بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
الحمد لله الذي أوجب على كافة الأنام، تعظيم هذا البيت الحرام، بأقصى غاية التعظيم، وأتحف اللائذين بأذياله -بما وقر في نفوسهم له- من نهايات الإجلال والإكرام والتفخيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة يستفتح بها كل مغلق عقيم، ويحيى بروح سرها كل عظم رميم.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي قام بأعباء حرم بيته الأكبر، وأشادها على كواهل وارثيه ليذبوا عنها من بهذا الحمى الأقدس أراد أن يتسور. صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وأصحابه الذين ما زالوا معظمين لهذه البنية الشريفة، والكعبة المعظمة المنيفة، وعلى تابعيهم المبينين لأحكامها، القائمين بآدابها واحترامها، صلاة وسلاما دائمين بدوام سؤددها، باقيين ببقاء مددها. آمين.
وبعد:
Shafi 23
فإنه ورد في أوائل تسع وخمسين وتسعمائة أوامر مولانا -سلطان الإسلام والمسلمين، ومبيد الكفرة والمبتدعة والملحدين، ظل الله في أرضه، القائم بأوفى غايات العدل في سننه وفرضه، الملك العادل الأفخم، والخاقان الكامل المعظم، السلطان ابن السلطان، الحادي عشر من ملوك بني عثمان، الملك المظفر شاه سليمان، أدام الله على أهل الإسلام عدله ومسرته، وعلى أهل الشرك والبدعة سطوته ونقمته، وأباد بسيوف قهره وعدله غياهب المحن، ومواقع الفتن، وأدام ملكه الأعظم الأعدل الأفخم في ذريته الطاهرة، وبلغه أعظم مأمولة في الدنيا والآخرة، آمين- بترميم ما تشعث في الكعبة المعظمة، لعرض قاضي مكة، بسؤال سدنتها، على نائب مولانا السلطان بمصر المحروسة، الوزير علي باشا؛ فإن سقفها صار ينزل منه الماء الكثير من المطر، وإن ذلك ربما آذى وأضر.
فعرض علي باشا ذلك على أبواب مولانا السلطان الزكية، وسدته العلية، فتحرى -عز نصره، وزاد عزه وبره- جريا على ما انفرد به هو وجميع آبائه الأكرمين، من بين سائر الملوك والسلاطين، أن لا يبرموا أمرا إلا بعد مشاورة العلماء العاملين، لا سيما إمامهم ومفتيهم المقدم على جميع القضاة والمفتين.
واستفتى مولانا إنسان عين الزمان، وخليفة النعمان، ومحقق الأعصار المتأخرة، ومدقق المباحث العويصة المقررة، إمام الإفتاء بالباب العالي، المحفوظ بصلاح نية مولانا [السلطان] من صروف الأيام والليالي، عما أنهاه إليه سدنة الكعبة.
فأفتاه بما هو الحق الواضح، من إصلاحها على ما يليق بحرمتها.
فكتبت المراسم الحنكارية لعلي باشا، أن يعين لذلك من مماليك مولانا السلطان من يراه، فعين علي باشا لذلك الأمير أحمد بيك، رئيس كتاب خزانة مصر المحروسة، كان ذلك بعد أن عين له من الأموال ما يليق بذلك.
Shafi 24
فقدم بها مع الآلات إلى مكة، ثم لما أراد الشروع في ذلك، نازعه فاتحها، فأحب الناظر أن لا يستبد بأمر حتى يجمع جمعا من علماء مكة؛ لينظر: هل يطابقون ما أفتى به مفتي السلطان أو يخالفونه؟
فأرسل هو وقاضي القضاء بمكة -الرومي الحنفي- إلى أولئك بعد صلاة الجمعة، سادس عشر شهر ربيع الأول سنة (959 ه)، تسع وخمسين.
