Manar Al-Qari Commentary on the Abridged Sahih Al-Bukhari
منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري
Mai Buga Littafi
مكتبة دار البيان،دمشق - الجمهورية العربية السورية،مكتبة المؤيد
Inda aka buga
الطائف - المملكة العربية السعودية
Nau'ikan
منار القاري
شرح مختصر
صحيح البخاري
تأليف حمزة محمد قاسم
راجعه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط
عني بتصحيحه ونشره بشير محمد عيون
الجزء الأول
مكتبة دار البيان
ص. ب ٢٨٥٤ - هاتف ٢٢٩٠٤٥
دمشق - الجمهورية العربية السورية
مكتبة المؤيد
ص. ب ١٠ - هاتف ٧٣٢١٨٥١
الطائف - المملكة العربية السعودية
1 / 1
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
بيروت
١٤١٠ هـ - ١٩٩٠ م
1 / 2
تقديم الكتاب
لصاحب الفضيلة خادم السنة النبوية الشيخ عبد القادر الأرناؤوط
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن هذا الكتاب العظيم الذي جمعه أمير المؤمنين في الحديث، الِإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، المتوفى سنة (٢٥٦) هـ حيث قوّى عزمه على ذلك أستاذُه أمير المؤمنين في الحديث والفقه الِإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه المتوفى سنة (٢٣٨) هـ حيث قال الِإمام البخاري: كنا عند إسحاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله ﵌، قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذتُ في جمع الجامع الصحيح، فجمعه وسمَّاه (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله علمه وآله وسلم وسننه وأيامه) والتزم أن لا يورد فيه إلا حديثًا صحيحًا، وقصد من جمعه لهذا الجامع الذبَّ عن رسول الله ﵌ والدفاع عنه، والرد على الجهمية والمعطلة وبعض الطرق المنحرفة. ولما انتهى من جمعه عرضه على شيخه الِإمام
1 / 3
أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلى بن المديني وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة. وقد اتفق العلماء على أن هذا الجامع أصح كتاب في حديث رسول الله ﵌.
وقد اعتنى بهذا الجامع الصحيح كثير من أهل العلم من المتقدمين ومن المتأخرين: فشرحه علماء كثيرون، واختصره أئمة آخرون، لا مجال لذكر أسمائهم لكثرتها.
ولقد سمت هِمَّة الأستاذ الجليل فضيلة الشيخ حمزة محمد قاسم فاختصر الجامع الصحيح اختصارًا وسطًا، ثم قرَّر بعد اختصاره أن يشرحه شرحًا مبسطًا يستفيد منه طلاب العلم، فقام بذلك حق قيام، جزاه الله تعالى خيرًا، وسمى شرحه هذا (منار القاري في شرح مختصر البخاري) واعتمد في شرحه على الأئمة المتقدمين الذين شرحوه من الفقهاء والمحدثين.
وإن الأخ في الله الشارح لهذا الجامع الصحيح حفظه الله. درس على أفاضل من علماء المدينة وتخرج من القسم العالي (١) من مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة، ولقد أتى في شرحه لكتابه هذا بما قاله العلماء في المذاهب الأربعة وسواها، وذكر ما قاله الجمهور من الفقهاء ومن خالفهم في ذلك.
وفي شرحه لأحاديث العقائد ذكر توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وتوحيد الِإلهية والعبادة، دون تشبيه أو تمثيل أو تعطيل، بأسلوب سهل، على عقيدة السلف الصالح، وأهل السنة والجماعة التي تلقوها عن رسول الله ﵌ وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وهي العقيدة
_________
(١) وقد تحدث عن هذا القسم الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في كتابه "بناة العلم في الحجاز"، كما تحدث عنه الدكتور محمد العيد الخطراوي في كتابه عن مدرسة العلوم الذي سيصدر قريبًا (المؤلف).
