قالت جميلة: «عليك يا ولدي بتقوى الله، والاتكال عليه في السراء والضراء.» ثم مدت يدها إلى بطاقة صغيرة، كتبت فيها بضع كلمات ثم طوتها ودفعتها إليه قائلة: «خذ هذه البطاقة فقد كتبت لك فيها آية ذهبية، ولا تفتحها إلا وأنت في أشد الضيق.» فقبل البطاقة ووضعها في جيبه، واغرورقت عيناه بالدموع، ولكنه تجلد وأمسك نفسه، ولم يشأ أن يظهر الجبن لئلا ينتقد عليه. •••
وفي صباح الغد أمر الأمير بشير بالاستعداد للسفر، وأن يكون غريب في جملة المسافرين لأنه كان يحبه حبا عظيما، لما رأى فيه من نخوة الرجال، والشهامة، والهمة، والشجاعة، وذهب غريب لوداع والدته فقبلته وشجعته، ولكن قلبها كاد يقطر دما على فراقه.
فركب الجميع وساروا قاصدين إلى عكا، وفيما هم في الطريق لاقاهم فارس بيده كتاب سلمه إلى الأمير ففضه، فإذا هو من عزيز مصر إلى الأمير بشير يهدده ويتوعده بالعقاب الشديد، إذا كان لا يقدم إلى عكا لمعاونة ولده إبراهيم، ومن كلامه له:
إن ولدي إبراهيم كتب إلي أنه استدعاكم إلى صحراء عكا ولم تذهبوا، فإما أن تفعلوا، وإلا فإننا نهدم مساكنكم ونغرس في مكانها زيتونا.
فطوى الأمير الكتاب، وظل سائرا حتى بلغ صحراء عكا شمالي حيفا وجبل الكرمل حيث معسكر إبراهيم، فخرج لملاقاته الأميرالاي بعسكره وبعض ضباطه بالموسيقى وإطلاق البارود، وفي جملتهم مصطفى بربر وحنا بك البحري رئيس الكتبة، فدخلوا به المعسكر في موكب عظيم، وكان ذلك هو المكان الذي عسكر فيه بونابرت قبل ذلك الوقت بنحو ثلاث وثلاثين سنة، فنزل الأمير ومن معه في خيمة خاصة به قرب خيمة إبراهيم.
والي عكا
وكانت عكا محصنة تحصينا منيعا، وقد دافع عنها جندها دفاعا شديدا، حتى امتنعت على إبراهيم أكثر من خمسة أشهر، كانت الحرب في أثنائها سجالا.
وكان غريب يغتنم فرص الهدنة، ويذهب إلى تلك الأماكن للصيد والقنص، حتى كان يصل أحيانا إلى سهول شفا عمر، يصطاد من غزلانها وحجلاتها وغيرها من الطيور.
وكانت جنود إبراهيم باشا مدربة على النظام الحديث الذي وضعه بونابرت، وكان يخالطهم كثير من الأتراك والأرناءوط والمغاربة، من بقايا الجنود القديمة، وكان الضباط يخرجون في أوقات الهدنة للصيد والنزهة.
وفي صباح يوم من أيام شهر (ديسمبر) سنة 1831م، خرج غريب من خيمة الأمير بشير مبكرا، وكان البرد قارسا فالتف بثيابه وصعد إلى مكان عال، وأخذ يتأمل تلك الصحراء عند سفح ذلك الجبل، وقد أصبحت بعد أن تساقطت عليها الأمطار في الليل الغابر كأنها مغسولة، وقد صحا الجو وصفت السماء، وأشرقت الشمس على تلك الأنحاء فانعكست أشعتها على سطح البحر المتوسط فتلون سطحه ألوانا بديعة.
Shafi da ba'a sani ba