فقال سعيد: «إن سيدي هو ابن الأمير ود علي، وهو شاب يحب الفروسية، فلما سمع بأن الجنود المصرية تحارب في جهات الخرطوم، وأنهم قادمون إلى جهات شندي، أحب أن يذهب للانضمام إلى بعض القبائل هناك لينتقموا من إسماعيل باشا؛ لأنه قتل صديقا له في إحدى المواقع، ولا شك أن هذه الرغبة نتيجة لقلة التبصر وضحالة التفكير، وقد حاول والده مرارا إقناعه فلم يقتنع، حتى كان صباح أمس، إذ خرج ولم يعلم به أحد ولم يرجع بعد. فبعثني والده للتفتيش عنه، وأنا أظن أنه سار نحو أبي حمد قاصدا المتمة.»
فقال تيراب: «الأفضل إذن أن نتوجه توا إلى أبي حمد.» فقال سعيد: «هذا هو الأنسب على ما أظن.» وكان ذلك غاية ما يتمناه سعيد، وقد ابتكر تلك القصة لكي يسمع ذلك الرأي.
وبالاختصار انطلق الاثنان يجدان في السير، حتى وصلا بعد ثلاثة أيام إلى محطة مرات، وهي المحطة المتوسطة في ذلك العطمور، وفيها آبار من الماء ينزل إليها المسافرون للاستقاء وملء القرب لما بقي من الطريق إلى أبي حمد، فاستراحوا هناك، وأكلوا وشربوا وملئوا قربهم ثم ساروا. وبعد بضعة أيام وصلوا إلى محلة أبي حمد على الشاطئ الشرقي للنيل آخر ذلك العطمور.
فقال تيراب: «إننا لم نقف لابن سيدك على أثر، فهل تظن أنه سار إلى المتمة؟»
فقال سعيد: «يغلب على الظن أنه سار إلى هناك، وإلا لكان من المؤكد أن نلتقي به أو نسمع شيئا عن خبره، وعلى كل حال أرجو الآن أن تعود إلى والدك، وتقدم له عني وعن سيدي مزيد الشكر والثناء على معروفه، ومتى رجعت أنا إلى القبيلة فسأحيط سيدي الأمير الكبير علما بمعروفكم.»
فألح تيراب أن يرافق سعيدا إلى المتمة، فلم يقبل خوفا من انكشاف أمره .
فودعه تيراب وعاد بخادميه إلى أبيه، أما سعيد فإنه عبر النيل إلى البر الغربي، ولم يعد أمامه إلى المتمة إلا عطمور واحد لا بد أن يسير فيه مدة تعادل المدة التي استغرقها في عطمور أبي حمد، غير أن الماء هنا موجود في آبار على الطريق أكثر مما هو موجود هناك.
الملك النمر
ركب سعيد هجينه بعد أن ملأ قربتيه من ماء النيل، وسار قاصدا المتمة سيرا سريعا، وبعد مسيرة بضعة أيام وصل إلى آبار جكدول في منتصف ذلك الطريق تقريبا، وهي مكان جبلي فيه مجتمع من الماء الشتوي غزير، فشرب وسقى جمله وملأ قربتيه وبات هناك ليلة. وفي الصباح سار فمر بآبار أبي طليح بعد يومين. وفي اليوم الثالث أشرف على المتمة، وهي بلدة واقعة على ضفة النيل الغربية مقابل بلدة شندي، وكانت هذه أكثر عمرانا من تلك، وبينهما مجرى النيل.
فلما وصل إلى المدينة، دخل كأنه واحد من أهلها، وكان ذلك اليوم يوم الثلاثاء وهو يوم سوق المتمة، فوجد الناس مجتمعين في ساحة هناك يبيعون ويشترون ويتبادلون، فيهم الجزارون قد ذبحوا بقرة أو جملا علقوه في جذع شجرة بحبل، يبيعون من لحمه لمن يشاء بغير وزن ولا قياس، وفيهم حاملو التبغ السوداني واللبن والزيت والتمر وسائر لوازم البيوت. والعادة في تلك البلاد أنهم يجعلون لكل بلدة يومين في كل أسبوع، يقيمون فيهما سوقا عامة يأتي إليها أهل البلدة وما جاورها من القرى يبيعون ويشترون ويتقايضون - وكانت سوق المتمة في يومي الثلاثاء والجمعة - فالراعي يعطي الفلاح غنما ويأخذ بدلا منها حنطة أو تينا، ويعطي زبدا ويأخذ بدلا منها تمرا أو تبغا، والحائك يبادل بمنسوجاته التاجر القادم من المدن ومعه السكر والقهوة والأرز وما شاكل ذلك.
Shafi da ba'a sani ba