1 / 4
السليمة، والطريقة المستقيمة التي ينبغي على كل مسلم أن يسلك سبيلها، وأن يسير على نهجها. وقد بحث حفظه الله تعالى في القضاء والقدر بحثًا جيدًا على طريقة أهل السنة والجماعة، وأقوال الأئمة المجتهدين، والعلماء المحققين.
وبين بوضوح كل ما يتعلق بالعقائد، والأحكام، والمعاملات، والحدود، والأخلاق، وعرَّف السنة والبدعة، وسنة رسول الله ﵌، وسنة الخلفاء الراشدين، وما استقر عليه عمل الصحابة، وقد توسَّع في المعاملات، والطب، والأدب، والرقاق، والاعتصام بالكتاب والسنة، فنقل أشياء جديدة عرفت في عصرنا الحاضر، في المواضيع الاجتماعية والأمور الطبية التي يستفيد منها طلاب العلم والشباب المثقف في هذا العصر.
وقد ختم شرحه هذا بآخر حديث ختم به الِإمام البخاري ﵀ صحيحه هذا، وهو حديث أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﵌: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
فكان ختامًا حسنًا، وشرحًا واضحًا يستفيد منه العام والخاص، فجزاه الله تعالى خيرًا.
إن الشارح حفظه الله جاء إلى دمشق الشام ليقوم بطبع هذا الكتاب وتفضل علي وزارني في داري جزاه الله تعالى خيرًا. وأطلعنى على عمله المبارك، فقدَّمه إليّ، وطلب مني أن أقرأ كتابه هذا، وأن أراجعه وأنظر في أحاديثه وشرحه، وأن أبدي ملاحظاتي عليه، فاستجبت لذلك على ضعفي، وقرأته من ألفه إلى يائه، ومن أوله إلى آخره، فوجدته كتابًا جيدًا نافعًا إن شاء الله لطلاب العلمٍ والقراء الذين يطلعون عليه، وقد رتبه ترتيبًا حسنًا، ونظمه تنظيمًا دقيقًا، وشرحه شرحًا جيدًا لا لبس فيه ولا غموض.
1 / 5
فوضعت عليه بعض الملاحظات، وعلقت بعض التعليقات على الأحاديث النبوية، وربما أبدلت حديثًا بحديث، أو ذكرته بلفظه جاء في المصادر التي نقل عنها، وَرَجعت في ترجيح أقوال العلماء إلى قول أهل السنة والجماعة، وأهل العلم بالسنة من المحققين والمدققين من المتقدمين والمتأخرين، هذا وقد أضاف حفظه الله بعمله هذا إلى المكتبة الِإسلامية كتابًا حافلًا بالخير والبركة جعله الله تعالى في صحيفة أعماله، وصحيفة من شارك فيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الاعتقاد الصحيح، والسبيل المستقيم، وأن يوفقنا لاتباع سنة رسول الله ﵌ وطريقته وهديه، وأن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه الكريم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
دمشق ١٧ ربيع الأول ١٤٠٩ هـ
الموافق ٢٧ تشرين الأول ١٩٨٨ م
خادم السنة النبوية
عبد القادر الأرناؤوط
1 / 6
كلمة شكر وتقدير ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمه العظام، وآلائه الجسام؛ والحمد لله الذي وفقني لخدمة سنة المصطفى خير الأنام، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله، سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، ما توالت الأيام وتتابعت السنون والأعوام.
وبعد. يسرني في هذه اللحظة المباركة التي أقدم فيها كتابي هذا إلى القراء، أن أوجه خالص شكري وتقديري وامتناني إلى صاحب الفضيلة المحدث الكبير، والعالم السلفي الجليل، الشيخ عبد القادر الأرناؤوط على تفضله مشكورًا بمراجعة أحاديث هذا الكتاب سندًا ومتنًا، وتدقيق معانيها وفقهها وأحكامها وتذييل حواشيه بإرشاداته القيمة وتعليقاته العلمية المفيدة وآرائه الصائبة، فأفاض عليه من غزارة علمه، وسعة اطلاعه، ما هو جدير بفضيلته وأهل له، وكل تعليق ختم بـ (ع) فهو لفضيلته.