وعقد مجلس حافل، وكان من جملة ما فيه، أن قال فاتح الكعبة: هي لا تحتاج إلى ما يريدون فعله فيها، فأحضر مهندس السلطان ومعه آخر، وشهدا أن فيها خشبتين مكسورتين من سقفها، وخشبة ثالثة لم تنكسر، لكنها نزلت عن محلها تسعة قراريط.
فحينئذ استفتي الحاضرون عن ذلك وكنت معهم، فأفتيت بأن ما إصلاحه ضروري يصلح، وبأنه ينبغي أن يضم إلى هذين الشاهدين بعض أهل الخبرة، حتى يطيب خاطر فاتح الكعبة.
فوافق الناظر والقاضي والحاضرون على ذلك، وكذا فاتح الكعبة، وزاد أنه ينبغي كشف ما على الخشب المدعى انكساره، فإن تحقق أصلح، وإلا رد كل شيء إلى محله، فوافقوه أيضا.
ثم كتب في المجلس ورقة بذلك جميعه، وقرئ على الحاضرين، وكان منهم جماعة من المالكية والحنفية، ثم تفرقوا على ذلك.
Shafi 25
ثم أراد الناظر الشروع في ذلك، فتوقف بعض سدنتها في ذلك، وعقد مجلس آخر أكثر جمعا من الأول، فدار الكلام بينهم في المسألة، فكثر اختلافهم، ولم أكن حاضرا فيه.
فقيل: إن منهم من قال كما قلناه: لا يصلح إلا ضروري الإصلاح، ومنهم من قال: هذا كلام غير صحيح، بل لا يتعرض لها بشيء أصلا، حتى يقع منها شيء فيرد إلى محله، ومنهم من قال: لا يصلح وإن وقع سقفها؛ لأنها كانت في الجاهلية غير مسقفة، ومنهم من قال: كيف يقال بإصلاحها، وبقاؤها على ممر الأعصار خرقا للعادة من الآيات الباهرة؟!
ثم تفرقوا من ذلك المجلس ولم يتحصلوا منه على شيء يعلم اتفاقهم عليه.
فعند ذلك، أظهر الناظر إفتاء المفتي السابق ذكره، ولم يكن أظهره قبل ذلك، وكتبه في سؤال، ثم كتب بعده ما وقع في المجلس، ثم رفعه إلى أولئك الحاضرين، مستفتيا لهم: هل يوافقون ما قاله المفتي من إصلاح الضروري أو الحاجي، فيعمل بما أفتى به، أو يخالفونه فيبينون سند المخالفة من النقل؛ ليعرض عليه كلامهم، وينظر الصواب مع أي الفريقين؟
فالأكثر كتب بنحو كتابة المفتي، وبعضهم امتنع من الكتابة، وأرسلوا إلي لأكتب، فقلت لهم: لم أحضر هذا المجلس، وقد حضرت المجلس الأول، وضبطتم ما قلته فيه مما ظهر موافقته لما أفتى به المفتي.
Shafi 26
وحينئذ كثر كلام العامة، ونقل إلينا أن الموافقين للمفتي إنما وافقوه خشية الفتنة، وأن الذي عليه أكثرهم إنما هو عدم إصلاحها مطلقا، حتى يسقط ما يراد إصلاحه.
فلذلك عزمت -بعد الاستخارة- على بيان ما للعلماء في هذه المسألة، مما يدل على الجواز أو المنع، مع حمل كل من تلك العبارات على ما يتعين حمله عليه، ويتبادر كل ذهن سليم إليه.
فشرعت في ذلك أول شهر ربيع الثاني، سنة تسع [وخمسين]، وقد شرعوا في الإصلاح على ما وقع في الإفتاء السابق، مستعينا بالله ومتوكلا عليه، ومفوضا سائر أموري إليه، لا رب غيره، ولا مأمول إلا بره وخيره، وهو حسبي ونعم الوكيل، وإليه أفزع في الكثير والقليل.
وسميت هذا التأليف ب:
((المناهل العذبة في إصلاح ما وهى من الكعبة))
ورتبته على مقدمة وأربعة مقاصد وخاتمة:
أما المقدمة، ففي تحرير ما أفتيت به.
