك أوجه الاتفاق والاختلاف وأسبابها، ونتلمس الأبعاد الحقيقية وراء ذلك، ونحكم قبضتنا المعرفية على مختلف التوجهات والدعاوى والمسالك ومضامينها وتأدياتها.
ولسنا ندعي أننا بهذا البحث قد نبلغ الغاية التي تسد الطريق أمام كل بحث بعده، وإنما فقط يمكننا أن نزعم أننا سنحاول هنا تقديم رؤية جديدة تلمسنا أهم أبعادها من خلال دراستنا الاستطلاعية في مؤلفات شهاب الدين السهروردي المقتول، وخاصة كتابه «حكمة الإشراق»، ولكل باحث جهده ورؤاه، وفي اعتقادنا أن الدراسات والبحوث العلمية تتكامل فيما بينها بما يحقق التواصل الفكري ويدعم مشروعيته، وفي هذا ما يضمن لنا استمرارية البحث والدراسة في المنطق العربي - الإسلامي، إحياء وتجديدا وتأصيلا، وإبراز الجوانب المضيئة فيه، وتنقيحا له مما علق به من الشوائب بفعل الزمن وتقادم التاريخ، أو بفعل بعض المستشرقين المتزمتين الذين يحاولون إنكار هذا المنطق بحجة أنه نسخة مكررة من المنطق الأرسطي.
Shafi da ba'a sani ba
وقد قسمت هذه الدراسة إلى ستة فصول؛ لأصور بها ملامح وأبعاد المنطق والتصوف عند السهروردي المقتول من شتى نواحيه، تصويرا تعتمد فيه الأجزاء بعضها على بعض؛ فحاولت في الفصل الأول أن أعرف شيئا من شخصيته؛ متى عاش؟ وبمن تأثر؟ ولماذا قتل؟ وأي كتب ألف؟
كذلك في هذا الفصل حاولنا أن نجيب عن كثير من التساؤلات التي واجهتنا من خلاله، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: هل استطاع السهروردي أن يحقق وحدة النظر والذوق، وأن يجمع بين المنطق والتصوف في منهج واحد؟ هل استطاع أن يحقق وحدة المنهج أم بقي ثنائيا؟ فهو منطقي فيلسوف يعتمد على العقل من ناحية، وصوفي إشراقي يعتمد على الذوق من ناحية أخرى. هل يمكننا اعتبار نقد السهروردي للمنطق الأرسطي وتعديلاته المقترحة تمثل الصوفية في شيء أم أنه نقد عقلي منطقي بحت؟
وفي الفصل الثاني ألقيت الضوء على المنطق وعلاقته بنظرية المعرفة الصوفية عند السهروردي. أما الفصل الثالث فقد خصصته للمنطق عند السهروردي وعلاقته بالمنطق الأرسطي. أما الفصل الرابع فقد تناول إشكالية نقد المنطق الأرسطي ومحاولة إصلاحه عند السهروردي والمناطقة المحدثين. ثم يأتي الفصل الخامس، وفيه عرضت للنزعة الصوفية في المنطق الأوروبي الحديث. أما الفصل السادس والأخير فقد حاولت فيه أن أتلمس أفكار وقضايا المنطق والتصوف عند السهروردي في المنطق الأوروبي الحديث، من خلال هذا العنوان «منطق السهروردي ومحاولة قراءة أفكاره في المنطق الحديث.»
وعلى ذلك فإن تناولنا لنقد المنطق الأرسطي من قبل السهروردي، وما طرحناه من بديل، قام على أساس أن ما طرحناه من آراء منطقية إنما يمثل جانبا من رؤية كلية أشمل تنعكس في مجمل آرائه ومباحثه، وما المنطق إلا جزء من هذا السياق الفكري العام؛ فغاية البحث بيان أثر المنطلقات الفكرية والعقدية والأيديولوجية في رؤية المفكر أو الفيلسوف لعملية المعرفة ووسائلها وغاياتها ودور العقل فيها.
وفي النهاية أتمنى أن تكون هذه الدراسة قد حققت ما كانت تهدف إلى تحقيقه؛ حتى تكون ثمرة من ثمار الفكر المفيد في الدراسات التي تهتم بتفاصيل جذور المنطق العربي في المنطق الحديث.
الفصل الأول
السهروردي ... حياته وآثاره
تمهيد
إن شهاب الدين السهروردي؛ هذه الشعلة الإشراقية العرفانية التي أخمدت بسرعة، بفعل الدس والتآمر والتعصب البغيض ، لم ينضب زيتها ويجف بجفاف جسده، بل لا يزال وميضه الروحي، وذوقه العرفاني، يتردد صداه في قلوب عارفيه حتى هذا اليوم، وسيدوم خالدا أبديا يجمع بين النظر والشعور إلى ما لا نهاية، كظل نوراني يمتد بفيئه ليرسم صورة حقيقية رائعة لأسمى معاني العرفان في ثوب الفلسفة والتأمل الفلسفي.
علاوة على ذلك، فإنه لا يمكن أن يتجاهل الكثير من الباحثين والمفكرين أن السهروردي قد قدم لنا مذهبا فلسفيا إنسانيا كاملا؛ حيث ناقش فيه قضايا الفلسفة من خلال المنظومة الرئيسية لها: الله-الكون-الإنسان، فيقدم مفهومه لكل منها، ومفهومه لعلاقة كل منها بالآخر، شأنه في ذلك شأن أي فليسوف. وهو في ذلك يقف على قدم المساواة مع أمثال أرسطو وأفلاطون.