جزاه الله عن الحديث وأهله خير الجزاء، ونفع به الِإسلام والمسلمين.
ويطيب لي في هذه المناسبة السعيدة، أن أنوه بالجهود الكبيرة التي بذلها الأستاذ الجليل السيد بشير محمد عيون صاحب دار البيان في خدمة هذا الكتاب، حيث قام بإعداده وطبعه وإخراجه، وأشرف عليه في جميع مراحله، وعني كل العناية بتحقيق نصوصه وتدقيق ألفاظه وكلماته، وراجعه مرات ومرات، فله مني وللأستاذ الفاضل السيد حسن السماحي الذي قام بتصحيحه
1 / 7
وترقيمه جزيل الشكر وعاطر الثناء، وعميق التقدير، وأتمنى لهؤلاء السادة الأفاضل كل نجاح وتوفيق فيما يبذلونه من نشاط واسع في خدمة الكتب الدينية وإحياء التراث الإسلامي، وعلى الأخص ما يتعلق منه بالحديث النبوي الشريف والسنة المحمدية المطهرة وعقيدة السلف الصالح.
سدد الله خطاهم ووفقهم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
دمشق ١٢ ربيع الأول سنة ١٤٠٩ هـ
المؤلف
حمزة محمّد قاسم
1 / 8
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله. أرسله الله بالهدى ودين الحق على فترةٍ من الرسل، وقلةٍ من العلم، وضلالةٍ من الناس.
وصلّى الله على سيدنا محمدٍ الذى أرسله الله إلى الثقلين بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
وبعد فإنّ أصدقَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله ﷺ، وأشرف العلوم علم السنة المحمدية، ودراسة أحاديث رسول الله ﷺ رواية ودراية، فقهًا وأحكامًا، فالكتاب والسنّة توأمان. وقد كان جبريل ينزل بالسنّة كما ينزل بالقرآن. فهي وحي إلهي منزل، وهي المرجع الأول في تفسير القرآن الكريم، والمصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي.
ولذلك كان لعلم الحديث مكانته السامية، وكان لأهل الحديث مكانتهم المرموقة بين العلماء. ويكفيهم شرفًا أن النبي ﷺ نوَّه بشأنهم، ودعا لهم بالوجاهة بين الناس، فقال ﷺ كما في حديث زيد بن ثابت ﵁: "نَضَّرَ اللهُ امرءًا سَمِعَ مِنَّا حديثًا فَحَفِظَهُ حتَّى يُبلغَه، فرُبَّ حامِل فَقهٍ إلى مَنْ هُوَ أفْقَهُ مِنْه، وَرُب حَامِل فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيْهٍ" أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن.
1 / 9
وقد استجاب الله تعالى دعوة نبيه ﷺ لأهل الحديث كما قال سفيان بن عيينة ﵀: فما من أحد يطلب حديثًا إلا وفي وجهِه نضرةٌ. والمراد أنه لا يوجد أحد من طلاب الحديث إلاّ وقد منحه الله تعالى نشاطًا وقوةً في جسمه، وصفاءً في لونه، وبهجةً في صورته ووجاهةً بين الناس. وإنما دعا له النبي ﷺ بهذه الدعوة المباركة، لأنه سعى في تجديد سنة المصطفى، فكان جزاؤه من جنس عمله، أفاده القسطلاني.
قال بعض السلف: ويرجى لأهل الحديث أن يفوزوا بنضرة النعيم في الدار الآخرة. ولا عجب فأهل الحديثِ هم خلفاء النبي ﷺ على سنته.
وقد كانت أمنية عمري أن يمنَّ الله عليَّ بخدمة "صحيح البخاري" وما زال هذا الحُلُم يراود مخيلتي سنين طوالًا، حتى وافتني الفرصة، وتحقق الأمل، فوفّقني الله تعالى إلى تأليف هذا المختصر الذي لخصته من صحيح البخاري، ووضعت عليه شرحًا وسطًا يقع في خمس مجلدات أو في خمسة أجزاء، تحرّيت فيه أن يكون محقِّقًا للغرض، مشتملًا على ما لا بدَّ منه، من ترجمة بعض الرواة، وشرح معنى الحديث، وبيان فقهه وأحكامه، وتخريجه (١)، ومطابقته للترجمة.