وأما المقاصد:
فأولها: في بيان كلام أئمتنا في ذلك.
وثانيها: في كلام الحنفية.
وثالثها: في كلام المالكية.
ورابعها في كلام الحنابلة.
وأما الخاتمة، ففي تتمات وفوائد تتعلق بذلك.
Shafi 27
المقدمة
اعلم أن الذي أقوله وأفتي به على قواعد أئمتنا، أنه يجوز -بل يطلب- إصلاح ما تشعث واختل من سقف الكعبة وجدارها وميزابها وعتبتها ورخامها، كما وقع عليه الإجماع الفعلي الآتي بيانه، وتقرير العلماء عليه، من لدن عمارة ابن الزبير رضي الله عنهما إلى يومنا هذا، وأنه يجوز التوصل إلى بيان حقيقة ما ظن اختلاله من نحو سقفها، بكشف ما يعلم به أمره، كما وقع نظيره مما يأتي بيانه [أيضا].
بل سيأتي عن الفاسي، أنه وجماعة من قضاة مكة وأمير العمارة الذي ندبه لها -برسباي- وأعيانها، اجتمعوا بالكعبة لما خافوا من سارية من سواريها ظهر بها ميل، فكشفوا من فوقها، فوجدت صحيحة، وردت حتى استقامت.
Shafi 28
وهذا منه -كالقضاة وغيرهم- صريح فيما قلته آخرا، من جواز الكشف المذكور، فتأمله فإنه واضح.
وما يقال: يحتمل أنهم كانوا مكرهين، فهو فاسد؛ وما الحامل للإمام الفاسي على أن يحضر هو والقضاة مكرهين، ثم لا يذكر ذلك؟ بل يذكر ما هو صريح في رضا الحاضرين، وأن ذلك لم يفعل إلا بإذنهم.
ومما يحفظ عليك وقوع هذا الاختلاف، أن الله تعالى جبل قلوب المسلمين على غاية التعظيم والمهابة والإجلال.
فكل من أفتى إفتاء، فإنما حمله عليه -مع ما فهمه من كلام أئمته- أنه لم ير التعظيم للكعبة المعظمة إلا فيه.
وسيأتي من تعظيم السلف لها -بل الجاهلية- مما يبهر العقل، وفي ذلك دلالة على بقاء الخير الكثير في الأمة، كما أخبر به الصادق صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء في الحديث الحسن، أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها -يعني الكعبة والحرم- فإذا ضيعوا ذلك هلكوا)).
فإن قلت: ما وجه التعظيم في عدم الإصلاح؟
Shafi 29
قلت: كأنهم يلحظون صونها عن استعلاء العمال عليها ما أمكن، وكأن قائل ذلك لم ير -ما يأتي- أن قريشا لما أرادوا هدمها، توقفوا عنه؛ خشية أن يصيبهم عذاب، فقال بعضهم: إنما يخشى ذلك من لا يريد الإصلاح، فتوقفوا، فأخذ [الوليد] المعول وقال: اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح، فهدمها، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء، تبعوه.
وكذلك وقع لابن الزبير رضي الله عنهما، كما سيأتي بسط ذلك كله.
بل الحجاج إنما كان متأولا ردها إلى ما كانت عليه في زمنه صلى الله عليه وسلم ، فلذلك لم يصبه شيء، مع أنهم كانوا يرون أن من تعرض لها هلك، كما سيأتي ذلك كله.
فإن قلت: فما وجه التعظيم في إصلاحها؟
قلت: هو أن تركها متشعثة متهدمة يزيل هيبتها من قلوب كثيرين ليس محط نظرهم إلا الصون وعظمتها، كما سيأتي بسط ذلك. وقد أشار إليه ابن الزبير بقوله الآتي: لو أن بيت أحدكم احترق، لم يرض له إلا بأكمل الإصلاح.
فتأمل ذلك يسهل عليك وقوع هذا الاختلاف الذي يرجع أكثره إلى القول بالاستحسان لا غير.
