كتاب المناظر المقالة الأولى في كيفية الإبصار بالجملة
Shafi 57
بسم الله الرحمن الرحيم
المقالة الأولى من كتاب الشيخ أبي علي الحسن بن الحسن بن الهيثم في المناظر
فصول المقالة وهي ثمانية
الفصل الأول: صدر الكتاب. الفصل الثاني: في البحث عن خواص البصر. الفصل الثالث: في البحث عن خواص الأضواء وعن كيفية إشراق الأضواء. الفصل الرابع: فيما يعرض بين البصر والضوء. الفصل الخامس: في هيئة البصر. الفصل السادس: في كيفية الإبصار. الفصل السابع: في منافع آلات البصر الفصل الثامن: في علل المعاني التي لا يتم الإبصار إلا بها.
الفصل الأول وهو صدر الكتاب
Shafi 59
[1] إن المتقدمين من أهل النظر قد أمعنوا البحث عن كيفية إحساس البصر، وأعملوا فيه أفكارهم، وبذلوا فيه اجتهادهم، وانتهوا منه إلى الحد الذي وصل النظر إليه، ووقفوا منه على ما وقفهم البحث والتمييز عليه. ومع هذه الحال فآراؤهم في حقيقة الإبصار مختلفة، ومذاهبهم في هيئة الإحساس غير متفقة، فالحيرة متوجهة، واليقين متعذر، والمطلوب غير موثوق بالوصول إليه. وما أوسع العذر مع جميع ذلك في التباس الحق وأوضح الحجة في تعذر اليقين، فالحقائق غامضة، والغايات خفية، والشبهات كثيرة، والأفهام كدرة، والمقاييس مختلفة، والمقدمات ملتقطة من الحواس، والحواس التي هي العدد غير مأمونة الغلط. فطريق النظر معفى الأثر، والباحث المجتهد غير معصوم من الزلل، فلذلك تكثر الحيرة عند المباحث اللطيفة، وتتشتت الآراء، وتفترق الظنون، وتختلف النتائج، ويتعذر اليقين.
[2] والبحث عن هذا المعنى مع غموضه وصعوبة الطريق إلى معرفة حقيقته مركب من العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية. أما تعلقه بالعلم الطبيعي فلأن الإبصار أحد الحواس، والحواس من الأمور الطبيعية. وأما تعلقه بالعلوم التعليمية فلأن البصر يدرك الشكل والوضع والعظم والحركة والسكون، وله مع ذلك تخصص بالسموت المستقيمة، والبحث عن هذه المعاني إنما يكون بالعلوم التعليمية. فبحق صار البحث عن هذا المعنى مركبا من العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية.
[3] وقد بحث المتحققون بعلم الطبيعة عن حقيقة هذا المعنى بحسب صتناعتهم واجتهدوا فيه بقدر طاقتهم، فاستقرت آراء المحصلين منهم على أن الإبصار إنما يكون من صورة ترد من المبصر إلى البصر منها يدرك البصر صورة المبصر. فأما أصحاب التعاليم فإنهم عنوا بهذا العلم أكثر من عناية غيرهم، واستقصوا البحث عنه، فاهتموا بتفصيله وتقسيم أنواعه، وميزوا المعاني المبصرة، وعللوا جزئياتها، وذكروا الأسباب في كل واحد منها، مع اختلاف يتردد بينهم على طول الزمان في أصول هذا المعنى، وتفرق آراء طوائف من أهل هذه الصناعة. إلا أنهم على اختلاف طبقاتهم وتباعد أزمانهم وتفرق آرائهم متفقون بالجملة على أن الإبصار إنما يكون بشعاع يخرج من البصر إلى المبصر وبه يدرك البصر صورة المبصر، وأن هذا الشعاع يمتد على سموت خطوط مستقيمة أطرافها مجتمعة عند مركز البصر، وأن كل شعاع يدرك به مبصر من المبصرات فشكل جملته شكل مخروط رأسه مركز البصر وقاعدته سطح المبصر. وهذان المعنيان أعني رأي أصحاب الطبيعة ورأي أصحاب التعاليم متضادان متباعدان إذا أخذا على ظاهرهما.
Shafi 60
[4] ثم مع ذلك فأصحاب التعاليم مختلفون في هيئة هذا الشعاع وهيئة حدوثه. فبعضهم يرى أن مخروط الشعاع جسم مصمت متصل ملتئم. وبعضهم يرى أن الشعاع خطوط مستقيمة هي أجسام دقاق أطرافها مجتمعة عند مركر البصر، وتمتد متفرقة حتى تنتهي إلى المبصر، وأن ما وافق أطراف هذه الخطوط من سطح المبصر أدركه البصر وما حصل بين أطراف خطوط الشعاع من أجزاء المبصر لم يدركه البصر، ولذلك تخفى عن البصر الأجزاء التي في غاية الصغر والمسام التي في غاية الدقة التي تكون في سطوح المبصرات. ثم إن طائفة من يعتقد أن مخروط الشعاع مصمت ملتئم ترى أن الشعاع يخرج من البصر على خط واحد مستقيم إلى أن ينتهي إلى المبصر، ثم يتحرك على سطح المبصر حركة في غاية السرعة في الطول والعرض لا يدركها الحس لسرعتها، فيحدث بتلك الحركة المخروط المصمت. وطائفة ترى أن الأمر بخلاف ذلك وأن البصر إذا فتح أجفانه قبالة المبصر حدث المخروط في الحال دفعة واحدة بغير زمان محسوس. ورأى طائفة من جميع هؤلاء أن الشعاع الذي به يكون الإبصار هو قوة نورية تنبعث من البصر وتنتهي إلى المبصر، وبتلك القوة يكون الإحساس. ورأى طائفة أن الهواء إذا اتصل بالبصر قبل منه كيفية فقط، فيصير الهواء في الحال بتلك الكيفية شعاعا يدرك به البصر المبصرات.