وحرصت أن يكون - قدر الإمكان - بأسلوب سهل، وعبارة واضحةٍ، قريبةٍ من القراء، وفي متناول مداركهم. وبذلت جهدي في تحْقيقه معتمدًا على أوثق المصادر الإسلاميّة. فإنْ أصبت فبفضل من الله (وما توفيقي إلا بالله) وإنْ أخطأت فالمؤلفون عُرْضة للزلل، ومن ألَّف فقد استُهدِف.
وسميته "منار القاري شرح مختصر البخاري" أسأل اللهَ ربَّ العرش العظيم، أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، ويمنحه القبول، وينفع به القرّاء.
_________
(١) اعتمدت في ذلك على شرح العيني غالبًا، وفي بعضه على "جامع الأصول".
1 / 10
وإنّي لأطمع أن يشملني قوله ﷺ "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وَأَصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) اللَّهم إني أسألك أن تمنّ علينا وعلى والدينا وأوْلادنا وآل بيتنا ومشايخنا وأقاربنا وأصدقائنا، وعلى جميع المؤمنين والمؤمنات بعفوك وغفرانك، ورحمتك ورضوانك. (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وصلّى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
حمزة محمّد قاسم
1 / 11
"لمحات عن البُخاري وكتابه الجامع الصحيح"
" الإمام البخاري: ترجمته، حياته، مؤلفاته"
عصر البخاري:
ظهر البخاري في القرن الثالث الهجري الذي ازدهرت فيه العلوم الإِسلامية، وأصبح لها مراكز متعددة بالمدينة ومكة (١) والبصرة والكوفة وبغداد عاصمة الخلافة ومركز العلوم والحضارة، في ذلك العصر الذي نمت فيه المذاهب الفقهية وتطورت علوم القرآن من تفسير وغيره، وأُلفت الكتب المتعددة في السيرة والتاريخ والطبقات، ووضعت علوم العربية لخدمة القرآن الكريم.
أما علوم الحديث: فقد بلغت في هذا العصر قِمَّة مجدها، وظهر فيه أعلام السنة وكبار المحدثين، منهم أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ومُسْلم بن الحجاج والترمذي وابن ماجة وأبو داود، كل هؤلاء ظهروا في هذا العصر الذهبي للعلوم الإِسلامية وألفوا المسانيد والمجاميع وتركوا تراثًا إسلاميًا ضخمًا في الحديث وعلومه.
ولم يكن هذا العصر عصر بداية الحديث وتدوينه وإنما كان عصر تطوره وازدهاره، أما بداية تدوينه فقد كانت في القرن الثاني الهجري، عندما أمر عمر بن عبد العزيز بجمع الحديث خشية ضياعه، وكتب إلى واليه أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم كتابًا يأمره فيه أن ينظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ وسنته فيكتبه خوفًا من أن يندرس هذا العلم بذهاب العلماء (٢) فكان
_________
(١) الإمام البخاري للدكتور تقي الدين الندوي.
(٢) ضحى الإسلام للأستاذ أحمد أمين ج ٢.
1 / 12
أوَّل من استجاب لهذه الدعوة إمام المحدثين في ذلك العصر محمد بن مسلم بن شهاب الزُّهري، فكتب فرائد في علم الحديث، حتى عدّه بعضهم واضع مصطلح الحديث. وكان أوَّل من جمع الأحاديث والآثار.
ثم اقتفى المحدثون أثره ونهجوا نهجه، واقتصروا في أوَّلِ الأمرِ على مجرد تدوين الحديث وجمعه، ثم خطوا خطوة جديدة انتقلوا فيها من مرحلة التدوين إلى مرحلة التنسيق والترتيب الفقهي، فوزعوا الأحاديث على أبواب الفقه الإسلامي، فهذا كتاب الصلاة وأبوابها، وهذا كتاب الزكاة وأبوابها، وهذا كتاب الصوم وأبوابه، وهكذا إلى آخره.