(تنبيه): لما أتممت هذا الكتاب، رأيت ما أبلج صدري، وزاد بسببه حمدي وشكري؛ إذ وافقت فيما أفتيت به الإمام المتفق على جلالته، وتحقيقه وإمامته، الإمام المحب الطبري، الذي قيل في ترجمته: لم يخرج من مكة -بعد إمامنا الشافعي رضي الله عنه- أفضل منه. وقيل فيها -أيضا-: ما وجد له بحث رد، أي غالبا.
Shafi 30
وعبارته -[و] من خطه رحمه الله نقلت، بعد أن تكلم على حديث عائشة رضي الله عنها الآتي بكلام مبسوط سأذكره في آخر المبحث الخامس-: ((ومدلول هذا الحديث -تصريحا وتلويحا- يبيح التغيير في البيت بالعمارة، إذا كان لمصلحة ضرورية أو حاجية أو مستحسنة)). انتهت.
فتأمل قوله: ((أو حاجية أو مستحسنة))، تعلم أن القائلين بنحو ما مر في الخطية، إنما سلكوا ملك الحدس والتخمين، ولم يتأملوا كلام الأئمة الراسخين، فالحق أحق أن يتبع، ومن لم يرجع لذلك فقد حاد عن سنن الصواب وابتدع.
وإذا تأملت كلام المحب هذا، وجدته هو الذي ذكرته في هذا الكتاب، وأقمت عليه الأدلة الصحيحة الجارية على جادة الصواب، فالحمد لله على موافقتنا للعلماء فيما أبديناه وحررناه وقررناه، ورأيناه حسنا.
Shafi 31
### || المقصد الأول في بيان كلام أئمتنا في ذلك
وفيه مباحث:
الأول
قال أصحابنا: يصح الإهداء والنذر إلى الكعبة نفسها، وكذا لرتاجها وطيبها ووقودها، فينقله إليها، ثم يصرف إلى القيم بأمرها ليصرفه في الجهة المنذورة، إلا أن يكون قد نص في نذره أنه يتولى صرف ذلك بنفسه.
قال الإمام [العالم] المجتهد التقي السبكي، في كتابه ((تنزل السكينة)) -بعد ذكره نحو ذلك-: ((فظهر بهذا القطع بثبوت اختصاص الكعبة بما يهدى إليها و[ما] ينذر لها، وما يوجد فيها من الأموال، وامتناع صرفها في غيرها، لا للفقراء ولا للحرم الخارج عنها المحيط بها، ولا لشيء من المصالح إلا أن يعرض لها نفسها عمارة ونحوها.
Shafi 32
وحينئذ ينظر: فإن كانت تلك الأموال قد أرصدت لذلك، فتصرف فيه، وإلا فيختص بها الوجه الذي أرصدت له، فلا يغير عن وجهه، فالمرصد للبخور لا يصرف في غيره، والمرصد للعمارة لا يصرف في غيره، والمرصد للسترة لا يصرف في غيره، والمرصد للكعبة مطلقا يصرف في جميع هذه الوجوه، وكذا لو وجد فيها ولم يعلم قصد من أتى به)). اه المقصود من كلامه.
وتبعه الزركشي في ((الخادم)) فقال -بعد ذكره عن الأصحاب نحو ما قدمته-: ((فظهر بهذا اختصاص الكعبة بما يهدى إليها، وما ينذر لها، وما يوجد فيها من الأموال، وامتناع صرف شيء منها إلى الفقراء أو المصالح، إلا أن يعرض لها نفسها عمارة فيصرف فيها إن حدثت لها، وإلا فلا يغير عن وجهه)). اه.
ثم قال: ((والرتاج: بكسر الراء المهملة، ثم مثناة -أي فوقية- ثم جيم، قال القاضي حسين: هو في اللغة الباب العظيم)). قال: ((والمراد هنا جميع الكعبة)). قال: ((وقيل: الرتاج الستر)). اه.
