وإذا ألقى الإنسان نظرة على أوروبا بأجمعها يجدها لا تكف عن الاستعدادات الدائمة، ويجد شياطين سياستها يدفعون أبناء بلادهم للحروب الهائلة التي يشيب من هولها الولدان. وبناء على ما تقدم، فإن جميع تابعي تعليم ذاك الذي دعانا نحن الشياطين قتلة سفاكين لا يكفون برهة عن إقامة الاستعدادات لارتكاب جرائم القتل، أو بعبارة أوضح: إنهم جميعا أضحوا قتلة مجرمين يستحلون إهراق الدماء وقتل الأبرياء.
10
فقال بعلزبول: لقد أصبت كيد المكايد في أفعالك، فأبالغ في مدحك وثنائك. وأطرق برأسه إلى الأرض وافتكر مليا ثم قال: أمر واحد يحير أفكاري ويدهش إبصاري، وهو كيف أن الناس الأفاضل الأحرار الذين لم ينخدعوا بتلك الأوهام، ولم يؤثر خداعكم عليهم شيئا، لم يروا أن الكنيسة شوهت جوهر التعليم الحقيقي، فلم يقاوموها ولا عملوا لتطهير التعليم من تلك الأدران التي علقت به وصرفته عن معناه الحقيقي؟!
وما أنهى بعلزبول كلماته هذه حتى دنا منه شيطان أغبر اللون، وشح جسمه برداء يشبه البرنس الطويل، وله أذنان مستطيلتان، وجلس أمام رئيسه، ولكنه لم يجلس القرفصاء، بل جلس على العادة الشرقية، وهي أنه طوى رجليه تحته وأسند جسمه عليهما، وقال: أيها الرئيس الأعظم، إن أولئك العلماء ذوي الأبصار النيرة لا يستطيعون أن يفعلوا ما أشرت إليه.
فقال بعلزبول: ولم ذلك؟
فابتدأ الشيطان الأغبر في الكلام دون توقف وقال بلسان فصيح ونطق مليح ما يأتي: إنهم لا يستطيعون ذلك لأني أصرف أفكارهم عما يجب أن يعرفوه ويقدروا أن يتوصلوا إلى معرفته لو وجهوا أفكارهم إليه، ومع ذلك فإني أوجه أفكارهم إلى البحث في أمور لا لزوم لها، وليست معرفتها بالأمر المهم النافع لهم أو لغيرهم، وفوق هذا وذاك فإن تلك الأمور التي أوجه أفكارهم إليها مما يعسر الوقوف على حقيقتها؛ لأن لا حقيقة لها! والبحث في الأوهام يدعو إلى الضلال الدائم، ويقود الباحثين إلى اختلاق الخرافات والخزعبلات المبنية على أسباب واهية ضعيفة.
فقال بعلزبول: وكيف تفعل ذلك؟
أجاب: إني أفعل الآن ما فعلته منذ ألف عام ونيف، وزيادة للإيضاح أقول: إني أحرض الناس على أن أهم ما يتحتم عليهم معرفته هو: نسبة كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة إلى الآخر، وعلاقتهم مع بعضهم، وماهية الله ... وهلم جرا. وقد وقع تحريضي إياهم في نفوسهم موقع الاستحسان والأهمية، فتوغلوا في هذه الأبحاث واختلفوا بشأنها الاختلافات العديدة، وبرهنوا عليها بالآيات والعجائب، واشتد بينهم النزاع الذي قادهم إلى الغضب والشجار أولا، ثم إلى تقسيمهم فرقا فرقا ثانيا، ومن ذلك ظهرت الطوائف المسيحية المتعددة التي ما زالت ولن تزال متباغضة متنافرة، وتعد الواحدة الأخرى هالكة، حتى إن بعضها زاد في الغلو وحظر رؤساؤها أتباعهم من مخالطة أتباع الطوائف الأخرى وزيارة معابدهم ومطالعة كتبهم أو التزوج منهم.
وفوق ما ذكرت، فإن أبحاثهم في تلك الأمور التي أشرت إليها آنفا قد أشغلت أفكارهم وأبعدتهم عن تلك الحياة الجديدة، حياة الهناء والسعادة والطمأنينة حياة الراحة والسلام، تلك الحياة التي أرشدهم إليها معلمهم الأعظم الذي قضى على مملكتنا القضاء المبرم، وعلمهم التعاليم الواضحة التي لو ساروا بمقتضاها لبلغوا ميناء الراحة والخلاص وما رأينا واحدا منهم عاد إلينا، وما كنا رأينا مملكة جهنم عائدة إلى التجديد والاكتظاظ بالناس.
ثم استطرد الشيطان الأغبر الكلام وقال: ولما تمكنت من قيادة المتنورين والعقلاء منهم إلى تلك الأبحاث التي لم يتوصلوا للآن إلى حل رموزها وطلاسمها، حتى وما عادوا يفهمون ما يقولون ويكتبون؛ حينئذ أرشدت بعضهم إلى ضرورة شرح وتفسير كتابات ذلك الإنسان المدعو أرسطاطاليس، الذي ظهر في بلاد اليونان قبل ألف عام، الذي يسميه الناس فيلسوفا؛ لأن كتاباته حرية بالالتفات والاعتبار. وأرشدت البعض الآخر منهم إلى أن أهم ما ينبغي أن يوجهوا التفاتهم إليه هو وجود الحجر الذي بواسطته يمكن صنع الذهب وإيجاد إكسير يشفي جميع الأمراض والعلل ويمنع الموت عن الناس. وقد جازت مكايدي عليهم حتى إن جميع علمائهم وأصحاب الأفكار الفياضة منهم وجهوا كل قواهم العقلية إلى هذه الأمور.
Shafi da ba'a sani ba