وكان من الروّاد الأوائِل في تنسيق الأحاديث وترتيبها ابن جريج ومالك وعبد الله بن المبارك وعبد الرزّاق (١)، ثم جاء من بعدهم النسائي وابن ماجة وغيرهم، وفي مقدمتهم الإمامان الجليلان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم ابن الحجاج القشيري.
البخاري، نسبه، ولادته، نشأته:
البخاري هو حجة الإسلام وقدوة الأَنام وأمير المحدثين الأَعلام، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن المغيرة بن "بَرْدِزْبَة" (٢) الجعفي، أَسلم جدّه المغيرة على يد ابن اليمان الجعفي والي بخارى، ولذلك نسب إليه. وكان والده إسماعيل من ثقات المحدثين، كما ترجم له ابن حبان، وذكر عنه البخاري أنه سمع من مالك، وصحب ابن المبارك، وكان محدِّثًا ورعًا صالحًا تقيًا. ولد البخاري عند صلاة الجمعة من اليوم الثالث عشر من شوال سنة ١٩٤ هـ ببلدة بخارى من أسرة كريمة، وأراد الله أن ينشأ يتيمًا في حجر أمّه، وكانت صالحة فأَنفقت
_________
(١) الإمام البخاري للدكتور الندوي أيضًا.
(٢) بردزبة بفتح الباء وكسر الدال ومعناه "الفلاح أو المزارع باللغة الفارسية".
1 / 13
عليه من مال أبيه، وأحسنت تربيته فنشأ نشأة علمية صالحة، ولاحظته العناية الإِلهية منذ صغر سنه، فقد روي أنّه ذهبت عيناه في صغره، فأخذت أمُّه تضرع إلى الله تعالى، وتبتهل إليه حتى استجاب دعاءها وردّ إليه بصره، وأسلمته أمه إلى الكتاب، فحفظ فيه القرآن الكريم، وظهرت عليه آثار النجابة، ورزقه الله تعالى قلبًا واعيًا، وحافظة قوية، وألهمه حفظ الحديث، فأخذ منه بحظٍ وافر وهو لم يبلغ العاشرة من عمره، وتردد على علماء بلده، وما إنْ بلغ السادسة عشرة حتى حفظ عددًا كبيرًا من كتب الأئمة وكيع وابن المبارك وغيرهم من أعلام عصره.
رحلاته العلمية: كان البخاري واسع الطموح قوي الرغبة في طلب العلم، أفنى عمره كله في رحلته الطويلة بين العواصم الإسلامية للالتقاء بالمحدثين والسماع منهم، فبدأ رحلته بالحج برفقة أمّه وأخيه أحمد الذي كان أكبر منه سنًّا، وأقام بمكة زمنًا، ثم طاف على معظم مراكز الحديث في العالم الإِسلامي وسمع من مشايخه في خراسان والحجاز ومصر والشام، ودخل المدينة المنوّرة، وصنَّف في روضتها الغراء كتابه "التاريخ الكبير" وقال ﵀: قلّ اسم في التاريخ إلاّ وله عندي قصة. ودخل بغداد ثماني مرات، وكان يجتمع فيها كل مرة بالِإمام أحمد، فيحثه على الإقامة فيها.
كثرة شيوخه: لا شك أن هذه الرحلة الطويلة كانت سببًا في كثرة مشايخ البخاري وكلهم من أعلام المحدثين ذوي الثقة والعدالة. قال رحمه الله تعالى: "كتبت عن ألف وثمانيْن نفسًا، ليس منهم إلاّ صاحب حديث. وكان بعض مشايخه ﵀ من التابعين، وبعضهم من أتباع التابعين، وهم الطبقة الوسطى من مشايخه.
