قال غريب: «إني قد جئت ألتمس منك أن تسمح بابنتك سعدى لأخي سالم أغا البطل الصنديد والشهم الغيور، وإذا كنت لا تعرفه فإني أخبرك أنه ممن خصهم الله بالشهامة والنخوة، ولعل إبراهيم باشا يكون قد أخبرك عنه بما فيه الكفاية، وما قصدنا بهذا الطلب إلا التشرف بالقرب من سيادتكم، فإن ابنتكم سعدى جوهرة ثمينة لا مثيل لها، ونحن نعلم أنها تعز على كثيرين غيرنا، ولكن ثقتنا في لطفكم ومراعاتكم لخاطرنا، تؤكد لنا أنكم لا تضنون بهذه المكرمة.»
فذهل سالم أغا لما قاله غريب، لعلمه أن مسألة خطبته لم يتحدث بها أحد غير إبراهيم باشا، ولم يعلم بها إلا الأمير سعيد وحده، ولم يكن الأمير سعيد أقل ذهولا؛ لعلمه أن غريبا كان ناقما على سالم أغا من أجل تلك الخطبة، فوقع الاثنان في حيرة. وشعر غريب بذلك فابتدرهما بالكلام قائلا: «لا تعجبا من توسطي في هذا الأمر، فإن الأخ يجب أن يساعد أخاه في مثل هذه المهمة. وأنا أعتبر نفسي سعيدا إذا تم هذا الأمر على يدي.»
ثم خشي غريب أن يتنازل له سالم عن الفتاة، إذا عرف الحقيقة فطلب الانفراد بالأمير سعيد، فلما خلا به قال له: اعلم يا جناب الأمير أني كنت عازما على الاقتران بكريمتكم سعدى، وكنت أنتظر تلك السعادة بفروغ صبر، حتى إني حينما علمت أن غيري يريدها، تملكتني الغيرة وروح الانتقام، وفكرت في التخلص منه بأية وسيلة، ولكنني حينما عرفت أن المتقدم لخطبتها هو سالم أغا، أخي الذي أنقذني من الموت وأظهر من الشهامة ما لا أنساه مدى العمر، وطالما كنت أتمنى أن أكافئه على جميله، نعم، حين عرفت أنه هو الذي يرغب في الاقتران بكريمتكم تغلبت على عواطفي، وجئت برفقته لأساعده فيما يريد وهو لا يعلم بما جرى، فهل لك أن توافقني على خطبتها إليه، وإن يكن ذلك مخالفا لتقاليد الأمراء من حفظ الزواج في أسرهم لأبنائها؟
فتعجب الأمير سعيد من هذا الحديث، وقال لغريب: «الحق أني لم أشاهد مثل هذه الشهامة قط، هكذا تكون الرجال، وإني طوع أوامرك، لكنني كنت حدثت ابنتي بهذا الأمر الآن، فرأيتها تميل إليك بكل عواطفها، وقد قصت علي ما جرى لها معك، يوم أحاط بك أولئك الفرسان ونجوت منهم، وأتيت إلى هذا البيت فرأت منك لطفا وفضلا زادا إعجابها بك، وأخشى أنها لا توافق على غيرك عن رضا.»
فقال غريب: «إني شاكر لها محبتها لي، وأؤكد لك أن عندي أضعاف ما عندها من التعلق بي ، ولذلك كنت قد صممت على طلبها منك، وقد صبرت على ما في قلبي مدة طويلة كما علمت، ولكن الأقدار لم تشأ أن تحقق أمنيتي؛ ولذلك فأنا من هذه الساعة أعتبرها شقيقة لي، وأحبها محبة الأخ لأخته، وأرجو أن تلح عليها في قبول سالم أغا، فإنه من الرجال الذين يعز مثالهم، وأؤكد لك أيضا أن أختي سعدى ستسر به، وتكون سعيدة بالعيش معه، زد على ذلك أنك تقول إن إبراهيم باشا طلب إليك تحقيق هذا الأمر، فبقبولك تكون قد عملت بأمره، واتقيت غائلة غضبه، فإنه رجل غضوب سريع الانتقام، وألتمس منك على كل حال ألا تدع سالما يعلم بسابق قصدي.»
فتقدم الأمير سعيد إلى غريب، وقبله قائلا: «لله درك أيها الشهم، فإني لم أشاهد طوال عمري مثل هذه الشهامة، وسأفعل كل ما تأمر به.»
فقال غريب: «أشكرك يا سيدي وأرجو أن تجيبني عن مسألة قد أشكلت علي، وكانت سعدى قد وعدتني بالإجابة عنها، ولعلك كنت تعلم بها فتجيبني عنها، وهي أني حين أردت أن أعرف من هو الفارس الذي خرج لمعاونتي على أولئك الفرسان، سألت سعدى، فقالت إنها ستجيبني على ذلك في فرصة أخرى.»
فتبسم الأمير سعيد، قائلا: «لا أخفي عليك أنها هي التي نادتك وحذرتك، ولما كنت أنت في تلك المعركة كانت هي تنظر إليك من إحدى النوافذ، فلما رأت ما أحدق بك من الخطر، ولما لم يكن في البيت من الرجال من تبعثه لإنقاذك، تزيت هي بزي الرجال، ونزلت بنفسها لتشجيعك، ولم ترد أن تقول لك ذلك حياء منها.»
فتعجب غريب لهذه الفتاة ولهذه الخصال النبيلة التي تتصف بها، وكيف أنها جمعت لطف النساء، وشجاعة الرجال وشهامتهم، وحدثته نفسه بالعودة إلى عزمه الأول من الاقتران بها، ثم تذكر صداقة سالم أغا وفضله عليه، فاستسهل كل صعب في سبيل مكافأته، وقال للأمير سعيد: «إنني شاكر لها، وقد رأيت أنها بذلك تليق أن تكون زوجة لصديقي سالم أغا.»
وكان سالم أغا قد ارتاب في أمر استدعاء غريب للأمير سعيد، وانفراده به مدة طويلة. وفيما هو مشغول الفكر بذلك دخل عليه الخادم بالقهوة فتناولها، وكان في أثناء ذلك ينظر إلى فرش تلك القاعة وأثاثها، غير أن فكره ظل مشتغلا بأمر غريب والأمير، ومن جملة ما تكهن به أن الأمير سعيدا من أقرباء غريب المقربين وقد اختليا يتباحثان في هذا الأمر جريا على تقاليدهما، فلما أتم شرب القهوة، أعاد الفنجان إلى الخادم، وسأله قائلا: هل الأمير غريب من أقارب سيادة الأمير؟
Shafi da ba'a sani ba