Shafi 33
فتأمل قولهم بصحة النذر للكعبة نفسها، وأنه يصرف [لما حدث فيها من العمارة ونحوها، ولبابها، وأنه يصرف] فيها، تجد ذلك كله مصرحا بأن عمارتها ونحوها قربة يصح نذرها، ويصرف المنذور فيها.
ومن الواضح البين: أن ما وهي وتشعث منها في حكم المنهدم أو المشرف على الانهدام، فيجوز إصلاحه، بل يندب، بل يجب إن وجد له مصرف؛ كما يجب على ناظر المسجد [الحرام] أن يصلح ويرم ما فيه.
بل إذا تأملت قول السبكي: ((إلا أن يعرض لها نفسها عمارة ونحوها))، وعلمت أن نحوها يشمل الترميم وإصلاح ما وهى وتشعث منها، علمت أن مسألة الترميم والإصلاح منقولة بالنص، وأن ذلك لا مساغ لإنكاره.
وتأمل قول ((الخادم)): ((إن حدثت لها وإلا فلا يغير شيء عن وجهه))، تجده موافقا لذلك؛ فإنه لا ينهى عن تغيير الشيء عن وجهه، إلا إذا كان باقيا على وجهه، أما إذا تغير عن وجهه بميل أو كسر، فهذا لا يقال فيه: لا يغير الشيء عن وجهه، وهذا ظاهر لمن له أدنى تأمل.
الثاني
Shafi 34
أن المحب الطبري، لما أفتى بوجوب إعادة الشاذروان إلى ذراع؛ [كما] نقله [الأزرقي]، استشعر على نفسه اعتراضا، وأجاب عنه بما هو صريح فيما ذكرناه؛ فإنه قال: ((لا يقال: إن ذلك زيادة في بيت الله جل وعلا، وتغيير له عن موضعه، ولا يجوز ذلك؛ لأنا نقول: إخبار هذا الإمام العدل يمنع من أن يكون التتميم زيادة وتغييرا؛ لأنه إنما يكون زيادة إذا تحقق أن الموجود الآن هو الأصل، ونحن لا نتحققه، بل لا نظنه، بل لا نشك في أنه ليس على الأصل.
ثم قال عن خبر الأزرقي: ((فيجب قبول خبره وطرح ما يوسوس الشياطين من الخيالات الفاسدة، والاحتمالات البعيدة)).
وقال -قبل ذلك-: ((على متولي البيت الحرام، والناظر في هذه المشاعر العظام، رعاية مصالحها، والاهتمام بعماراتها))، وجعل ذلك توطئة لما قرره بعد: أنه يجب هدم الشاذروان وإعادته إلى ذراع احتياطا.
وهذا كله منه ظاهر [أو] صريح فيما قدمته: أنه يجب رعاية مصالح البيت، وترميم ما وقع فيه اختلال منه، ولم ما تشعث من بنائه، بل هذا أولى مما ذكره في الشاذروان؛ لأن المصلحة في الاحتياط فيه مختصة بمن يقول: لا يصح الطواف عليه، وهم فرقة من العلماء لا كلهم، ومصلحة ترميم الكعبة يرجع إلى كل الناس كما مر، ويأتي.
Shafi 35
وقال -أيضا-: ((إنه أحدث في الشاذروان زيادة، ولم يقل أحد ممن وجد بعد الأزرقي إلى زمننا هذا: إن هذا الإحداث زيادة في بيت الله تعالى، وتغيير له في موضعه، ولا أنكره أحد، فليكن كذلك ما يتم به الذراع المفعول في عرضه ، ولا يكون ذلك زيادة، بل جبرا أو تتميما)). اه.
الثالث
استدل العلماء لجواز إصلاح ما وهى وتشعث من الكعبة، بما تطابق عليه الناس في الأعصار من فعل ذلك فيها من غير نكير.
فممن استدل بذلك الحنابلة كما سيأتي عنهم، ومن جملة قولهم: ((لا بأس بتغيير حجارة الكعبة إن عرض لها مرمة؛ لأن كل عصر احتاجت فيه لذلك، قد فعل بها ذلك، ولم يظهر نكير على من فعله.