Shafi da ba'a sani ba
ومذهب السهروردي الفلسفي - شأن أي مذهب فلسفي آخر - فيه جانب التأثر بما سبقه، وفيه جانب النقد ومحاولة تقديم الجديد.
ومن هذا المنطلق نحاول في هذا الفصل أن نكشف النقاب عن حياة السهروردي وآثاره، وذلك على النحو التالي:
أولا: اسمه ولقبه
يرى معظم المؤرخين والمترجمين أن شهاب الدين السهروردي هو «أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك»، غير أن «ابن أبي أصيبعة» ذكر أن اسم السهروردي هو «عمر» دون أن يذكر اسم أبيه.
1
وقد لاحظ «نللينو»
Nallino
هذا الخطأ الذي وقع فيه «ابن أبي أصيبعة»، ووصفه بالسهو الشنيع والغلط الفظيع.
2
أما ياقوت الحموي فيقول إن «اسم السهروردي هو أحمد»، وإن كنيته هي «أبو الفتوح».
Shafi da ba'a sani ba
3
ولكن ابن خلكان يشير إلى أن الاسم الصحيح هو «أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك»، ثم يضبط هذا الاسم ضبطا لغويا لما عسى أن يلتبس في هذا الاسم من ألفاظ غريبة أو عجيبة قد يصعب نطقها أو فهمها؛ فيذكر أن لفظ «حبش» بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة والشين المعجمة. وقال عن لفظ «أميرك» إنه بفتح الهمزة وبعدها ميم مكسورة، ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها راء مفتوحة، ثم كاف، وهو اسم أعجمي معناه «أمير» وهو تصغير «أمير»؛ لأن الكاف التي تلحق بآخر الاسم هي للتصغير.
4
ويلقب السهروردي بالمؤيد بالملكوت؛ وذلك لما عرف عنه من العلوم الإلهية والأسرار الربانية التي رمز الحكماء إليها، وأشار الأنبياء إليها، ولما أيد به من قوة التعبير عن هذه الأسرار وتلك العلوم في كتابه العظيم «حكمة الإشراق».
5
ويلقب أيضا ب «خالق البرايا»؛ وذلك لما كان يظهره في الحال من العجائب. ويرى الشهرزوري أن واحدا رأى السهروردي في المنام، فقال له الأخير: «لا تسموني بخالق البرايا.»
6
ولما كان السهروردي قد قتل بأمر السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 586ه/ 1193م، فلهذا السبب أطلق عليه المؤرخون لقب «الشيخ المقتول»؛ وذلك تمييزا له عن غيره ممن يشتركون معه في النسبة إلى سهرورد؛ فثمة علماء ثلاثة يعرفون باسم السهروردي وهم: (1)
ضياء الدين أبو النجيب عبد القاهر السهروردي، المتوفى سنة 630ه الموافق 1167م أو سنة 1168م. (2)
شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد بن عمويه، مؤلف عوارف المعارف، سنة 632ه، الموافق سنة 1234 أو 1235م. (3)
Shafi da ba'a sani ba
محمد بن عمر، ابن الشيخ شهاب الدين - المتقدم مباشرة - صاحب زاد المسافر في التصوف.
7
غير أن «أحمد أمين» يرى أنه ربما لقب ب «الشيخ المقتول»؛ إيماء بأنه قتل استحقاقا لهذا القتل، وإلا كان لقب بالشهيد، وأنه أشاع في «حلب» تعاليمه الفلسفية ورأيه في الحلول، وأن الله والعالم شيء واحد، وتصريحه بذلك ألب الفقهاء والشعب عليه، فاضطر الملك الظاهر بن صلاح الدين حاكم حلب أن يتخلى عن حمايته، فقتل عام «586ه»، وهو في السادسة والثلاثين من عمره.
8
ويرجع «الأب جومس نولجانس» أن علة لقب السهروردي بالشيخ المقتول يرجع إلى أنه الاسم الذي تعود عليه الناس فسموه به، ولأنه لم يمت موتا عاديا، وإنما مات مقتولا، ولهذا يكون اللقب الذي تعود الناس تسميته به (المقتول) يشير إلى أن موته لم يعتبر دليلا على الإيمان الحقيقي الذي يتسم به الشهداء، وإنما مات كافرا، مدانا من السلطات الدينية.
9
وهنا يتضح أن السهروردي إذا كان قد لقب بالشيخ المقتول، فذلك لما تواتر عليه جمهور المؤرخين، أما تلاميذه وأتباعه فإنهم يطلقون عليه لقب «الشهيد»؛ حيث اعتبروه شهيد الفكر والعقيدة الإشراقية.
10
ثانيا: المولد والنشأة
في منتصف القرن السادس الهجري ولد شهاب الدين السهروردي المقتول عام 549ه الموافق 1153م في «سهرورد»، وهي بضم أوله وسكون ثانيه وفتح الراء والواو وسكون الراء، ودال مهملة، وهي بلدة قريبة من زنجان بالجبال.
Shafi da ba'a sani ba