Shafi 61
[5] ولكل طائفة من هذه الطوائف مقاييس واستدلالات وطرق أدتهم إلى اعتقادهم وشهادات، إلا أن الغاية التي عليها استقر رأي جميع من بحث عن كيفية إحساس البصر تقسسم بالجملة إلى المذهبين المتضادين اللذين قدمنا ذكرهما وكل مذهبين مختلفين إما أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا، وإما أن يكونا جميعا كاذبين والحق غيرهما جميعا، وإما أن يكونا جميعا يؤديان إلى معنى واحد هو الحقيقة، ويكون كل واحد من الفريقين القائلين بذينك المذهبين قد قصر في البحث فلم يقدر على الوصول إلى الغاية فوقف دون الغاية، ووصل أحدهما إلى الغاية وقصر الآخر عنها، فعرض الخلاف في ظاهر المذهبين، وتكون غايتهما عند استقصاء البحث واحدة. وقد يعرض الخلاف أيضا في المعنى المبحوث عنه من جهة اختلاف طرق المباحث، وإذا حقق البحث وأنعم النظر ظهر الاتفاق واستقر الخلاف.
[6] ولما كان ذلك كذلك، وكانت حقيقة هذا المعنى مع اطراد الخلاف بين أهل النظر المتحققين بالبحث عنه على طول الدهر ملتبسة، وكيفية الإبصار غير متيقنة، رأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى بغاية الإمكان، ونخلص العناية به، ونتأمله، ونوقع الجد في البحث عن حقيقته، ونستأنف النظر في مبادئه ومقدماته، ونبتديء في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، ونميز خواص الجزئيات، ونلتقط بالاستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وها هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائح، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الأراء، فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر، ونصل بالتدرج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم بها مواد الشبهات. وها نحن مع جميع ذلك، برآء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية، ولكنا نجتهد بقدر ما هو لنا من القوة الإنسانية، ومن الله نستمد المعونة في جميع الأمور.
Shafi 62
[7] ونحن نقسم هذا الكتاب سبع مقالات: ونبين في المقالة الأولى كيفية الإبصار بالجملة، ونبين في المقالة الثانية تفصيل المعاني التي يدركها البصر وعللها وكيفية إدراكها، ونبين في المقالة الثالثة أغلاط البصر فيما يدركه على استقامة وعللها، ونبين في المقالة الرابعة كيفية إدراك البصر بالانعكاس عن الأجسام الصقيلة، ونبين في المقالة الخامسة مواضع الخيالات وهي الصور التي ترى في الأجسام الصقيلة، ونبين في المقالة السادسة أغلاط البصر فيما يدركه بالانعكاس وعللها، ونبين في المقالة السابعة كيفية إدراك البصر بالانعطاف من وراء الأجسام المشفة المخالفة الشفيف لشفيف الهواء، ونختم الكتاب عند آخر هذه المقالة.
[8] وقد كنا ألفنا مقالة في علم المناظر سلكنا في كثيرمن مقاييسها طرقا إقناعية، فلما توجهت لنا البراهين المحققة على جميع المعاني المبصرة استأنفنا تأليف هذا الكتاب. فمن وقع إليه المقالة التي ذكرناها فليعلم أنها مستغنى عنها بحصول المعاني التي فيها في مضمون هذا الكتاب.
الفصل الثاني في البحث عن خواص البصر
[1] نجد البصر ليس يدرك شيئا من المبصرات إلا إذا كان بينه وبينه بعد ما. فإن المبصر إذا كان ملتصقا بسطح البصر فليس يدركه البصر وإن كان من المبصرات التي يصح أن يدركها البصر.
[2] ونجد البصر ليس يدرك شيئا من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد، ويكون إدراكه ها لابالانعكاس، إلا إذا كان مقابلا للبصر، وكان بين كل نقطة من سطحه الذي يدركه البصر وبين سطح البصر خط مستقيم متوهم أو خطوط مستقيمة متوهمة، ولم يتوسط بين سطح البصر وبين المبصر جسم كثيف يقطع جميع الخطوط المستقيمة التي تتوهم بين سطح البصر وبين سطح المبصر الذي يدركه البصر.
[3] ونجد كل مبصر يدركه البصر، ويكون معه في هواء واحد، ويكون إدراكه له لا بالانعكاس، متى قطعت جميع الخطوط المستقيمة التي تتوهم بين سطح البصر وبين سطحه الذي يدركه البصر بجسم كثيف استتر ذلك المبصر عن البصر وخفي عنه ولم يدركه، وإن كان بين البصر وبينه في هذه الحال هواء متصل لا يتخلله شي ء من الأجسام الكثيفة إذا كان اتصاله على غير استقامة، ثم إذا رفع ذلك الساتر الكثيف أدرك البصر المبصر.
Shafi 63
[4] ومتى قطع الساتر جميع الخطوط المستقيمة التي بين جزء من سطح المبصر وبين سطح البصر، حتى لا يبقى بين ذلك الجزء من المبصر وبين شيء من الجزء من سطح البصر الذي منه يكون الإبصار خط مستقيم إلا وقد قطعه ذلك الساتر، استتر من المبصر ذلك الجرء فقط الذي قطع الساتر جميع الخطوط المستقيمة التي بيينه وبين موضع الإبصار من سطح البصر.
[5] وإذا استقرئت جميع المبصرات في جميع الأوقات واعتبرت وحررت وجدت على الصفة التي ذكرناها مطردة لا تختلف ولا تتغير. فيدل ذلك على أن كل مبصر يدركه البصر، ويكون معه في هواء واحد، إذا كان إدراكه له لابالانعكاس، فإن بين كل نقطة من سطح المبصر وبين نقطة ما من سطح البصر، أو أكثر من نقطة، خطا مستقيما أو خطوطا مستقيمة لا يقطعها شيء من الأجسام الكثيفة.