وممن استدل به -أيضا- الإمام المجتهد التقي السبكي، وعبارته: ((وأول من فرشها بالرخام، الوليد بن عبد الملك، ولما عمل الوليد ذلك، كانت أئمة الإسلام والصالحون وسائر المسلمين، يحجون وينظرون ذلك، ولا ينكرونه على ممر الأعصار)). انتهت.
Shafi 36
وإذا استدل السبكي بتقرير العلماء وغيرهم للوليد على ما ابتدعه وأحدثه في الكعبة من فرشها بالرخام، مع عدم الاحتياج إليه، مع كونه -أعني الوليد- من أئمة العسف والجور، وسوغ -أعني السبكي- هذا الفعل لسكوت الناس عليه، فما بالك بترميم وإصلاح ما وهى من الكعبة وتشعث؟!
فليكن سكوت الناس على ما فعل منه في الأعصار، دليلا ظاهرا على الجواز في ذلك من باب أولى؛ لأن هذا أمر ضروري أو محتاج إليه، وفرش الرخام ليس فيه إلا محض الزينة وإظهار أبهة البيت وجلالته في نفوس العامة، فتأمل هذا؛ فإنه دليل واضح جلي على ما قلناه من جواز إصلاح الخلل الذي في نحو سقف الكعبة، وتتميم ما تشعث منها.
بل يؤخذ من كلام السبكي هذا، أنه يجوز أن يحدث فيها كل ما يليق بتعظيمها وأبهتها وجلالتها، وإن لم يحتج إليه؛ فإن فرش الرخام لا يحتاج إليه [البيت] ألبته، وإنما فيه محض زينة وجلالة، فإذا جاز فرش الرخام فيها لما ذكره السبكي، فليكن كل ما في معناه مثله.
ويؤيده: أن العلماء وغيرهم أقروا الملوك وغيرهم على تغيير بابها، المرة بعد المرة، مع الصلاحية وعدم الاحتياج للتغيير، وكذلك غيروا عتبتها المرة بعد المرة، وميزابها المرة بعد المرة، كما سيأتي بيان كل ذلك.
وليس الحامل للفاعلين على ذلك، إلا إظهار أبهة الكعبة، وأنه لا يليق بجلالتها بقاء ما خلق أو عتق فيها، فلذلك جسروا على تغيير تلك الأشياء، وأقرهم العلماء وغيرهم على ذلك ولم ينكروا عليهم.
فإن قلت: يحتمل أن عدم إنكارهم لعلمهم بأن أولئك الملوك، لا يمتثلون أوامرهم، فحينئذ لا يستدل بسكوتهم.
Shafi 37
قلت: هذا غفلة عما قاله الأئمة: إنه يجب الأمر بالمعروف وإن علم من المأمور أنه لا يمتثل، على أنه سيأتي عن السبكي، أن الملوك إنما تصعب مراجعتهم فيما يتعلق بملكهم دون [نحو] هذا، سيما وفيه توفير لأموالهم، وذلك محبب للنفوس، والشح مطاع.
وقد قال السيد السمهودي رحمه الله في فتاويه -بعد كلام ساقه يتعلق بأمر السلطان، في قضية شيء ظاهره يخالف الشرع-: ((وينبغي أن يصان أمر ولاة المسلمين عن مثل ذلك، بل هي محمولة على ما يسوغ شرعا)). اه.
ولو تنزلنا ولم ننظر إلى ذلك كله، فالإنكار لم ينحصر في ذلك، بل من جملة حكمه بيان ذلك في كتبهم، وأنه منكر أو ممنوع مثلا.
ولولا سبر السبكي لكتب الأئمة من لدن الوليد إلى وقته، فلم ير أحدا من العلماء تعرض لإنكار ما فعله الوليد بقول ولا قلم، لما استدل بما مر عنه، ولما ساغ له أن يقول: ((ولما عمل الوليد ذلك، كانت أئمة الإسلام والصالحون وسائر المسلمين، يحجون وينظرون ذلك ولا ينكرونه، على ممر الأعصار)). اه.