تلامذته: أخذ عن البخاري وسمع منه خلق كثيرٌ حتى قال الفربري: سمع
1 / 14
منه كتاب البخاري سبعون ألف رجل، وكان من أعْلام تلاميذه الترمذي
والنَسائي ومسلمٌ وابن خزيمةِ وأبو زُرعة.
سعة حفظه: كان ﵀ في الحفظ نادرة زمانه، وأعجوبة دهره، ولم يكن له نظير في عصره، بل كان آية من آيات الله في أرضه، رُوِى عنه أنه كان ينظر في الكتاب فيحفظه من نظرة واحدة، قال رحمه الله تعالى: أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائَتَيْ أَلفِ حديثٍ غير صحيح، وروى أبو العباس البغدادي "أن البخاري لما قدم بغداد اجتمع به محدثوها وأَرادوا امتحان حفظه، فعمدوا إلى مائة حديث قلبوا متونها وأسانيدَها، وجعلوا إسناد هذا لهذا ودفعوا لكل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم أن يلقوا ذلك إلى البخاري، فلما انعقد المجلس من كبار علماء العراق وخراسان، قام إليه رجل فسأله عن حديث منها، فقال البخاري: لا أعرفه، فما زال يلقى إليه واحدًا واحدًا (١)، والبخاري يقول: لا أَعرفه، ثم قام إليه ثان وثالث ورابع حتى فرغوا كلهم، فالتفت إلى الأَول فقال: أمَّا حديثك الأول فقلت: كذا، وصوابه كذا، وحديثك الثاني كذا، وصوابه كذا، حتى أَتى على تمام العشرة فرد كل متنٍ إلى إسْنَادِهِ، وفَعَل بالآخرين مثل ذلك، قال الحافظ: فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب فإنّه كان حافظًا، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه.
ثناء أهل العلم عليه: لقد أجمع علماء الإِسلام على أن البخاري قد فاز بقَصَب السبق، وتفوّق على غيره في علم الحديث حتى أصبح يلقَّب بأمير المؤمنين في الحديث، وشهد له بذلك أهل العلم في جميع العصور قديمًا وحديثًا، فقال الإمام أحمد ﵀: ما أخرَجَت خراسان مثل محمد بن إسماعيل، رواه الخطيب بإسناد صحيح.
_________
(١) المقدمة لابن حجر العسقلاني.
1 / 15
واعترف له بالفضل جميع أئِمة عصره، فقال الدارمي: لقد رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق فما رأيت فيهم أَجمع من محمد بن إسماعيل.
وقال قتيْبة بن سعيد: جالست الفقهاء والزهاد والعباد، فما رأَيت منذ عقلْت مثل محمد بن إسماعيل، وهو في زمانه كعمر في الصحابة.
وأما مكانته في الحديث وعلو منزلته بين المحدثين، فقد قال عنه الحافظ ابن كثير: البخاري إمام المحدثين في زمانه، والمقتدى به في أَوانه، والمقدم على سائِر أقْرانه.
وقال السبكي: البخاري إمام المسلمين وقدوة المؤْمنين، وشيخ الموحدين، والمعوَّل عليه في حديث سيد المرسلين، وكتب إليه أهْل بغداد شعرًا قالوا فيه:
المُسْلِمُونَ بِخَيْرٍ مَا بَقِيْتَ لَهُمْ ... وَلَيْسَ بَعْدَكَ خَيْرٌ حِيْنَ تُفْتَقَدُ
وقال فيه أبو مصعب: لو أدركتَ مالكًا ونظرت إلى وجهه ووجه محمد بن إسماعيل لقلت كلاهما واحدٌ. وهكذا اشتهر البخاري، وأصبح حديث الدنيا، وتطلعت إليه الأنظار، وأجع العلماء على محبته وتقديره، واشتاقت إلى رؤيته القلوب، وشخصت الأبصار حتى قال أبو سهيل: أكثر من ثلاثين عالمًا من علماء مصر يقولون: حاجتنا في الدنيا النظر إلى وجه محمد بن إسماعيل.