[6] فأما كيف يعتبر هذا المعنى اعتبارا محررا فإن اعتباره ممكن متسهل بالساطر والأنابيب. فإذا شاء معتبر أن يعتبر ذلك ويحرره فليتخذ مسطرة في غاية الصحة والاستقامة، وليخط في وسط سطحها خطا مستقما موازيا لخطي نهايتها، ويتنخذ أنبوبا أسطوانيا أجوف طوله في غاية الاستقامة واستدارته في غاية ما يمكن من الصحة ودائرتا طرفيه متوازيتان. ولتكن متانته متشابهة، وليكن مقتدر السعة وليس بأوسع من محجر العين، وليخط في سطحه الظاهر خطا مستقيما يمتد من نقطة من محيط إحدى قاعدتيه إلى النقطة المقابلة لها من الناحية الأخرى. وليكن هذا الأنبوب أقصر من طول المسطرة بمقدار يسير، وليقسم الخط الذي في وسط المسطرة بثلاثة أقسام، وليكن الأوسط من الأقسام مساويا لطول الخط الذي في سطح الأنبوب، ويكون القسمان الباقيان اللذان عن جنبتيه بأي قدر كان. ثم يلصق الأنبوب بسطح المسطرة ويطبق الخط الذي في سطحه على القسم الأوسط من الخط الذي في وسط سطح المسطرة، ويتحرى أن ينطبق نهايتا طرفيه على النقطتين اللتين فصلتا الخط الأوسط، ويلصق الأنبوب بسطح المسطرة على هذه الصفة إلصاقا ملتحما وثيقا لا ينحل ولا يتغير.
Shafi 64
[7] فإذا أحكمت هذه الآلة وأراد المعتبر أن يعتبر بها إدراك البصر للمبصرات فليعين على مبصر من المبصرات، وليلصق طرف هذه المسطرة بالجفن الأسفل من إحدى عينيه ويلصق الطرف الأخر بسطح المبصر ويستر العين الأخرى، وينظر في هذه الحال في ثقب الأنبوب: فإنه يرى من المبصر الجزء المقابل لثقب الأنبوب الذي عند طرف المسطرة. وإذا ستر ثقب الأنبوب بجسم كثيف استتر ذلك الجرء من المبصر الذي كان يراه من ثقب الأنبوب. ثم إذا رفع الساتر أدرك ذلك الجزء كما كان يدركه في الأول. وإن ستر بالجسم الكثيف بعض ثقب الأنبوب استتر من الجزء من المبصر الجزء منه فقط المقابل للجزء المستتر من ثقب الأنبوب الذي هو والبصر الساتر على سمت مستقيم وهذه الاستقامة تتحرر بالسطرة وباستقامة الأنبوب. فإن الجزء الذي يستتر من الجرء المبصر إذا ستر بعض ثقب الأنبوب يكون أبدا هو والبصر والجزء المستتر من ثقب الأنبوب على خط مواز للخط المستقيم الذي يمتد في سطح المسطرة ومواز لطول الأنبوب. ثم إذا رفع الساتر عاد إدراك البصر لذلك الجزء من المبصر كذلك دائما لا يختلف ولا ينتقض.
[8] وإذا نظر الناظر إلى المبصر من ثقب الأنبوب، وكانت المسطرة ممتدة بين البصر والمبصر، ثم سد ثقب الأنبوب وخفي الجزء الذي كان يدركه البصر من سطح المبصر، فإن بين ذلك الجزء من المبصر في تلك الحال وبين سطح البصر هواء متصلا لا يتخلله شيء من الأجسام الكثيفة ومسافات لا نهاية لها غير مستقيمة. إذ بين طرف الأنبوب وبين البصر فضاء منكشف، وكذلك بين المبصر وبين الطرف الأخر من الأنبوب، إلا أن الهواء المتصل الذي بين البصر وبين المبصر في تلك الحال ليس هو متصلا على استقامة بل اتصالا على غير استقامة، ولم ينقطع في تلك الحال من الخطوط التي يمكن أن تتوهم بين البصر وبين ذلك الجرء من المبصر إلا الخطوط المستقيمة فقط. فلو كان ممكنا أن يدرك البصر المبصر الذي هو معه في هواء واحد على غير سمت الاستقامة لقد كان يدرك الجزء من المبصر المقابل لثقب الأنبوب بعد سد ثقب الأنبوب. لكن يوجد ما هذه صفته من المبصرات إذا اعتبر وتؤمل على الصفة التي حددناها فليس يدركه البصر عند سد الأنبوب.
Shafi 65
[9] فيجب من هذا الاعتبار وجوبا تسقط معه الشبهات أن البصر ليس يدرك شيئا من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد، ويكون إدراكه لا بالانعكاس، إلا على سموت الخطوط المستقيمة فقط التي تتوهم ممتدة بين سطحه وبين سطح البصر.
[10] وأيضا فإنا نجد البصر ليس يدرك شيئا من المبصرات إلا إذا كان في المبصر ضوء ما إما من ذاته أو مشرق عليه من غيره. ومتى كان المبصر مظلما لا ضوء فيه بوجه من الوجوه لم يدركه البصر ولم يحس به. ونجد البصر إذا كان في مكان مظلم فقد يدرك المبصرات إذا كانت مقابلة له وكانت مضيئة بأي ضوء كان، وكان الهواء الذي بينه وبينها متصلا لا يتخلله شيء من الأجسام الكثيفة. فإذا كان المبصر في مكان مظلم، ولم يكن فيه شي ء من الضوء، وكان البصر في مكان مضيء فليس يدرك البصر ذلك المبصر ولا يحس به. ونجد هذه الحال مطردة لا تختلف ولا تتغير. فدل ذلك على أن المبصر، إذا كان فيه ضوء ما، وكان من المبصرات التي يصح أن يدركها البصر، وكان الضوء الذي في المبصر إلى الحد الذي يصح أن يحس به البصر، فإن البصر يدرك ذلك المبصر، كان الهواء المحيط بالبصر مضيئا بغير الضوء الذي في المبصر أو لم يكن مضيئا بغيرذلك الضوء.