Shafi 38
فهذا أعدل شاهد، وأوضح عاضد، على أن تقرير العلماء للملوك على ما فعلوه في الكعبة المعظمة، من إصلاح ما وهى وتشعث من سقفها وغيره، دال على جواز ذلك واستحسانه، وأنه لا مساغ لإنكاره، وأنه متى عرض فيها نحو ميل أو انكسار لشيء من خشبها أو نحو ذلك، بودر إلى إصلاحه وترميمه على أكمل الوجوه اللائقة بحرمتها وأبهتها وجلالتها.
ومما يزيد ذلك وضوحا، أن السبكي رحمه الله تعقب ترجيح الرافعي والنووي رحمهما الله عدم جواز تحلية الكعبة، حيث قالا: ((الأظهر أنه لا يجوز تحلية الكعبة))، فقال: ((كيف يكون ذلك، وقد فعل في صدر هذه الأمة، وقد تولى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عمارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عن الوليد بن عبد الملك، وذهب سقفه؟!
فإن قيل: إنه فعل امتثالا لأمر الوليد.
فالجواب: أن الوليد وأمثاله من الملوك، إنما تصعب مخالفتهم فيما لهم غرض يتعلق بملكهم ونحوه، أما مثل هذا -وفيه توفير عليهم في أموالهم- فلا يصعب مراجعتهم فيه، فسكوت عمر بن عبد العزيز وأمثاله وأكبر منه -مثل سعيد بن المسيب وبقية فقهاء المدينة وغيرها- دليل لجواز ذلك.
بل أقول: ولي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعد ذلك الخلافة، وأراد أن يزيل ما في جامع بني أمية من الذهب، فقيل له: إن لا يتحصل منه شيء يقوم بأجرة حكه، فتركه.
والصفائح التي على الكعبة يتحصل منها أشياء كثيرة، فلو كان فعلها حراما لأزالها في خلافته؛ لأنه إمام هدى، فلما سكت عنها وتركها وجب القطع بجوازها)). اه.
Shafi 39
فتأمل هذا الاستدلال من هذا الإمام، تجده قاضيا بصحة ما سلكه هو وغيره من العلماء، من أن سكوت العلماء وغيرهم على ما فعل في الكعبة المعظمة، من الإصلاحات في الأعصار من غير نكير، دال على جوازه وحسنه، وأنه ينبغي للملوك تحريه والعمل بمثله في الكعبة المشرفة، إذا حصل فيها ما يقتضي الإصلاح ولم الشعث الذي لا يليق بأدنى المساجد أن تبقى عليه، فكيف بما هو أشرفها وأفضلها؟!
ويؤيد ما مر من احتجاج الإمام السبكي بعدم إنكار العلماء وغيرهم، أن المحب الطبري لما أفتى بوجوب إعادة الشاذروان إلى ذراع في العرض كما مر ذلك عنه، استشعر على نفسه اعتراضا، وأجاب عنه بما يوافق ما تقرر أن عدم إنكارهم بعد علمهم بالحكم، تقرير له ورضى به.
وعبارته: ((فإن قيل: هذا الموجود اليوم الناقص عن الذراع، ترادفت عليه الأعصار، وتواردت عليه علماء الأمصار، وجاور بالحرم الشريف كثير من العلماء، وطالت مدة مجاورتهم، ولم ينكر ذلك أحد منهم، والظاهر أن ذلك لم يخف على جميعهم.
قلنا: عدم إنكارهم لا يدل على رضاهم به وتقريرهم له، وإنما يحكم بالرضى والتقرير، بعد العلم بأنهم علموا بأنه كان ذراعا ثم أقروه ناقصا، ويحتاج ذلك إلى إثبات.
وكثير من جملة العلماء لا يعلم أن الأزرقي ذكر أن عرضه ذراع وإن علموا حكمه، وكثير يعلم ما ذكره الأزرقي ولا يعتبره، ويطوف ويعتقد أنه كما ذكره الأزرقي، ولا يعلمون نقصه.