وقال يحيى بن جعفر: لو قَدِرْتُ أن أزيد من عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم.
صفات البخاري وشمائله: كان البخاري ﵀ ربعة القوام، عظيم الحياء والشجاعة والورع والزهد، كثير الجود وتلاوة القرآن، أنفق المال الذي ورثه عن والده على طلبة العلم، وكان شغوفًا بتلاوة القرآن يختم في رمضان في كل
1 / 16
يوم ختمةً قال محمد ابن أبي حاتم.
وفاة البخاري: عاد البخاري أخيرًا إلى مسقط رأسه (بخارى) وتلقَّاه أهلها بالحفاوة والتقدير. إلاّ أنَّ أميرها خالد بن أحمد الذهلي سأله أن يحضر إلى منزله ليحدِّث أولاده بالجامع الصحيح، فامتنع، وقال كلمته المشهورة: لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانتْ له حاجة فليحضر إلى مجلسي. فغضب عليه الوالي، ونفاه عن بخارى. فدعا عليه بقوله: اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم، فلم يأت شهر على ذلك الوالي حتى عُزِّرَ به، وأركب على أتان ونودي عليه في أسواق بخارى. أما البخاري فإنه سار إلى سمرقند بدعوة من أهلها، فوقعت بسببه فتنة، فتوقف بقرية خَرْتَنْك، على ثلاثة فراسخ من سمرقند، ومرض هناك ووافاه أجله المحتوم، ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين من الهجرة النبوية.
مؤلفات البخاري كثيرة منها:
١ - الجامع الصحيح أو صحيح البخاري.
٢ - الأدب المفرد.
٣ - القراءة خلف الإِمام.
٤ - التاريخ الكبير.
٥ - التاريخ الأوسط.
٦ - التاريخ الصغير.
٧ - خلق أفعال العباد.
٨ - أسامي الصحابة.
٩ - كتاب الضعفاء.
قال القسطلاني: وسارت مؤلفات البخاري مسير الشمس، ودارت
1 / 17
الدنيا، فما جحد فضلها إلاّ الذي يتخبطه الشيطان من المس.
الجامع الصحيح - أو صحيح البخاري:
صحته: لا شك أن هذا الجامع الصحيح المشهور بصحيح البخاري هو أجل كتب الإِسلام بعد كتاب الله شانًا وأعلاها منزلة، وأصح كتب الحديث على الإطلاق، وهو الكتاب الذي خلّد اسم البخاري، ودخل به التاريخ من أوسع أَبوابه، وأصبح ذكره على كل لسان على مر العصور والأَزمان، لأنه خطا في كتابه هذا خطوةً عظيمة وانفرد بميزة لم يشاركه فيها غيره، حيث اقتصر فيه على أصح الصحيح من حديث رسول الله ﷺ، واشترط في الأحاديث التي أخرجها شرطًا لم يشترطه سواه، وقد كان المحدثون قبله لا يعنون إلا بجمع ما وصل إليهم من الحديث، تاركين البحث عن رواته إلى القرّاء، فلما ظهر البخاري أراد أن يجرِّد الصحيح من الأحاديث في كتاب على حدة، ليريح الطالب من عناء البحث، فأَلَّف كتابه هذا الذي اقتصر فيه على الحديث الصحيح، الذي ينطبق عليه شرطه هو دون سواه، قال ابن الصلاح: أوَّلُ من صنف الصحيح أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي مولاهم، وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ... ثم إِن كتاب البخاري أصح الكتابين وأكثرها فوائد.
فصحيح البخاري أصح من صحيح مسلم، لأن شرط البخاري أَقْوى، فقد اشترط فيما يخرجه من الأحاديث " اللقيا " بين الراوي ومن روى عنه، بينما لم يشترط مسلم سوى " المعاصرة بينهما "، ولهذا قال العسقلاني: أما رجحان البخاري من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من روى عنه، واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة. أهـ. ولهذا أجمعوا على أنه أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى.