Shafi 66
[11] ونجد البصر ليس يدرك شيئا من المبصرات إلا إذا كان حجمه مقتدرا وأريد بالحجم مساحة المبصر جسما كان أو سطحا أو خطا وليس يدرك من المبصرات ما كان في غاية الصغر. ويوجد من الأجسام الصغار بالاستدلال ما لا يدركه البصر بوجه من الوجوه. فإن إنسان عين البعوض وما جرى مجراه في الصغر ليس يدركه البصر بوجه من الوجوه، وهو مع ذلك جسم موجود. وأصغر المقادير التي يمكن أن يدركها البصر تكون بحسب قوة البصر أيضا وضعفه، فإن من الأجسام الصغار ما يدركها بعض الناس ويحس بها وتخفى عن أبصار كثير من الناس ولا يدركونها بوجه من الوجوه إن كانت أبصارهم ليست في غاية القوة. وإذا اعتبرت جميع المبصرات وأصغر الصغيرمن المبصرات وجدت ليست في غاية الصغر، بل يوجد كل مبصر وإن كان في غاية الصغر فقد يمكن أن يكون في الأجسام الموجودة ما هو أصغر منه ولا يحس به البصر. فدل ذلك على أن البصر ليس يدرك شيئا من المبصرات إلا إذا كان حجمه مقتدرا أو كان في مبصر مقتدر الحجم، كاللون والشكل وما أشبه ذلك، فإن أصغر المقادير التي يدركها البصر يكون بحسب قوة ذلك البصر.
[12] وأيضا فإنا نجد البصر ليس يدرك شيئا من المبصرات إلا إذا كان كثيفا أو كان فيه بعض الكثافة. فإن الجسم إذا كان في غاية الشفيف كالهواء اللطيف فليس يدركه البصر، ويدرك ما وراءه. فليس يحس البصر بالجسم المشف إلا ذا كان أغلظ من الهواء المتوسط بينه وبين البصر. وكل جسم كثيف فله لون أو ما يجري مجرى اللون كأضواء الكواكب وصور الأجسام النيرة. وكذلك كل جسم مشف فيه بعض الكثافة فليس يخلوا من اللون.
[13] وأيضا فإنا نجد البصر إذا كان يدرك مبصرا من المبصرات ثم بعد عنه بعدا شديدا خفي ذلك المبصر عن البصر فلم يدركه. ونجد المبصر إذا بعد عن البصر بعدا شديدا حتى ينتهي إلى حد يخفي عن البصر فلا يدركه البصر فقد يمكن للبصر أن يدرك من ذلك البعد بعينه إذا لم يكن في غاية التفاوت مبصرا غير ذلك المبصر إذا كان أعظم جثة من المبصر الخفي. فدل ذلك على أن الأبعاد التي يصح ن يدرك منها المبصر والأبعاد التي يخفى منها المبصر إنما تكون بحسب عظم المبصر.
Shafi 67
[14] ونجد الأبعاد التي يصح أن يدرك منها البصر المبصرات تكون بحسب الأضواء التي في المبصرات، وما كان من المبصرات أشد إضاءة فقد يدركه البصر من بعد قد تخفى من مثله المبصرات المساوية لذلك المبصر في العظم إذا كانت الأضواء التي فيها أضعف من الضوء الذي في ذلك المبصر. وذلك أنه إذا كان في موضع من المواضع نار مشتعلة، وكان حواليها أشخاص وأجسام مساو كل واحد منها لجملة النار في العظم أو ليست متفاوتة العظم، وأشرق عليها ضوء تلك النار، ثم قصد تلك النار قاصد من بعد شديد في سواد الليل، فإن ذلك القاصد يرى النار قبل أن يرى شيئا ما حواليها من الأشخاص والأجسام التي هي مساوية لها في العظم وأعظم منها ومضيئة بضوء تلك النار. ثم إذا قرب ذلك الإنسان من النار ظهرت له الأشخاص التي حول النار وها قرب منها، ويظهرما كان من تلك الأشخاص قريبا من النار والضوء الذي عليه قوي قبل أن يظهر ما كان بعيدا من النار والضوء الذي عليه ضعيف، ثم إذا وصل إليها ظهر له جميع ما حول النار وبالقرب منها من المبصرات. وكذلك إذا اعتبرت المبصرات المتباعدة في ضوء النهار يوجد الذي عليه ضوء الشمس والأضواء القوية تظهر من الأبعاد التي تخفى منها المبصرات المساوية لها في العظم وفي اللون التي تكون في الظل والأضواء التي عليها ضعيفة.
[15] فيلزم من ذلك أن تكون الأبعاد التي منها يصح أن يدرك البصر المبصرات، والأبعاد التي تخفى منها المبصرات، إنما تكون بحسب الأضواء التي في المبصرات.
[16] ونجد أيضا الأجسام الساطعة البياض والمشرقة الألوان قد تظهر من الأبعاد التي قد تخفى من مثلها الأجسام الكدرة والترابية والنكسفة مع تساويها في الحجم وفي الضوء وفي جميع الأحوال ما سوى اللون. وذلك أن السفن المقلعة في في البحر، إذا كانت على بعد شديد، فإن أقلاعها تظهر من البعد كالنجوم ذا كانت قلوعها بيضاء ويدرك البصر بياضها ولا يدرك مع ذلك السفن ولا شيثا مما فيها ما ليس بساطع البياض ما دامت على مسافة بعيدة، ثم إذا قربت من البصر ظهرت السفن وأدركها البصر وأدرك ما فيها بعد أن كان لا يحس بها وهو يحس بقلوعها فقط.