وقد رأيت من أجلة أهل العلم من هو كذلك، وما المانع من أن يكون أنكره من اطلع عليه وعلمه، كما أنكره اليوم، فحصل له صاد كما حصل اليوم؟
Shafi 40
ولا يتمكن كل أحد من تغييره بيده، وإنما ذلك منوط بولاة الأمر فيه، وكم من بدعة تطاول زمانها، ولا يقال: إن علماء عصرها أقروها رضى بها، بل يحرم على كل أحد نسبتهم إلى ذلك.
ألا ترى أن في الكعبة منكرين فاحشين، قد تطاول الزمان عليهما؟ المنكر المسمى بالعروة الوثقى، والمنكر المسمى بسرة الدنيا، أنكرهما كثير من العلماء ولم يلتفت إليهم)). اه.
فإن قلت: يؤخذ من كلام هذا منازعة السبكي وغيره فيما قالوه، من الاستدلال بتقرير العلماء على فعل تلك الإصلاحات والرخام والتحلية؛ لأن الاحتمالات التي ذكرها بسكوت العلماء على بقاء الشاذروان على دون الذراع تأتي في ذلك.
قلت: ممنوع؛ لأن الإنكار يستدعي تقدم العلم بما قاله الأزرقي أنه كان ذراعا، وهذا لا يأتي فيما نحن فيه.
سلمنا أنهم علموا، يحتمل أنهم ممن يرون صحة الطواف على الشاذروان، وإن سلمنا أنهم يعتقدون ذلك، هم قد أنكروه في كتبهم، وهذا كله لم يوجد منه شيء هنا، فدل سكوتهم على تلك الإصلاحات وعدم تعرضهم لإنكارها بلسان ولا قلم، على جوازها.
وقوله: ((وكم من بدعة .. )) إلخ، لا يأتي فيما نحن فيه أيضا؛ لأن العلماء لم يبقوا شيئا من البدع المنكرة إلا وقد ذكروا حكمه وبينوه، تلويحا أو تصريحا، فسكوتهم عن الإنكار عليه إنما هو لعجزهم.
Shafi 41
وهنا: لو كان سكوتهم لعجزهم لبينوا ذلك في كتبهم، فتأمل ذلك حق التأمل؛ لتكون على جادة الصواب، وتظفر بتحقيقه؛ فإنه مما يستفاد ويستطاب، وفقنا الله لتحريه على الدوام، وجعلنا ممن قام بشعائر هذا البيت الحرام، آمين.
الرابع
مما هو صريح فيما قدمته من جواز الإصلاحات التي يحتاج إليها في الكعبة، ما حكاه أئمتنا وغيرهم في خبر بناء ابن الزبير رضي الله عنهما:
وذلك لأنه لما أراد أن يهدمها للحريق الذي وقع فيها من بعض جماعته، أو ممن حاصره، شاور من حضره من الصحابة وغيرهم رضي الله عنهم -منهم ابن عباس رضي الله عنهما- في هدمها، فهابوا هدمها وقالوا: نرى أن نصلح ما وهى منها ولا يهدم، فقال: لو أن بيت أحدكم احترق، لم يرض له إلا بأكمل إصلاح، ولا يكمل إصلاحها إلا بهدمها، فهدمها حتى وصل إلى قواعد إبراهيم صلى الله على نبينا وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم.
وفي رواية: أنه جمع وجوه الناس وأشرافهم، فاستشارهم في هدمها، فأشار عليه القليل من الناس وأبى الكثير، وكان أشدهم إباء عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال: دعها على ما أقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى فيتهاون الناس بحرمتها، ولكن ارقعها، فقال ابن الزبير: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بناء بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الله؟!
واستقر رأيه على هدمها، وكان يحب [أن يكون] هو الذي يردها على قواعد سيدنا إبراهيم؛ لما بلغه ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها.
Shafi 42