1 / 18
قال البخاري رحمه الله تعالى: سمعت شيخي إسحاق بن راهويه يقول: لو جمعتم كتابًا مختصرًا في الصحيح من سنّة رسول الله ﷺ، فوقع ذلك في نفسي أو في قلبي، فأخذت في جمع "الجامع الصحيح" ورأيت النبي ﷺ في المنام، وكأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب عنه، فسألت بعض المعبّرين فقال: أنت تذب عنه الكذب (١)، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح.
وقد تحرى في صحته ما أمكنه التحري وبذل في ذلك أقصى الجهد ومكث فيه سنوات طويلة، قال ﵀: " صنفت الجامع في ست عشرة سنة، وجعلته حجةً فيما بيني وبين الله، ما أدخلت فيه حديثًا حتى استخرت الله تعالى، وصليت ركعتين وتيقنت صحته. وأكد ابن الصلاح أن الأحاديث التي انفرد بها البخاري ومسلم أحاديث مقطوع بصحتها، تفيد (٢) العلم اليقينى لتلقي الأمة كلَّ واحد من كتابيهما بالقبول، ويقول الأستاذ أحمد محمد شاكر " الحق (٣) الذي لا مرية فيه عند أهْل العلم بالحديث من المحققين، أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها، ليس في واحد منها مطعن أو ضعْف "، أهـ.
ولقد كان من العوامل التي ساعدت البخاري على أن يكون الرائد الأَوَّلَ في تجريد الأحاديث الصحيحة كما قال أحمد أمين في ضحى الإِسلام: أنه رزق خصلتين بارزتين مكَّنتاه من غرضه:
_________
(١) مقدمة البخاري للحافظ بن حجر.
(٢) المقدمة لابن الصلاح.
(٣) سرح ألفية الحديث لفضيلة الأستاذ أحمد مَحمد شاكر.
1 / 19
الأولى: حافظة قويّة لاقطة خاصةً (١) فيما يتعلق بالحديث، فقد بالغ الرواة في كثرة ما كان يحفظه عن ظهر قلبه من أَحاديث بسندها، فروي عنه أنه كان يحفظ في صباه سبعين ألف حديث وأكثر، ولا يجيء بحديث عن الصحابة والتابعين إلا ويعرف مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم وأوصافهم، ومهما كانت هذه الأخبار التي رويت عنه فإنها تدلنا على قدرته في الحفظ، وكان يستعين على حفظه بالتقييد، فقد رووا عنه أنه كان يقول ما تركت حديثًا في البصرة إلا كتبته.
الثانية: مهارة فائِقة في تعرف الرجال ونقدهم، وقد وضع في ذلك كتابه " التاريخ " لتمييز الرجال، ورووا عنه أنه قال: قَلَّ اسْمٌ قي التاريخ إلا وله عندي قصة.
أما عدد أحاديث صحيح البخاري: فقد ذكر ابن الصلاح (٢) أنها سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثًا بالأحاديث المكررة (٣)، وقيل إنها بإسقاط المكرر أربعة آلاف حديث وتبعه النووي في مختصره ... وقال القاري (٤): الذي حققه الحافظ في شرح البخاري، أن جملة أحاديثه مع التعاليق والمتابعات والشواهد والمكررات تسعة آلاف وإثنان وثمانون حديثًا، وبإسقاط المكرر تبلغ أَحاديثه المرفوعة إلى النبي ﷺ أَلفين وستمائة وثلاثًا وعشرين، وتبلغ ثلاثيات البخاري وهي أعلى الأسانيد مع المكرر اثنين وعشرين حديثًا، وبإسقاط المكرر ستة عشر حديثًا.
_________
(١) ضحى الإسلام للأستاذ أحمد أمين.
(٢) علوم الحديث للإمام ابن الصلاح.
(٣) وقد أحصى أحاديثه الأستاذ المرحوم محمد فؤاد عبد الباقي فبلغت (٧٥٦٣).
(٤) المرقاة شرح الشكاة للقاري ج ١.
1 / 20