Shafi 68
[17] وكذلك إذا كانت أشخاص على وجه الأرض، وكانت متساوية الأقدار أو ليست أقدارها متفاوتة الاختلاف، وكانت مختلفة الألوان، وكان بعضها بيضا ساطعة البياض وكان بعضها ذا ألوان مشرقة وبعضها ترابية أو منكسف الألوان، وكان الضوء المشرق عليها واحدا، ثم قصدها قاصد من بعد شديد، فإنه يرى البيض منها الساطعة البياض قبل أن يرى شيئا من الأشخاص الباقية. ثم إذا قرب ظهرت الأشخاص المشرقة الألوان قبل أن تظهر الترابية والمنكسفة الألوان. ثم كلما قرب ظهرت له الباقية إلى أن يظهر له جميعها ويحس بها معا.
[18] فيلزم من ذلك أن تكون الأبعاد التي يصح أن يدرك منها البصر المبصرات، والأبعاد التي تخفى منها المبصرات، إنما تكون بحسب ألوان المبصرات.
[19] ونجد أيضا الأبعاد التي يصح أن يدرك من مثلها مبصر من المبصرات، والأبعاد التي يخفى من مثلها مبصر من المبصرات، إنما تكون بحسب قوة البصر. فإن الحديد البصر قد يدرك مبصرا من المبصرات من بعد قد يخفى منه ذلك المبصر بعينه في تلك الحال بعينها عن الضعيف البصر.
[20] فيلزم من جميع ما ذكرناه واستقريناه من أحوال أبعاد المبصرات أن تكون الأبعاد التي يصح أن يدر من مثلها مبصر من المبصرات، والأبعاد التي يخفى من مثلها مبصر من المبصرات، إنما تكون بحسب ذلك المبصر بعينه وبحسب أحواله وبحسب المعاني التي فيه وبحسب البصر أيضا الذي يدركه بعينه في قوته وضعفه.
Shafi 69
[21] فقد تبين من جميع ما ذكرناه مما يوجد بالاستقراء والاعتبار، ويوجد مطردا لا يختلف ولا ينتقض، أن البصر ليس يدرك شيئا من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد ويكون إدراكه له لا بالانعكاس إلا إذا اجتمعت للمبصر المعاني التي ذكرناها، وهي أن يكون بينه وبين البصر بعد ما بحسب ذلك المبصر، ويكون مقابلا للبصر، أعني أن يكون بين كل نقطة من سطحه الذي يدركه البصر وبين نقطة ما من سطح البصر خط مستقيم متوهم، ويكون فيه ضوء ما إما من ذاته أو من غيره، ويكون حجمه مقتدرا بالإضاقة إلى قوة إحساس البصر، ويكون الهواء الذي بيينه وبين سطح البصر أو الجسم الذي بينه وبين سطح البصر مشفا متصل الشفيف لا يتخلله شي ء من الأجسام الكثيفة، ويكون كثيفا أو فيه بعض الكثافة أعني أن لا يكون فيه شفيف أو يكون مشفا وشفيفه أغلظ من شفيف الهواء المبسوط بينه وبين سطح البصر أو الجسم المشف المتوسط بينه وبين سطح البصر، وليس يكون الكثيف إلا ذا لون أو ما يجري مجرى اللون، وكذلك المشف الذي فيه بعض الغلظ. فهذه المعاني هي التي لا يتم الإبصار إلا بعد اجتماعها للمبصر. وإذا اجتمعت هذه المعاني للمبصر، وكان البصر سليما من الآفات، فإنه يدرك ذلك المبصر، وإذا عدم البصر واحدا من هذه المعاني فليس يدرك المبصر الذي يعدم فيه ذلك المعنى. وإذا كان ذلك كذلك فهذه المعاني إذن هى خواص البصر التي بها وباجتماعها يتم الإبصار.
[22] وقد يظهر أيضا بالاستقراء أن كل مبصر يدركه البصر، ثم يبعد عنه حتى ينتهي إلى الحد الذي يخفى عن البصر، فإن بين البعد الذي يخفى منه ذلك المبصر وبين سطح البصر أبعادا كيثرة مختلفة لا تنحصر ولا تتعين يدرك البصر من كل واحد منها ذلك المبصر إدراكا صحيحا، ويدرك جميع أجزائه ويدرك جميع ما فيه من المعاني التي يصح أن يدركها البصر. وإذا أدرك البصر المبصر على بعد من هذه الأبعاد إدراكا صحيحا، ثم تباعد عنه على تدريج وترتيب، خفيت أجزاؤه الصغار والمعاني اللطيفة إن كانت فيه كالنقوش والوشوم والغضون والنقط قبل أن تخفى جملته، ويخفى ما صغر من هذه المعاني ودق قبل أن يخفى ما هو أعظم وأغلظ. وتوجد الأبعاد التي تخفى منها الأجزاء الصغار وتلتبس المعاني اللطيفة وتشتبه كثيرة غير معينة ولا محصورة.
[23] ويوجد أيضا المبصر إذا تمادى في التباعد على التدريج والترتيب تصاغرت جملته عند البصر قبل أن يخفى جميعه، ثم إذا استمر على التباعد انتهى لى الحد الذي يخفى جميعه على البصر ولا يحس به ولا بشيء منه، وإن ازداد بعد ذلك تباعدا لم يدركه البصر.
Shafi 70
[24] ويوجد أيضا المبصر إذا قرب من البصر قربا شديدا وقبل أن يلتصق بسطح البصر فإنه تعظم جثته عند البصر وتشتبه صورته وتلتبس المعاني اللطيفة التي تكون فيه فلا يمكن البصر تمييزها وتحققها. وكلما قرب من سطح البصر بعد هذه الحال قربا أكثر كان التباسه أشد، حتى إذا التصق بسطح البصر بطل إحساس البصر به ولم يدرك منه إلا ستره فقط.
