فمثلا يمتاز الفكر المتقدم الإنساني الذي يتعاطف أصحابه مع قضية التقدم في عصرنا الراهن يمتاز هذا الفكر وأصحابه بالانحياز إلى وجهة النظر التي ترى في التاريخ الإنساني والحضارة الإنسانية، ثمرات صنعها الإنسان وأبدعتها الجماهير، ومن العبارات الشائعة المألوفة لنا الآن أن الإنسان يصنع تاريخه وحياته وحضارته.
وحول هذه القضية تقوم مدارس في مختلف فروع العلوم الإنسانية تعلي من قدر الإنسان، وتسلط الأضواء على آثاره في الحياة دون أن يخل ذلك بالتسليم بالقوانين الموضوعية في الطبيعة، بل في الاتجاه الذي يرى في نمو الوعي الإنساني بهذه القوانين الموضوعية، السبيل لإحكام سيطرة الإنسان عليها مما يسهل عليه عملية السيطرة على الطبيعة وتسخيرها أكثر فأكثر لأغراضه في هذه الحياة.
فإذا ما وجدنا في النظريات التي اشتملت هذه الرسائل وانتصرت لها حديثا طويلا وحججا وبراهين تنتصر لهذا الموقف الفكري وتجاهد كي تثبت أن كل ما يحدث بيد الإنسان وفي إطار حياته إنما هو من صنعه وفعله وخلقه وإبداعه.
وكان من حقنا أن نرى في هذا الفكر خير جذور وأفضل أصول لفكرنا المعاصر والمستنير الذي نؤمن به ونجاهد لإشاعته في مجتمعنا الحديث.
وذلك أن المستوى الذي طرح به الإمام يحيى بن الحسين هذه القضية، قد تجاوز تلك الصياغات النظرية التي حاول أصحابها التقليل من حرية الإنسان وصلاحيته في خلق حضارته وصنع حياته وتاريخه، وذلك عندما حدد أن المصطلح الذي يجب أن يطلق على (فعل الإنسان) ليس هو مصطلح (الفعل) و(الصنع) فقط وإنما هو مصطلح الخلق بمعنى (التقدير) و(التخطيط) السابق للإبداع ثم الإبداع على النحو الذي يحقق هذا (التقدير) و(التخطيط).
وعندما حكم بأن أفعال الإنسان إنما هي حقائق موضوعية وأشياء وليست مجرد تصورات ذهنية لفعل لم يقم به الإنسان، فهو عندما يسأل عن الأعمال التي عمل بها بنو آدم: (أشيء هي؟ أم ليست شيئا؟)، يجيب قائلا: (إنها شيء وأشياء).
Shafi 43