فجملة منافع الأعصاب أنها الآلة والطريق الذي يتأدى وينفد فيه الحس والحركة إلى الأعضاء، وذلك أنه إن شدت أو قطعت عرضا بطل عن العضو الذي يجيئه إما الحس وإما الحركة وإما كليهما. وإن شدخ النخاع أو بتر عرضا بطل عن الأعضاء التي منبت عصبها دون ذلك القطع الحس والحركة البتة. وإن وقع القطع في طول النخاع لم يضر ذلك، وكذلك إن وقع في طول العصب. وأما الواقع منه بالعرض فإنه يبطل به من الفعل بمقدار إمعان القطع في الجانب الذي يقع فيه. وأما الدماغ فمع أنه ينبوع الحس والحركة الإرادية وهو أيضا على رأي جالينوس معدن التخيل والفكر والذكر، ويكون التخيل منه بالبطن المقدم والفكر بالبطن الأوسط والذكر بالبطن المؤخر، وجعل الخالق عز وجل القلب معدنا وينبوعا للحرارة الغريزية ومنه يكتسب سائر البدن وينال الحرارة بالشرايين التي تنبت منه وتتصل بالأعضاء. فأي عضو عدم الشرايين التي تجيئه، خدر وعسرت حركته وحسه، ثم إنه يفقدهما البتة ويبرد ويصير في حكم الموات. وذلك أن العضل والأعصاب والدماغ نفسه يحتاج في أن يبقى على طبعه الذي يتم به الفعل إلى مقدار ما من الحرارة. فمن أجل ذلك وصل لها شرايين. وهذه المنفعة التي ينالها الجسد من القلب هي المنفعة الأولى التي يفضل بها الحيوان على النبات. وأما المنفعة التي ينالها الجسد من الدماغ فهي المنفعة الثانية التي بها الكمال وإليها أجرى وهو كان الغرض. أما المنفعة التي ينالها الجسد من الكبد فشيء يعمه الحيوان والنبات. وذلك أنه إنما ينال منه الاغتذاء والنمو. ومن أجل أن القلب يحتاج لبقائه على طباعه إلى تنسم هواء بارد أبرد منه، وإخراج ما قد سخن في تجاويفه من الهواء سخونة مفرطة، خلقت آلات التنفس أعني الصدر والرئة، وجعل بينهما وبين القلب وصل ومجار ينفذ فيها ما ينتشق من الهواء على ما نحن ذاكروه عند ذكرنا هيئة هذه الأعضاء. وجعل الكبد أصلا ومولدا للدم، ووصل منه العروق بالأعضاء ليسقى كل عضو ويتوزع الدم عليها بقدر حاجتها إليه فيكون لذلك غذاءها وبقاء ما يبقى بحاله ونمو ما ينمو منها وذلك أن الشيء إنما يبقى بحاله إما لأنه لا ينفش ولا يتحلل منه شيء كالحال في الحجارة نحو الياقوت والذهب والزجاج وإما لأنه لا يخلف فيه بدلا مما يتحلل وينفش منه كماء البحر الذي ينفش منه كل يوم ويتحلل منه شيء كثير وينصب فيه من الأدوية بدلا مما يتحلل فتكون صورته أبدا محفوظة على حاله متقاربة. ولما كانت أبدان الحيوان مركبة من الجواهر التي تتحلل لم يمكن أن تنمو ولا أن تبقى بحالها إلا بالاغتذاء. ولما كان ما يغتذي به ليس من نوع ما يتحلل منها احتيج أن يكون لها عضو يحيل ما يغتذي به إلى مثل الجوهر الذي يتحلل منه ولأن ما يغتذي به أيضا لا يستحيل عن آخره بل إنما يستحيل ويتشبه به منه طائفة ويبقى الباقي فضلا غير قابل للاستحالة والتشبه بالذي تحلل منه. وكانت هذه الفضول إن يقيت في أبدانها أورثتها ضروب الأسقام أعد وهيىء لدفعها وإخراجها عن البدن آلات ومنافذ. ولأن الهضم في الغذاء يكون في ثلاثة أماكن، صارت أجناس الفضول ثلاثة: أحدها فضل الهضم الكائن في المعدة والأمعاء وهو النجو والآخر فضل الهضم الكائن في الكبد عند تولد الدم وهو المرار الأصفر والأسود والبول. ويخرج هذه عن الدم إلى المرارة والطحال والكليتين على ما نحن ذاكروه بشرح أبلغ حيث نذكر هيئة الأعضاء هذه وفضل الهضم الكائن في الأعضاء عند تشبه الدم الذي توزع عليها بها وهو العرق والوسخ ونحوهما من الفضول السائلة من الأعضاء كالمخاط والرمص وما أشبههما. وللبدن أربعة ضروب من الأعضاء. ثلاثة منها رئيسة والحاجة إليها في بقاء الحياة اضطرارية وهي آلات الغذاء، وهي المعدة والكبد وجداولهما والعروق والطرق إليها كالفم والمري، ومنها كالأمعاء والدبر وآلات الحرارة الغريزية وحفظها وأولها القلب والشرايين ثم الصدر والرئة وسائر ما يعين على التنفس مما نحن ذاكروه في موضعه. ومنها آلات الحس والحركة والأفعال العقلية وهي الدماغ والنخاع والعصب والعضل والأوتار ونحوها مما يحتاج إليها في المعونة على تمام فعل الحس والحركة والتصور العقلي. وأحد هذه الآلات من كل نوع منها ما هو الفاعل الرئيس، وسائرها كالخدم والأعوان له على تمام فعله . فرئيس آلات الغذاء هو الكبد، ورئيس آلات الحرارة الغريزية هو القلب، ورئيس آلات الحس والحركة والأفعال العقلية والنفسية هو الدماغ. وكل واحد منها مشتبك بالآخر ومحتاج إليه. وإنه لولا الكبد وإمداده لسائر الأعضاء بالغذاء لانحلت ويبست وانفنت. ولولا ما يتصل بالكبد من حرارة القلب، لم يبق له جوهره الذي يتم به فعله، ولولا تسخين القلب للدماغ بالشرايين وإغذاء الكبد بالعروق الصاعدة إليه، لم يدم للدماغ طبعه الذي يكون به فعله، ولولا تحريك الدماغ لعضل الصدر لم يكن التنفس ولم يبق للقلب جوهره الذي منه ينعش الحرارة الغريزية في أبداننا.
Shafi 39