[25] وإذا كان جميع ذلك كذلك فالبعد إذن الذي منه يدرك البصر المبصر إدراكا صحيحا ليس هو بعدا واحدا معينا، والبعد الذي تشتبه منه صورة المبصر وخفى أجزاؤه الصغار، وتخفى المعاني اللطيفة التي تكون فيه وتشتبه وتلتبس، ليس هو بعدا واحدا معينا. فلنسم جميع الأبعاد التي يدرك منها البصر المبصر ويدراك جميع أجزائه ويدرك جميع ما فيه من المعاني التي يصح أن يدركها البصر، ويكون إدراكه له وللمعاني التي فيه إدراكا لا يكون بينه وبين حقيقة المبصر وبين حقيقة المعاني التي فيه تفاوت محسوس بالإضافة إلى حقيقته ولا تخالف صورته التي تحصل في الحس صورته الحقيقية خلافا يمكن أن يظهر فيه تفاوت محسوس عند التأمل، أبعادا معتدلة، وإن كانت كثيرة وذات عرض. ولنسم الأبعاد التي يخفى منها المبصر، والأبعاد التي تخفى منها أجزاء المبصر التي لها نسبة محسوسة إلى جملة المبصر، والأبعاد التي تخفى منها المعاني اللطيفة التي تكون في المبصر التي قد تظهرمن الأبعاد المعتدلة، والأبعاد أيضا التي تلتبس منها هذه المعاني وتشتبه، الأبعاد الخارجة عن الاعتدال ما كان منها مسرفا في البعد عن البصر وما كان منها مسرفا في القرب منه.
[26] وإذ قد تبين أن البصرليس يدرك شيئا من المبصرات إلا إذا كان فيه ضوء ما إما من ذاته وإما من غيره، وكان كثير من الأجسام المبصرة قد يظهر ضوؤها على الأجسام المقابلة لها ويظهر ضوؤها على البصر عند إدراك البصر لها، فقد وجب أن نبحث عن خواص الأضواء وعن كيفية إشراق الأضواء، ونبحث أيضا عما يعرض بين البصر والضوء، ثم نجمع بين ذلك وبين ما يخص البصر ونتلطف في القياس ونتوصل إلى النتيجة.
Shafi 71
الفصل الثالث في البحث عن خواص الأضواء وعن كيفية إشراق الأضواء
[1] نجد كل جسم مضي ء من ذاته فإن ضوءه يشرق على كل جسم مقابل له إذا لم يكن بيينهما جسم كثيف غير مشف يستر أحدهما عن الآخر. وذلك أن الشمس إذا كانت مقابلة لجسم من الأجسام الأرضية، ولم يستره عنها ساتر، فإن ضوءها يشرق على ذلك الجسم ويظهر للبصر، ويشرق ضوؤها في الوقت الواحد على كل موضع يقابلها في ذلك الوقت من جميع نواحي الأرض. وكذلك القمر. وكذلك النار إذا كانت مقابلة لجسم من الأجسام الكثيفة ولم يكن بينهما ساتر كثيف ولم يكن البعد الذي بينهما متفاوتا، فإن ضوء النار يشرق على ذلك الجسم وتظهر صورته للبصر ويوجد ضوء الجذوة من النار في الوقت الواحد يشرق على جميع الأجسام التي حول تلك النار من جميع جهاتها وعلى جميع ما يكون فوقها وتحتها من الأجسام الكثيفة ذا لم يسترها عنها ساتر ولم تكن أبعادها متفاوتة، صغرت الجذوة من النار أو عظمت، إذا كان ضوؤها يظهر للحس على ما يقابلها من الأجسام الكثيفة.
[2] ونجد إشراق جميع الأضواء إنما يكون على سموت خطوط مستقيمة، ولا يشرق الضوء من جسم من الأجسام المضيئة إلا على السموت المستقيمة فقط إذا كان الهواء أو الجسم المشف الذي بين الجسم المضي ء وبين الجسم الذي يظهر عليه الضوء متصلا متشابه الشفيف.
Shafi 72
[3] وإذا اعتبرت هذه الحال أبدا وجدت مطردة لا تختلف ولا تتغير، وذلك يظهر للحس ظهورا بينا إذا تفقدت الأضواء التي تدخل من الثقب والخروق والأبواب إلى البيوت المغدرة. أما ضوء الشمس فإنه إذا دخل من ثقب إلى بييت مظلم، وكان الهواء الذي في البيت كدرا بغبار أو دخان، فإن الضوء يظهر ممتدا على استقامة من الثقب الذي يدخل منه الضوء إلى الموضع الذي ينتهي إليه ذلك الضوء من أرض البيت أو جدرانه. فإن كان الهواء الذي في البيت صافيا نقيا ولم يظهر فيه امتداد الضوه، وأراد معتبر أن يعتبير المسافة التي يمتد فيها الضوء، فإنه إذا أخذ جسما كثيفا وتحرى المسافة المستقيمة التي بين الثقب وبين الموضع الذي فيه الضوء من أرض البيت أو جدرانه فقطعها بالجسم الكثيف، وجد الضوء يظهر على ذلك الجسم الكثيف ويبطل من الموضع الذي كان يظهر فيه من أرض البيت أو جدرانه. فإذا تعمد أي موضع شاء من المسافة المستقيمة التي بين الثقب وبين الموضع الذي يظهر عليه الضوء فقطعها بالجسم الكثيف، فإن الضوء يظهر على ذلك الجسم الكثيف ويبطل من الموضع الذي كان يظهر فيه. واستقامة هذه المسافة يمكن أن تعتبر بعود مستقيم. فتدل هذه الحال على أن الضوء الذي دخل من الثقب ممتد على سمت المسافة المستقيمة التي بين الثقب وبين الموضع الذي انتهى إليه الضوء. وإذا اعتبر المعتبر أي مسافة شاء من المسافات المنعرجة والمنحنية والمقوسة التي بين الثقب وبين الموضع الذي يظهر فيه الضوء فقطعها بالجسم لم يظهر فيها شي ء من ذلك الضوء. وكذلك الثقوب الدقاق التي تكون في الأجسام الكثيفة ذا أشرق عليهما ضوء الشمس، فإن الضوء ينفذ من تلك الثقوب الدقاق ويمتد على سموت مستقيمة. وإذا اعتبرت المسافة المستقيمة التي بين الثقب الدقيق وبين الموضع الذي يظهر فيه الضوء النافذ من ذلك الثقب وجد الضوء ممتدا في تلك المسافة المستقيمة وإن كان الثقب في غاية الدقة. وإن اعتمد معتمد جسما كثيفا فثقب فيه ثقبا دقيقا وقابل به جرم الشمس وجد الضوء ينفذ فيه ويمتد على سمت مستقيم. وإن اعتبر المسافة التي يمتد عليها الضوء الذي بهذه الصفة وقاسها بمسطرة وجدها في غاية الاستقامة. فيتبين من جميع ذلك أن ضوء الشمس ليس يمتد إلا على المسافات المستقيمة.
