نقول: إن الخالق الباري جل وعز جعل العظام عماد للبدن ودعائم له، ولأنه يحتاج أن يتحرك في وقت دون وقت، وجزء من البدن دون جزء، ولم يجعل ما في البدن منها عظما واحدا بل عظاما كثيرة، وهيأ وشكل كل واحد منها بالشكل الموافق لما أراد به، ووصل ما يحتاج منها أن يتحرك في بعض الأحوال معا، أو في بعضها فرادى بشيء أنبته من أحد طرفي العظم، ووصله بالطرف الآخر، ويسمى هذا الشيء الرباط. وهو جسم أبيض صلب عديم الحس، وجعل لأحد طرفي العظمين زوائد وفي الطرف الآخر، نقرا موافقة لدخول هذه الزوائد وتمكنها فيها. فالتأمت بهذه الهيئة بين العظام مفاصل وصار للأعضاء من أجل المفاصل أن يتحرك منها بعض دون بعض. ومن أجل الربط الواصلة بين العظام أن يتحرك معا كعظم واحد. وإنا إذا أردنا أن نحرك جملة اليد حركناها من حيث مفصل الكتف حركة واحدة كحالها لو كان ما فيها من العظام عظما واحدا من غير أن يعوقنا ويمنعنا من ذلك مفصل المرفق ولا مفصل الرسغ ولا مفصل الأصابع. وإذا أردنا أن نحرك منها جزءا واحدا دون جزء فعلنا ذلك بالمفصل المهيأ له. وقد تم بهذا التدبير ضربا الحركة أعني الكلية والجزئية يستعمل منها أيما شاء بحسب ما تدعو إليه الحاجة ومن أجل أن العظام ليس لها أن تتحرك بذاتها بل بمحرك لها يحركها على سبيل جهة الإنفعال وصل بها من مبدأ الحس والحركة وينبوعها الذي هو الدماغ وصولا. وهذه الوصول هي العصب وليس يتصل بالعظام مفردة لكن بعد الاختلاط منها باللحم والرباط. وذلك أن العصبة لو اتصلت مفردة بعضو عظيم لكانت إما أن لا تقدر أن تحركه البتة، وإما أن يكون تحريكها له تحريكا ضعيفا. ومن أجل ذلك تنقسم العصبة قبل بلوغها العضو الذي أريد تحريكه بها وينتسج فيما بين تلك الأقسام من اللحم وشظايا من الرباط فيكون من جميع ذلك شيء يسمى العضل. ويكون عظم الجسم الذي سمي العضل، بمقدار العضو الذي أريد تحريكه به ووضعه في الجهة التي يراد أن يتحرك إليها ذلك العضو، ثم ينبت من الطرف الذي يلي العضو المتحرك من طرفي العضلة شيء يسمى الوتر وهو جسم مركب من العصب الجائي إلى ذلك العضو ومن الربط النابتة من العظام قد تخلص من اللحم الذي كان منتسجا بينهما عند وسط العضلة فيمر حتى يتصل من العضو الذي يريد تحريكه بطرفه الأسفل فيلتئم بهذا التدبير. إن قليلا من تشنج العضلة نحو أصلها يجذب الوتر جذبا قويا. وأن العضو يتحرك بكليته لأن الوتر متصل منه بطرفه الأسفل. وجعل الله عز وجل الدماغ عنصر الحس والحركة الإرادية، وأنبت منه أعصابا تتصل بالأعضاء لتعطيها ضروب الحس والحركة. ونحن ذاكرون منابت الأعصاب عند ذكرنا لتشريح العصب. ولما كان أسافل البدن وما بعد عن الدماغ يحتاج إلى أن ينال الحس والحركة كان نزول العصب إليها من الدماغ بعيد المسلك غير حريز ولا وثيق. وجعل الباري عز وجل في أسفل القحف ثقبا وأخرج منه شيئا من الدماغ وهو النخاع وحصنه لشرفه بخرز الظهر والستاسن كما حصن الدماغ بالقحف وأجراه في طول البدن وهو محصن موقى، وأنبت منه شيئا متى قارب وحاذى عضوا ما عصبا يخرج من ثقوب فيما بين الخرز ويتصل بتلك الأعصاب فيعطيها الحس والحركة. فإن حدث على الدماغ حادثة عظيمة، فقد البدن كله الحس والحركة. أما إن حدث على النخاع حادثة عظيمة، فقدت الأعضاء التي يجيئها العصب من ذلك الموضع وما دونها الحس والحركة. وذلك أن الدماغ بمنزلة عين وينبوع للحس والحركة الإرادية، وأن النخاع بمنزلة نهر عظيم والأعصاب النابتة من النخاع هي بمنزلة جداول تأخذ من ذلك النهر. فمتى حدث على العين نفسها حادث، كان في ذلك ضرر عام. ومتى حدث على بعض الجداول حادث، كان الضرر في الموضع الذي تجيء إليه تلك الجداول. ومن أجل ذلك صار العلم بمواضع مخارج الأعصاب والأعضاء التي تجيئها نافع في المداواة والمعالجة كما ذكر ذلك الفاضل جالينوس:
Shafi 36