Shafi 73
[4] وكذلك ضوء القمر إذا اعتبر وجد على هذه الصفة. وكذلك ضوء الكواكب: فإن الكواكب الكبار كالزهرة، والمشتري إذا كان في قربه الأقرب، والمريح أيضا إذا كان في قربه الأقرب، وكالشعرى، فإن الكوكب من هذه الكواكب إذا كان مقابلا لثقب يفضي إلى بيت مظلم في ليل غير مقمر فإن ضوءه يظهر في ذلك البيت ويوجد مقابلا للثقب. وإذا جعل الناظر بصره عند ذلك الضوء ونظر إلى الثقب رأى الكوكب في تلك الحال مقابلا له. فإذا راعى الكوكب زمانا مقتدرا حتى يتحرك الكوكب مسافة محسوسة وجدضوءه الذي في البيت قد انتقل عن موضعه وصار في مقابلة الكوكب على السمت المستقيم. وكلا تحرك الكوكب تحرك ذلك الضوء، ويوجد أبدا الضوء والثقب والكوكب على سمت الاستقامة.
[5] ثم إذا اعتبر المعتبر ضوء الكوكب الذي يظهر في الموضع المقابل للثقب على الوجه الذي قدمناه بجسم كثيف، فقطع المسافة المستقيمة التي بين الموضع الذي يظهر فيه الضوء وبين الثقب الذي يدل منه الضوء في أي المواضع شاء منها، ظهر الضوء على الجسم الكثيف وبطل من الموضع الذي كان يظهر فيه.
[6] وكذلك النار إذا كانت مقابلة لبيت يفضي إلى بيت مظلم ظهر ضوء النار في البيت مقابلا للثقب، وإن اعتبرت المسافة المستقيمة التي بين الضوء وبين الثقب على الوجه الذي ذكرناه وجد ضوء النار يمر بكل موضع منها. وقد يمكن أن يقاس ضوء النار بعود مستقيم أيضا إذا كانت المسافة التي بين النار وبين الثقب قريبة وكانت المسافة التي بين الثقب وبين الموضع الذي يظهر فيه الضوء أيضا قريبة. فإنه إذا دوخل عود مستقيم في الثقب الذي دل منه ضوء النار، وجعل طرفه عند الضوء الظاهر، وجد الطرف الآخر عند النار أو مسامتا لها على استقامة، وتوجد النار والثقب والضوء الظاهر في البيت الداخل من الثقب أبدا على خط مستقيم.
Shafi 74
[7] وقد يظهر هذا المعنى أيضا في جميع الأضواء من الأظلال. فإن الأشخاص المنتصبة الكثيفة إذا أشرق عليها الضوء وظهرت أظلالها على الأرض وعلى ما يقابلها من الأجسام الكثيفة توجد الأظلال أبدا ممتدة على استقامة وتوجد المواضع التي استظلت هي المواضع التي قطعت الأشخاص المظلة المسافات المستقيمة التي بينها وبين الجرم المضي ء الذي انقطع ضوءه عن تلك المواضع.
[8] فيظهر مما ذكرناه أن إشراق الأضواء من الأجسام المضيئة من ذواتها إنما يكون على سموت خطوط مستقيمة فقط.
[9] وأيضا فإنا نجد كل جسم مضيء من ذاته فإن الضوء يشرق من كل جزء منه، ونجد الضوء الذي يشرق من جميع الجسم المضيء أقوى من الضوء الذي يشرق من بعضه، ونجد الضوء الذي يشرق من جزء أعظم يكون أقوى وأبين من الضوء الذي يشرق من جزء أصغر. أما الشمس فإنها في أول طلوعها من الأفق إنما يطلع منها أولا جزء يسير من محيطها، ومع ذلك فإن ضوء ذلك الجزء يشرق على كل ما يقابله من الجدران والأشخاص ووجه الأرض، ومركز الشمس في تلك الحال مستتر تحت الأفق وغير ظاهر لما على وجه الأرض. ثم كلما زاد الجزء الظاهر زاد الضوء وقوي إلى أن يرتفع مركز الشمس، ولا يزال الضوء يتزايد إلى أن يظهر جميع جرم الشمس. وكذلك إذا غربت الشمس: فإنه ما دام جزء منها ظاهرا فوق الأفق فإن ضوء ذلك الجزء من الشمس يكون مشرقا على وجه الأرض مع خفاء مركز الشمس وأكثر جرم الشمس عن المواضع التي يشرق عليها ضوء ذلك الجزء من الشمس
[10] وهذه الحال، أعني إشراق الضوء من محيط جرم الشمس، هي في جميع الآفاق. ومع ذلك فإن الجزء الذي هو أقل جزء يطلع من الشمس في أفق من الآفاق هو غير الجزء الذي هو أول جزء يطلع من الشمس في أفق غير ذلك الأفق من أجل حركة الشمس التي تخصها. فالآفاق المختلفة تكون الأجزاء من الشمس التي تطلع فيها في أول طلوع الشمس مختلفة، وخاصة في الأيام المختلفة. وكذلك الأجزاء التي هي آخر ما يغرب من الشمس. وبالجملة فإن كل موضع من الأرض يظهر فيه جزء من الشمس من محيطها ومن غير المحيط فإن الضوء يشرق من ذلك الجزء على ذلك الموضع. فمن هذا الاعتبار يتبين أن كل جزء من جرم الشمس يشرق منه <ضوء> على كل جسم يقابل ذلك الجزء مع استتار مركز الشمس وبقية جرم الشمس عن ذلك الجسم.
Shafi 75
[11] وأيضا فإن الشمس إذا انكسفت ولم يستغرق الكسوف جميعها وبقي منها جزء ظاهر فإن الضوء يشرق من الجزء الظاهر الباقي على كل موضع يقابله في وقت الكسوف من الأرض. فإن روعيت الشمس في وقت كسوف يستغرفق معظمها ويتجاوز مركزها فإنه يوجد الجزء المنكسف يعظم والجزء الباقي يتصاغر. ومع ذلك فأي مقدار بقي منها فإن الضوء يشرق منه على وجه الأرض، ويظهر الضوء على كل موضع مقابل لذلك الجزء وعلى كل موضع مقابل لبعض ذلك الجزء أيضا. وإن اعتبر ضوء الشمس في وقت الكسوف وجد إشراقه أبدا على سموت مستقيمة كمثل إشراق ضوئها قبل الكسوف، ويوجد ضوء الشمس الذي يظهر على الأرض في وقت الكسوف أضعف من ضوئها قبل الكسوف، وكلما عظم الجزء المنكسف وصغر الجزء الباقي ضعف الضوء الذي يظهر على الأرض. والجزء الذي يبقى من الشمس في وقت الكسوف إذا استغرق الكسوف معظمها إنما هو جزء من محيطها. وجميع محيط الشمس متشابه الحال. فيتبين من هذا الاعتبار أن ضوء الشمس خرج من جميع جرم الشمس ومن كل موضع من الشمس لا من موضع مخصوص.
Shafi 76
[12] ويتبين أيضا من هذا الاعتبار أن السموت المستقيمة التي عليها يمتد ضوء الشمس ليس جميعها ممتدا من مركز الشمس، بل كل جزء من جرم الشمس خرج الضوء منه على كل سمت مستقيم يصح أن يتوهم ممتدا من ذلك الجزء. وذلك أن الكسوف إذا استغرق معظم الشمس بالقياس إلى موضع من الأرض فإن مركز الشمس في ذلك الوقت مستتر عن ذلك الموضع فتنقطع الخطوط المستقيمة التي بين مركز الشمس وبين ذلك الموضع. ومع هذه الحال فإن الضوء يشرف من بقية الشمس على ذلك الموضع. فلو كان ضوء الشمس ليس يخرج إلا على السموت المستقيمة الممتدة على المركز لما كان يظهر الضوء في وقت الكسوف على المواضع من الأرض التي يستتر عنها المركز. وأيضا فإن المواضع من الأرض التي تكون الشمس في وقت الكسوف مائلة عن سمت رؤوس أهلها إلى جهة الجزء الباقي الظاهر فإن الضوء الذي يشرق على هذه المواضع في هذه الحال من الجزء الباقي من الشمس إنما يكون إشراقه إلى الجهة التي فيها مركز الشمس وعلى الخطوط المستقيمة التي لا يصح أن تمر بمركز الشمس، ويشرف الضوء مع ذلك في هذا الوقت على كل موضع يظهر فيه جزء من جرم الشمس ولا يستغرق الكسوف بالقياس إليه جميع جرم الشمس. فليس إشراق ضوء الشمس على السموت المستقيمة الممتدة من مركز الشمس فقط بل على جميع السموت التي يصح أن تمتد من كل جزء منها على الاستقامة.
[13] وأيضا فإن ضوء الشمس الذي ينفذ من الثقوب يوجد أبدا منخرطا، وكلما بعد الضوء عن الثقب اتسع. ويظهرذلك ظهورا بينا في الثقوب الدقاق. فإن الثقب الدقيق إذا نفذ فيه ضوء الشمس، وظهر الضوء على موضع متباعد عن الثقب، فإن الضوء الذي بهذه الصفة يوجد منخرطا ويكون الموضع الذي يظهر فيه الضوء أوسع من الثقب أضعافا متضاعفة. وكلما كانت المسافة التي بين الثقب وبين الموضع الذي يظهر عليه الضوء أبعد كان هذا الضوء أوسع. وإن قطعت المسافة المستقيمة التي بين الثقب وبين الضوء الظاهر بجسم كثيف وجد الضوء على ذلك الجسم الكثيف، ويوجد الضوء الذي يظهر على الجسسم الكثيف أضيق من الضوء الذي ظهر في الموضع الأول. وكلما قرب هذا الجسم من الثقب وجد الضوء الذي يظهر عليه أضيق. وكلما بوعد هذا الجسم عن الثقب وجد الضوء الذي يظهر عليه أوسع. فيتبين من انخراط الضوء الذي يخرج من الثقوب الدقاق أن ضوء الشمس يمتد من كل جزء منها لا من جزء مخصوص.
Shafi 77